اشتراكية دون وفرة: سيناريو أناركي للثورة البلشفية
هذا الموضوع ضمن ملف «أحمر باهت: مئة عام على الثورة الشيوعية». اقرأ موضوعات أخرى ضمن الملف من هنا، وشارك في الكتابة من هنا.
انفجرت ينابيع الحلم والثورة في أكتوبر منذ مئة عام، في 1917، انطلقت من روسيا لتغمر وجه الأرض القبيح المليء بالشرور.
لكن سرعان ما انحصر فيضانها حتى أسفر وجه الأرض عن نفس القبح والشرور، بل يبدو الآن أكثر ركودًا وعفنًا عن ما قبل، ولا يكشف سطحها الهادئ المستسلم في يأس، بعد انحصار المد، عن ما يمكن أن يتكرر مرة أخرى، فربما تكون الينابيع قد جفت إلى الأبد، وربما تمور بالغضب الموشك على الانفجار، فهل تكرر ما فعلته منذ قرن، أم أنها كانت مجرد بارقة أمل وحيدة ونادرة في تاريخ أسود للبشر ولن تتكرر؟
الثورة كانت متوقَّعة في أي لحظة قبل أن تحدث، وكثيرون كتبوا سيناريوهات لها، لكن التاريخ لم يكتب التحقق سوى لسيناريو واحد، وهو ما كان مقدرًا له أن يفشل حسبما كتب الآخرون. نعم، سيناريو آخر للثورة كان يمكن أن ينجح، لكن ضربات القدر لم تمنح فرصة سوى للبلاشفة.
أفكار للمراجعة
ربما ستكون أفكار هذا الموضوع مخالفة لأفكار أخرى ظللت أحملها لفترات طويلة، فهكذا هي الحقيقة دائمًا صعبة المنال، تتلاعب بنا أوجهها المتعارضة ومظاهرها المتناقضة أحيانًا. وقد ظلت الإجابة عن طبيعة بناء الضوء، وهل هو موجي أم جسيمي، محل خلاف بين علماء الفيزياء على مدى ثلاثة قرون، حتى حسم آينشتاين النزاع باكتشاف أن للضوء كلتا الطبيعتين في نفس الوقت، وأن كل فريق كان يركز بصره على طبيعة دون الأخرى، فيرى وجهًا من الحقيقة دون الآخر.
أحد تلك الأفكار هي أنه عند عجز أو ضعف البرجوازية عن أداء مهامها التاريخية، وعلى رأسها تطوير قوى الإنتاج، أو عند وقوع هذه البرجوازية في أزمة تهدد وجودها ذاته، فإن الدولة تتدخل بطرق متباينة، لتؤدي بعض المهام أو تحل الأزمة.
أشكال تدخل الدولة ذات طبيعة مؤقتة، أو هي مرحلة انتقالية بين مرحلتين في إطار النمو الرأسمالي، وغالبًا ما ينتهي شكل التدخل من خلال نفس البيروقراطية التي حلت محل البرجوازية، فنجد قطاعًا منها هو الذي يقود عملية التحول إلى الخصخصة وانتزاع المكاسب الاجتماعية من الطبقات الشعبية، مثلما فعل غورباتشوف في الاتحاد السوفييتي، والسادات في مصر، ودينغ شياو بينغ في الصين.
الفكرة الأخرى أن ظروف الإنتاج الرأسمالي مع نهاية القرن العشرين تجاوزت أُطُر الدولة القومية، ما ساعد على زوال أشكال تدخل الدولة (الاشتراكية) كافة، باعتبار أنها أشكال تجاوزها التاريخ، وإلا كان هذا السقوط المدوي لمعظم هذه الأشكال، وتأزم بعضها، والتحول الجوهري لبعضها الآخر رغم استمرارها في رفع نفس الشعارات القديمة، هو على سبيل القدر المأساوي غير المفسَّر.
