راشيل كوري: «شهيدة» في فلسطين، مغدورة في أمريكا
في أحد أيام مارس 2003، وقفت المتطوعة الأمريكية ذات الـ23 عامًا، «راشيل كوري»، أمام جرافة إسرائيلية كانت في طريقها لهدم أحد المنازل في مدينة رفح بقطاع غزة. ربما ظنت أن ملامحها الأجنبية ستحميها، لكن الجرافة استمرت في التقدُّم ولم تفلح كوري في اعتراضها. دُهست الفتاة وانتهى طريقها، لكن طريق الهدم لم ينتهِ.
بعد 14 عامًا من الحادثة، ﻻ يضع والدا الفتاة، التي لم تعترف إسرائيل بمسؤوليتها عن مقتلها، آمالًا كبيرة على الإدارة الأمريكية الجديدة، بحسب مقال نُشر على موقع «Middle East Monitor». تقول والدتها، «سيندي كوري»، إنها قلقة من الدعم الذي تُبدي حكومتها رغبةً في تقديمه ﻷي قرار يصدر عن إسرائيل.
راشيل كوري: العدالة التي تتجاهلها إدارة ترامب
ربما ورثت الابنة مبادئ مساندة السلام وحقوق الإنسان عن والدتها، أو ربما العكس هو ما صار، احتاجت الأم أن تتبنى القضية التي ماتت من أجلها ابنتها، علَّها تريد أن تشعر أن روح صغيرتها ذهبت في سبيل هدفٍ ما، أو علَّها تريد أن تكمل طريقًا ضد الهدم. تطلب من حكومتها أن تخطو بحذر وأن تسمح لنفسها بالتعلُّم، وتقول: «نحن قلقون بشأن الفلسطينيين».
اقرأ أيضًا: المتعاطفون مع الفلسطينيين مُدانون في هوليوود
لم تُخفِ العائلة قلقها بشأن اختيار الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب المحامي المعروف بتأييده النشاط الاستيطاني، «ديفيد فريدمان»، سفيرًا للولايات المتحدة في إسرائيل. يقول الوالد، «كريغ كوري»: «منذ شهر أو أكثر، بات من الصعب الاعتقاد بأن حكومتنا ستنقذ أحدًا من الجنون».
يرى كريغ أن تقرير الأمم المتحدة الصادر هذا الأسبوع، والذي وصف إسرائيل بأنها تدير نظامًا «عنصريًّا»، يمكن أن يكون نقطة جيدة تبدأ منها إدارة ترامب التعلُّم، لكن يبدو أن العكس تمامًا قد حدث، إذ استنكر الأمين العام للأمم المتحدة، «أنطونيو غوتيريش»، التقرير وأعلن أنه كُتب دون علمه، وهو ما باركته الحكومة الأمريكية بعد أن هاجمت التقرير.
قد يعجبك أيضًا: كيف يمكن عزل الرئيس الأمريكي؟
ألم الفقد.. ألم غياب العدالة
لا يتوقع قادة الجيش الإسرائيلي أن يمثُلوا أمام محكمة في بلدهم.
معظم مَن يعرف راشيل كوري يتذكرها كنموذج للأمريكية التي آمنت بعكس ما تجعلك سياسة الولايات المتحدة الخارجية تعتقد أن الأمريكيين يشعرون به. وبينما يُسعِد والديها أن يتذكرها العالم بتلك الطريقة، إلا أن شعورهما بالفقد ما يزال «حاضرًا بقوة، وﻻ يزال يؤلمنا كل يوم».
في عام 2005، رفعت العائلة قضيةً في إسرائيل لكنها قوبِلت بالرفض، وكذلك قوبل الاستئناف في 2015، رغم وعد رئيس الوزراء الأسبق آرييل شارون بتحقيقٍ ذي مصداقية وشفافية.
«لن يفيدني على الإطلاق أن أزُجَّ بسائق الجرافة في السجن»، يقول كريغ إن السائق ما هو إلا أداة، تمامًا كالجرافة، وإنه بالكاد يتحمل مسؤوليةً أكبر قليلًا من المركبة التي دهست ابنته.
بالنسبة لكريغ، كشفت قضية كوري «دور المحاكم الإسرائيلية في دعم الاحتلال»، والمشاكل التي يعاني منها النظام القضائي، وكذلك طبيعة العلاقة بين الحكومة والجيش في الدولة العبرية. جندي سابق في الجيش الإسرائيلي أخبره بأن «قادة الجيش يعرفون أنهم غير قادرين على زيارة دول معينة في أوروبا كي لا يتعرضوا للمحاكمة، لكنهم لا يتوقعون أنهم سيضطرون أبدًا إلى المُثول أمام محكمة إسرائيلية».