هل يسير التاريخ وفق قوانين موضوعية، أم وفق عبث لا ضابط له ولا رابط، أم من خلال التآمر الخياني؟
هذان الفكرتان كانت نتيجتهما المنطقية أن الاشتراكية الحقيقية هي إمكانية موضوعية، لا تتحقق سوى على أساس مستوى عالٍ من تطور قُوى الإنتاج، وتحقق وفرة كافية لتوزيعها على الناس، وأن أي محاولة لإقامة الاشتراكية على بنية تخلِّف محاولة خيالية ستنتهي إلى شكل من المجتمع لا هو اشتراكي ولا رأسمالي.
اشتراكية دون وفرة
هل ما استنتجته كان صحيحًا على إطلاقه؟ ما صحة الأفكار الاشتراكية التي تقول بأن العالم الآن (ومنذ القرن التاسع عشر) أصبح يُنتج ما يكفي احتياجات كل البشر؟
أنا أعتبر هذا مجرد نكتة، لأن العالم دائمًا وأبدًا، باستثناء فترات الكوارث الطبيعية، كان يُنتج ما يكفي احتياجات كل البشر في هذا الوقت أو ذاك، بل كان دائمًا يُنتج فائضًا، بدليل النمو المستمر في نسبة الفئات غير المنتِجة للمنتجات المادية: القائمون بالأعمال الذهنية، الذين كانوا دائمًا يحصلون على احتياجاتهم.
الفكرة الأغرب هي القائلة بأن للبشر احتياجات ضرورية محددة، فالاحتياجات البشرية الضرورية تتزايد باستمرار، ويجد الناس أنفسهم مدفوعين إلى التطور وزيادة الإنتاج لتلبية هذا التزايد.
الفكرة الغريبة الثالثة هي حكاية أن المبدَّد من الإنتاج حاليًّا أو في عصر الرأسمالية يكفي لسد حاجة الفقراء، فهذه الظاهرة قديمة جدًّا وبدأت منذ فجر التاريخ المكتوب، فكانت هناك دائمًا مصروفات عسكرية وأمنية، خصوصًا مع نشوء الدولة، وحصل تبديد لقوة العمل في إنتاج أشياء تافهة، مثل الأهرامات، ناهيك بما كانت تخربه الحروب والصراعات الاجتماعية.
الشيوعية كانت ولا تزال إمكانية كامنة في الواقع، تعوقها فقط مصالح وقوى اجتماعية معادية، ويعوقها الوعي الاجتماعي الذي لا يتصورها.
هل تضخُّم الإنفاق العسكري للاتحاد السوفييتي السابق وتكثيف موارده الطبيعية والبشرية للإنتاج العسكري، حتى وصل به الحال إلى امتلاك أسلحة تدمر العالم عدة مرات، غير ما أنفقه على برنامج الفضاء، كان يعنى أنه عانى مشكلة ضعف في الإنتاج وتدهور لقوى الإنتاج وندرة، بما لا يتناسب وإقامة الشيوعية؟
تلك الندرة التي فسروا بها طوابير البشر على أبواب المحلات، المحرومين عن عمد لتوفير احتياجاتهم الأساسية.
هل يفسر ضعف الإنتاج ندرة الطعام على موائد الناس، فيما تتوفر القنابل في معسكرات الجيش، مما أنعش السوق السوداء وأعمال المافيا؟ أم أن المسألة في النهب الطبقي، وسوء إدارة الموارد والتوزيع، والحرمان المفتعل الذي عاناه الناس، كي تستمر عبوديتهم المأجورة.
معنى هذ الكلام سيكون نسف منطقية وعلمية تطور المجتمعات وتسلسل مراحلها وفق تطور قوى الإنتاج حسب الرؤية الماركسية، وأن الشيوعية كانت ولا تزال إمكانية كامنة في الواقع، تعوقها فقط مصالح وقوى اجتماعية معادية، ويعوقها الوعي الاجتماعي الذي لا يتصورها، ولا يرى إمكانياتها، ولا يتحمس لها بشكل كافٍ، إمكانية غير مشروطة لا بوفرة في الإنتاج ولا بمستوى معين لتطور قوى الإنتاج، ولا بالقضاء على الندرة المفتعلة غالبًا، ولا بزيادة الإنتاجية التى يتحججون بها لعدم تحققها.
الدليل الأهم على ذلك أن الشيوعية في شكلها البدائي ميزت المجتمعات البشرية في العصور الحجرية، حين كان الإنتاج دون فائض والإنتاجية ضعيفة من اليد إلى الفم، وأن الانقلاب الطبقي والسلطوي في حياة البشر حدث بمجرد تزايد القدرة الإنتاجية ونشوء الفائض، فاستولت عليه قلة وحرمت الغالبية منه كي تجبرها على قبول العبودية، وليس أبدًا بسبب ضعف القدرة الإنتاجية، وهو ما حدث تمامًا في التجربة السوفييتية وشبيهتها.
يفسر «بيتر كروبوتكين»، أحد أهم المفكرين الأناركيين، فشل كل الثورات في العصر الحديث بأنها ركزت على تحقيق كل ما بعد الطعام والسكن والملابس من احتياجات إنسانية مُلحة، وأهملت توفيرها للناس، فانصرف الجوعى والعرايا والمشردين عن الثورة ورحبوا بالثورة المضادة، وتركوا الثرثرة للسياسيين والحالمين الشبعى.
من هنا، رأى كروبوتكين أن توفير الطعام والملابس والمساكن وغيرها من الاحتياجات الضرورية مجانًا للجميع، كخطوة افتتاحية، ضرورةً لنجاح الثورة، ويأتي بعدها الحديث عن أي شيء آخر، ولذلك يبدأ سيناريو الثورة في كتابه «الاستيلاء على الخبز» بإسقاط حقوق الملكية الخاصة ومصادرة وسائل الإنتاج والاستهلاك لصالح الشعب بواسطة الشعب، وبدء توزيع الاحتياجات مجانًا على كل السكان عبر لجان شعبية تطوعية عفوية في كل شارع وحي ومدينة.
هذا هو شرط نجاح الثورة الاجتماعية الذي يشرحه كتاب صدر قبل الثورة، ولم يستجب لنصائحه البلاشفة.
موجةٌ بحجم تلك الموجة الثورية، ودولةٌ بحجم الاتحاد السوفييتي ،لم تستطع فرض رؤيتها الاقتصادية. وبغض النظر عن مساوئ تلك التجربة، فإنها تشير بوضوح إلى أن تحقيق انتقال جماعي كامل للكوكب إلى اقتصاد جديد طلب غير واقعي.
هذا الفشل المدوي للبلاشفة ونتائجه الكارثية أفقد الاشتراكية والشيوعية الجاذبية الجماهيرية، فلم تتحول اشتراكية الدولة البيروقراطية إلى الشيوعية بعد التخلص من الجوانب البيروقراطية والسلطوية والبرجوازية والفاسدة فيها، كما كانت الخطة، بل ارتدت بسهولة إلى رأسمالية متوحشة مافياوية، وديمقراطية تمثيلية، وأحيانًا سلطوية، وأحيانًا أخرى فاشية قومية، وترك الشعب ملكيته العامة التي صنعتها أجيال من آبائه وأجداده بتضحيات أسطورية، وبثمن فادح، تضيع من بين يديه بسهولة، وأحيانًا وسط الترحيب وصرخات الفرح البلهاء، ودون مقاومة تُذكر، لتتحول إلى مِلكية خاصة لحفنة من اللصوص.
تحولت التعاونيات إلى شركات رأسمالية، بعد أن باع الناس أسهمهم فيها مقابل صناديق الفودكا، ثم سقطوا في الحرمان من الحقوق التي كانت تمنحها لهم الدولة في ما سبق.
أما في الصين، وتحت إشراف الحزب الشيوعي، فقد فُتحت الأبواب للاستثمارات الرأسمالية، لتعيد قصة الثورة الصناعية المريرة بكل مآسيها التي ذاقتها الطبقة العاملة الإنجليزية.
أطفال وبالغون
يطلق الأناركيون غير المتأثرين بالماركسية على الأناركية المتأثرة بالماركسية لقب «أطفال لينين»، لأنه وصف شيوعيتهم اليسارية بأنها لعب أطفال.