يرى والد راشيل أن الجيش الإسرائيلي يَخْضَع لنظام سلطوي صارم يفتقر للشفافية، وينبغي تغييره، ويؤمن بأن لديه وزوجته فرصة لإحداث تحوُّلٍ في حياة الفلسطينيين، الذين قُتلت الفتاة في سبيل الدفاع عن أبسط حقوقهم في الحياة.
قد يهمك أيضًا: حقوق الإنسان تولد على شواطئ الكاريبي.. ماذا تعرف عن ثورة هايتي؟
كريغ وسيندي.. على خطى راشيل
عادةً يميل الناس إلى الانسحاب من العمل العام تحت وطأة الفاجعة الشخصية، لكن العكس حدث مع عائلة كوري. قالت راشيل قبلًا إنها لو عاشت في البوسنة أو رواندا أو أي مكان آخر، سيُصبح الموت غير المبرَّر واقعًا بالنسبة إليها وليس مجازًا كما يراه البعيدون عنه، وكذلك كان موتها واقعيًّا أكثر من أي شيء آخر بالنسبة لأبويها، ودافعًا لاستكمال قضيتها.
طَوَال ما يزيد على عقدٍ كامل، شغلت «معركة السلام» حياة الوالدين.
قبل وفاة راشيل، لم تكن المسألة بالنسبة إلى والديها أنهما غير مهتمَّيْن بالصراع العربي الإسرائيلي، بحسب تصريحات سيندي لصحيفة «الغارديان»، لكن «ربما كنا معزولين بعيدًا عن القضية. كنا نعرف عنها بالطريقة التي عرفها معظم الأمريكيين، عن طريق التقارير الإخبارية». تضيف الأم: «كان تعاطفنا مع الرواية الإسرائيلية اليهودية، ﻷن هذا ما نعرفه، (…) أما الرواية الفلسطينية فلم تكن موجودة بالنسبة إلينا على الإطلاق».
اقرأ أيضًا: كيف غيرت رحلة إلى الخليج أفكار أمريكي عن العرب؟
بعد مقتل ابنتهما، أنشأ الأبوان «مؤسسة راشيل كوري للسلام والعدالة»، لاستكمال مسيرة الفتاة ضد الهدم، وهي مؤسسة تحاول نشر ثقافة التعاون وتقبُّل الآخر، وترسيخ مبادئ العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان.
طَوَال ما يزيد على عقدٍ كامل، شغلت «معركة السلام» حياتهما. تعلما كيف يقودا الحملات الإعلامية، ويتعاملا مع الصحافة، ويتحديا السلطة، وأن يستغلا دعم حكومتهما كلما أمكن.
مع ذلك، ﻻ تنتظر الأم ختامًا للقصة، لكنها تحاول أن تستكمل السعي. تقول سيندي: «الخسارة أبدية، والفراغ مستديم، تشعر به في كل يوم من حياتك». تعرف أنها لن تتصالح يومًا مع ما حدث ﻻبنتها، وأنها تحتاج فقط لأخذ نفسٍ عميق ومواصلة السير إلى الخطوة التالية.
راشيل كوري.. ما قبل الجرافة
بالنسبة لطفلة نادت بإنقاذ آلاف الأشخاص من الموت جوعًا وهي في العاشرة، لم يكن ليبدو طبيعيًّا أن تقضي راشيل إجازاتها على شواطئ مدينة سياتل الساحلية القريبة من بلدتها كما يفعل أقرانها، بل انضمت خلال دراستها الجامعية إلى حركة طلابية تدعو للتضامن والسلام، ممَّا مهد طريقًا لسفرها إلى غزة.
قد يعجبك أيضًا: لماذا يتجه شباب اليهود في أمريكا إلى الأصولية؟
كانت كوري طفلةً نبيهةً أبهرت الجميع بفطنتها وإدراكها أمورًا تتجاوز سنها، وكبرت لتكون فتاة ذكية يتابع الملايين نشاطها ضد ممارسات إسرائيل اﻻستيطانية في فلسطين، لكن أحدًا لم يكن ليقدر على التنبؤ بمصيرها المأساوي، ولا كان أحد ليخمِّن أن موتها سيصير فاجعة دولية دفعت الفلسطينيين لمنحها لقب «الشهيدة»، ولا يزال كثير من الناس يذكرونها حتى بعد مرور 14 عامًا على مقتلها.
دهست الجرافة جسد راشيل وأطلقت روحَها أيقونةً لنبذ العنف، تحيا في قلوب والدَيْها والمناضلين باسم الحرية والسلام في كل مكان. تحوَّل الألم الذي أصابهما جرَّاء موتها إلى رغبة في إكمال رسالتها حتى النهاية، والوقوف في وجه سياسات الإدارة الأمريكية الجديدة، التي كانت كوري لترفضها بالتأكيد.
ترجمات