لا أعتقد أن نزعات التفرد والتميز والتنافس هي المشكلة الوحيدة التي تقف حجر عثرة في طريق تحقق الشيوعية واقعيًّا.
المشكلة الأخطر أن البشر، مهما بلغ ذكاؤهم وثقافتهم، محكومون ومدفوعون بغرائزهم وعواطفهم الحيوانية الأقوى من عقولهم البشرية. وفي حمأة الحماس، ينساقون أحيانًا ليدوسوا في طريقهم كل ما يملكونه من ذكاء وثقافة ومعرفة وحكمة. وهكذا، انجرَّ البشر طَوَال التاريخ وراء كل أنواع الدجالين، من الساسة والعسكر ورجال الدين والإعلاميين والفنانين والأدباء والكتاب، الذين سحبوهم من بين أفخاذهم، أو من بطونهم الجائعة، وعواطفهم الساذجة، وأوهامهم العبيطة.
يطلق بعض الأناركيين غير المتأثرين بالماركسية على التيارات الأناركية المتأثرة بالماركسية لقب «أطفال لينين»، لأنه سفَّه أسلافهم التاريخيين، ووصف شيوعيتهم اليسارية بأنها لعب أطفال، لكن التجربة التاريخية في هذه الحالة أثبتت أنه أحيانًا ما يكون لعب الأطفال أكثر حكمةً وصوابًا من عمل الراشدين.
في مارس 1921، طالبت المعارضة العمالية بأن يكون الإنتاج والخدمات تحت إدارة النقابات العمالية ومجالس العمال، إلا أن لينين نعت الاقتراح، في تعبير يليق ببابا الفاتيكان، بأنه «انحراف نقابي أناركي واضح وجلي»، وذلك في التقرير الذي قدَّمه أمام المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي البلشفي لروسيا، وطرح في مقابل هذا نموذجًا لدولة تتجاوز مهامها السيادية التقليدية إلى إدارة مجمل شؤون المجتمع في الإنتاج والخدمات، مأخوذًا ومنبهرًا بنموذج إدارة جهاز الدولة الألماني لمرفق البريد.
لكن اقتراح لينين «البالغ»، الذي أخذ فرصته الكاملة في التطبيق، انتهى إلى أن يتحول كبار العاملين في الجهاز البيروقراطي للدولة إلى طبقة منفصلة عن الطبقة العاملة، طبقة مثقلة بالامتيازات ومحصنة ضد النقد، وأتاحت لها سلطاتها الكلية القدرة، كاملة الجبروت، أن تفسد دون حسيب وتخرب دون رقيب، وانتهى الأمر بها أن تدمر دولتها بنفسها، وتهدي بسهولة معظم ثروات الاتحاد السوفييتي، التي بُنيت بكم هائل من التضحيات عبر 80 عامًا، إلى حفنة من اللصوص.
لم يُبدِ العمال أي دفاع عن ما شيدوه بالدم والعرق والحرمان، لأنهم في الحقيقة لم يشعروا يومًا أنهم مالكون لكل تلك الثروة، فقد كان تخطيط الدولة العقلاني جدًّا للإنتاج والاستهلاك يعني تكديس السلاح وغزو الفضاء، وفي نفس الوقت حرمان الناس من احتياجاتهم الاستهلاكية البسيطة.
أما ما اقترحه «الأطفال» ولم يجد فرصة للتطبيق، فكان يعني ببساطة أن يتحرر العمال فعليًّا من عبودية العمل المأجور التي استمرت لدى الدولة كما كانت لدى الرأسماليين، كما استمر انفصالهم عن وسائل الإنتاج، وعن ما ينتجوه حين كانوا في الوضع الذي ثاروا عليه.
كان الأخذ بكلام الأطفال يعني عدم إتاحة الفرصة للفساد، ولتنامي الثروات من الاقتصاد السري، طالما ظلت في أيدي العمال أنفسهم إدارة ملكيتهم، وما كان يمكن أن يسلب منهم أحد ما بنوه وما تحت سيطرتهم بالفعل، بمثل هذه البساطة والسهولة.
أتاح الاستهلاك الفردي انتعاش ثقافة الاستهلاك فوقع الكثير تحت تأثير الإعلانات الاستهلاكية للكوكاكولا والماكدونالدز.
فضلًا عن أنهم في النهاية كانوا سينتجون ما يحتاجونه فعلًا من احتياجات استعمالية، دون إهدار للإمكانيات والموارد وجهودهم الهائلة في ما لا طائل من ورائه، وبالتالي ما كان يمكن أن يُفقد البشر فرصتهم التاريخية للتحرر من القهر والاستغلال، التي قد لا تتكرر في المدى المنظور بسبب هذا الفشل المروع، برغم ما يمثله الوضع الحالي من تهديدات لاستمرار البشر أنفسهم في الوجود، وبرغم الأزمة التي تعتري الرأسمالية مؤخرًا، بعد عزوف الناس عن سماع من يطرحون بديلًا لهذا الوضع، الذين يقترحون تجاوز الرأسمالية فورًا.
شرحت «ألكسندرا كولونتاي»، وهي إحدى أبرز القيادات النسائية الشيوعية في الثورة، مميزات ظاهرة انتشرت عفويًّا مثلها مثل ظاهرة المجالس العمالية في بدايات الثورة: تحوُّل الأعمال المنزلية، من طهي وغسل ملابس ورعاية أطفال وخلافه، من أعمال تخص كل أسرة على حدة، وتُلقى على عاتق المرأة وحدها، إلى أنشطة جماعية يشترك في إنجازها عديد من الأسر والأفراد، ينتجون ويستهلكون ويعيشون معًا، ومدى انعكاس ذلك على تحرر المرأة من مشاق العمل المنزلي وسلبياته.
إلا أن فكرة أن ينتج الناس ويستهلكون ويعيشون في جماعات، يربط أفرادها نشاط اقتصادي وجيرة، تحمل من الإيجابيات ما هو أكثر من ذلك مما لا يتسع المجال لذكره، لكن الظاهرة انتهت بسحق المعارضة العمالية، وقمع عفوية تحرير الناس لأنفسهم، وتنظيم حياتهم بإرادتهم، وعدنا مجددًا إلى نموذج الأسرة التقليدية، واستمر التناقض بين الإنتاج الجماعي والاستهلاك الفردي، وهذا أدى إلى انتعاش الفردية واستمرار الأنانية في الناس، وتنافسهم البغيض على المناصب والمغانم، بدلًا من تضامنهم وتعاونهم معًا في مواجهة الحياة، وهذا أدى إلى فساد بعضهم ممَّن أتيح له فرص الفساد.
أتاح الاستهلاك الفردي انتعاش ثقافة الاستهلاك بين الأفراد، وكانت النتيجة أن وقع كثير منهم تحت تأثير الإعلانات الاستهلاكية للكوكاكولا والماكدونالدز، وأوهام التطلعات الاستهلاكية في الغرب الرأسمالي، مما ساعد على سهولة الانهيار، الذي ما أن وقع حتى تورط عشرات الآلاف في مافيا الإتجار بالبشر، سواء كمجرمين أو ضحايا.
القومية
من بين عديد من الانتقادات التي وجههتها القيادة الماركسية «روزا لوكسموبرغ» إلى البلاشفة في كتابها عن تاريخ الثورة الروسية، كان موقفهم من القضية القومية التي تتعارض مع روح الثورة الأممية.
بُني الاتحاد السوفييتي على أنقاض الإمبراطورية الروسية، التي كانت تضم أكثر من 160 مجموعة إثنية وقومية، أكبرها الروس، الذين شكلوا نحو نصف السكان. بعض تلك المجموعات كان لا يتجاوز عدة آلاف، وكانت رؤى «الأطفال»، الذين عبرت عنهم لوكسمبورغ، أن تنتظم الأجهزة السياسية والأنشطة الاقتصادية والاجتماعية بشكل منفصل عن انتماءات الأفراد الإثنية والقومية، ويتمتع هؤلاء كأفراد في نفس الوقت بحقوق إنسانية متساوية، ويمكن لهم كجماعات الحفاظ على تراثهم الإثني والقومي عبر أنشطة ثقافية وتعليمية فقط.
لكن البالغين بقيادة لينين قرروا أن يمنحوا تلك المجموعات كيانات سياسية وإدارية داخل الدولة في شكل جمهوريات اتحادية وجمهوريات وأقاليم ذات حكم ذاتي داخل الجمهوريات الاتحادية.
كرَّس البالغون هيمنة الجمهورية الروسية داخل الاتحاد على الجمهوريات الأخرى، فاستمر وضع الإمبراطورية الروسية مع تغير في الشكل، مما أعطى الفرصة لتنامي النزاعات القومية والانفصالية بين شعوب الاتحاد، وكان نتيجة تبني الفكر القومي والطائفي أن تفكك الاتحاد السوفييتي وتشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا إلى كيانات قزمية بسهولة غير عادية، لا بد أن تستمر تبعيتها للكيانات الأكبر رغم الاستقلال المزعوم.
لو كانوا تبنوا «أفكار الأطفال» ما كان يمكن لهذا الانهيار أن يحدث، فثمانون عامًا من العيش والعمل معًا بين الأفراد دون اعتبار للاختلافات العرقية والثقافية والقومية بينهم كانت كفيلة بصهر تلك الجماعات القومية والإثنية معًا، مثلما انصهر المهاجرون الآتون من شتى بقاع العام في دول المهجر في العالم الجديد، رغم كل اختلافاتهم التي لا تعيرها دول المهجر اهتمامًا، كما لا تلتفت إليها المؤسسات الاقتصادية، وتظل الظاهرة القومية متجسدة ومحصورة في أنشطة ثقافية واجتماعية تمارسها مؤسسات المجتمع المدني للجماعات القومية والإثنية المختلفة.
أي بديل الديمقراطية التمثيلية؟
كتب كروبوتكين في «الاستيلاء على الخبز» أن الاشتراكيين (ومنهم البلاشفة) ارتكبوا خطأً مزدوجًا في خططهم لإعادة بناء المجتمع. فبينما يتحدثون عن إلغاء حكم الرأسمالية، فإنهم ينوون رغم ذلك الإبقاء على اثنتين من المؤسسات الأساسية للغاية لهذا الحكم: الحكومة التمثيلية ونظام الأجور.
اقترح كروبوتكين نظامًا سياسيًّا تنسق فيه الجماعات في ما بينها عبر مندوبين ملزَمين بإرادة ناخبيهم، لا يحق لهم أخذ أي قرارات فردية.
فنَّد كروبوتكين آراء من يرون الأناركية ساذجة وخيالية، ويرون في الوقت نفسه أن قمة الفطنة والواقعية أن ينتخب غالبية الناس شخصًا واحدًا كي يأخذ قرارات تؤثر في حياة ومستقبل ملايين البشر دون أخذ رأي هؤلاء البشر، باعتباره عين العقل والحكمة والذكاء، وأن تختار الغالبية بضعة أشخاص لتشريع ما يحكمهم من قوانين دون أخذ رأيهم في هذه القوانين التي تؤثر في حياتهم.
ولأن لكل نظام اقتصادي اجتماعي نظام سياسي يتواءم معه، ففي ظل الأناركية الشيوعية لا بد أن ينتظم الناس اجتماعيًّا وفق اتفاقات وتعاقدات جماعية حرة توافقية بين الأفراد في جماعاتهم التعاونية، وبين جماعاتهم التعاونية الصغيرة في اتحاداتها، لتلبية المصالح المشتركة.
تتحد هذه الجماعات وتنفصل وتنسق في ما بينها عبر مندوبين ملزَمين بإرادة ناخبيهم، لا يحق لهم الانفراد بأخذ أي قرارات دون الرجوع إليهم، وباستطاعة الناخبين سحب التفويض منهم في أي لحظة. هذا هو النظام السياسي الذي يقترحه كروبوتكين بعد إلغاء الملكية الخاصة.
بدأت فكرة التمثيل التفويضي المشروط بإرادة الناخبين كما طرحته كوميونة باريس 1871 تأخذ شكلها العملي عفويًّا، بظهور مجالس العمال والفلاحين والجنود (السوفييتات) في ثورات 1905 ثم في1917، التي سيطر عليها البلاشفة، بعد ثورة فبراير، وقبيل ثورة أكتوبر بشهور، وقد منحوها كل السلطات رسميًّا، بعد أن رفعوا شعار «كل السلطة للسوفييتات، لا للحزب ولا البرلمانات»، رغم أنهم احتفظوا لأنفسهم عمليًّا بالسلطة الفعلية.
كان البلاشفة هم من يقدمون المرشحين الوحيدين لعضويتها من بينهم، والمطلوب فقط تصديق الناخبين على هؤلاء المرشحين، مما كان يعني خيانة أصلية حتى لمبدأ التمثيل القاصر الذي تبنوه نظريًّا، وتحول في التطبيق على أيديهم إلى شكل فج من أشكال الديكتاتورية، ففي مثل هذه النظم البيروقراطية يسهل جدًّا للانتهازيين والوصوليين والأدعياء تبوُّء كل المناصب والصعود بسهولة إلى أعلى مراتب السلطة.
بينما يسهل في المقابل في مثل هذا النظام البيروقراطي أن يرسَل المستقيمون والمخلصون إلى السجون والمنافي، فقد أعدم ستالين تقريبًا كل أعضاء اللجنة المركزية للحزب التي قادت الثورة، ما عدا هو ولينين الذي كان قد توفي بالفعل، واغتال تروتسكي المنفي، وكانت تلك هي المأساة.
إلى كلٍّ حسب حاجته
كتب كروبوتكين أن معظم الاشتراكيين، ومنهم البلاشفة، أوفياء للتمييز بين العامل المؤهَّل والعامل البسيط، الذي أقره خبراء الاقتصاد من الطبقة البرجوازية (ومن بينهم ماركس).
يقولون لنا، علاوةً على ذلك، إن العامل المؤهَّل أو المهني يجب أن تُدفع له كمية معينة أكثر من العامل البسيط. وهكذا، فعمل ساعة من الطبيب سيتعين النظر إليه بما يعادل عمل ساعتين أو ثلاث ساعات للممرضة في المستشفى، أو لثلاث ساعات عمل من الحفار. ويقولون إن «العامل المهني أو المؤهَّل سيكون من مضاعفات العامل البسيط، لأن هذا النوع من العمل يحتاج إلى التدرب لفترة أكثر طولًا».
الفرق الضئيل بين الحد الأدنى والحد الأقصى للأجور، الذي أقرته الثورة البلشفية، رجع كما كان بسبب رفض رجال الدولة الحصول على أجر العامل العادي.
جعلت الثورة البلشفية في روسيا الفارق بين الحد الأدنى للأجر والحد الأقصى واحد إلى ثلاثة. ووفقًا لما قررته كوميونة باريس من حصول المسؤولين التنفيذيين المنتَخبين على أجر الموظف العادي، فقد طبَّق النظام السوفييتي هذا المبدأ في البداية قبل الإفساد البيروقراطي.
قد يهمك أيضًا: كيف تنشأ الكوميونات وتندثر؟
اتبعت البلشفية المبدأ الجمعي (الاشتراكي) في التوزيع وفق العمل، وهو مبدأ يعيد إنتاج الرأسمالية والطبقية والسلطوية والملكية الخاصة، ويختلف جذريًّا عن المبدأ الشيوعي في التوزيع المجاني وفق الحاجة.
لكن حتى هذا الفارق الضئيل بين الحد الأدنى والحد الأقصى الذي أقرته الثورة البلشفية رجع كما كان بسرعة، ثم زادت الفجوة بين الأجور بمرور الوقت. رفضه رجال الدولة الذين كانوا يحصلون على أجر العامل العادي، ورفضه المهنيون والعمال المهرة لاقتراب مستوى معيشتهم من مستوى العمال العاديين. ما الذي أغضبهم في ذلك؟ وما الذى ضرَّهم أن يعيشوا مثل العمال العاديين؟ لا شيء سوى نزعات التمييز والتباهي المريض والبلاهة الإنسانية المعتادة.
الحقيقة الأخرى أن التوزيع الشيوعي وفق الحاجة لا يعني تساوي الناس في ما يحصلون عليه من احتياجات. ببساطة، لأن احتياجات البشر متنوعة ومتفاوتة ومتغيرة للغاية، وتكاد تكون فردية تمامًا. المهم هو عدم حرمان الناس من احتياجاتهم، وعدم حرمانهم من الحق في الرفاهية، فهناك من يشبع برغيف وهناك من يشبع بعشرة، ولا يمكن أن تساويهم في عدد الأرغفة وإلا حرمت بعضهم وأصبت آخرين بالتخمة. الأصح أن يحصل كل فرد على ما يُشبعه، وفي هذه الحالة لن يعترض أحد على ما يأخذه.
أكد كروبوتكين ضرورة زراعة المدن، وأن تُنتج غذاءها بنفسها بالصوب الزراعية وغيرها من الوسائل الحديثة في الزراعة، من أجل الاستكفاء الذاتي.
بناءً على الحفاظ على مبدأ الأجور، كان لا بد من الاستمرار في النظام النقدي حتى في الداخل، ومنه سيكون سهلًا جدًّا إحداث التراكم الرأسمالي من جرائم الفساد والتفاوتات في الدخول. استمر كذلك الاحتفاظ بالملكية الخاصة وحقوقها الثلاثة، التصرف والاستغلال والانتفاع، حتى ولو بشكل محدود، إلا أنها كانت الخميرة التي بها عادت الملكية الخاصة بعد السقوط قويةً وعفية.
في حين، في التصور الأناركي، كان يجب إسقاط كامل حقَّي التصرف والاستغلال والإبقاء فقط على حق الاستعمال والانتفاع، ليس فقط في ما يتعلق بوسائل الإنتاج كما كان الحال، بل في ما يتعلق بمواد الاستهلاك أيضًا، وبالطبع كان يمكن للتبادل الخارجي أن يحدث بالمقايضة وليس بالدولار، عملة التجارة الدولية التي تتمكن بها أمريكا من الإمساك برقاب الجميع، وتُخضع بها أكثر أعدائها جبرًا واضطرارًا.
أخيرًا، كيف نوفر الخبز للمدن حتى نضمن نجاح الثورة وعدم سقوطها في الردة، دون أن نكرر مأساة، بل قل جريمة، التجميع القسري في الريف في عشرينيات الاتحاد السوفييتي، التي أسفرت عن مجاعات مروعة في الريف والمدينة معًا؟
كان السيناريو المقترح من كروبوتكين في «الاستيلاء على الخبز»، تلافيًا للتجويع المتوقَّع من الريف للمدن، هو ضرورة زراعة المدن بأن تنتج غذاءها بنفسها، عن طريق الصوب الزراعية وغيرها من الوسائل الحديثة في الزراعة.
رأى الرجل أن يحدث تصنيع للريف ومديَنَة، بمدِّه بالاحتياجات الصناعية وأدوات الإنتاج التي يمكن أن توفرها له المدن ويفتقر إليها سكان الريف، وإنشاء الصناعات الضرورية هناك، مقابل أن يمنح سكان الريف المدن ما لديهم من مؤن غذائية يحتاجونها، في صفقات طوعية بينهم دون جبر أو إكراه كما فعل البلاشفة، وهو ما دفع الفلاحين إلى حرق محاصيلهم وحيواناتهم، فعانى سكان الريف والمدينة من الموت جوعًا.
هكذا أرى أن هزيمة الثورة لم تكن أبدًا قدرًا محتومًا كما كنت أتخيل، ولم يعد في الإمكان أن أتحدث بثقة مفرطة عن جريمة لم يرتكبها البلاشفة في الحقيقة، إن اعتبرناها جريمة، وهي حرق المراحل التاريخية والقفز على الواقع. جرائمهم غير ذلك بالقطع، بل إن سر فشلهم في الحقيقة، كما أراه الآن، هو عدم القفز بما يكفي من خطوات لتجاوز عفونة الواقع، ومن ثَمَّ السقوط في مستنقعه.
سامح عبود