طموحات متعارضة: «عراك» ما بعد انتخابات العراق
وكأنها جاءت لتزيد العراقيين همًّا وحيرة، وتحول بلادهم إلى ساحة حرب جديدة بالوكالة بين القوى الإقليمية الساعية إلى فرض أجنداتها وتحقيق مصالحها في بلاد الرافدين.
«انتخابات لم ينجح أحد». هذا ما يمكن أن نلخص به العملية الانتخابية التي شهدها العراق خلال مايو 2018، تلك الانتخابات التي لاحقتها اتهامات التزوير وسوء الإدارة من قوى سياسية وقيادات حكومية، ووصل الأمر ببعضهم إلى المطالبة بإعادتها.
كانت مفوضية الانتخابات العراقية أعلنت فوز تحالف «سائرون»، المدعوم من رجل الدين مقتدى الصدر، بصدارة الانتخابات البرلمانية بعد أن حقق 54 مقعدًا، في حين جاء تحالف «الفتح» الذي يقوده هادي العامري، زعيم ميليشيا الحشد الشعبي المقرب من إيران، في المركز الثاني بـ47 مقعدًا، بينما حل تحالف النصر الذي يقوده حيدر العبادي، رئيس الوزراء المنتهية ولايته، ثالثًا بـ42 مقعدًا.
جاءت الانتخابات لتعمِّق الأزمة السياسية بعد أن فشلت كل الائتلافات في تحقيق أغلبية برلمانية تمكنها من تشكيل حكومة، لتبقي الحكومة القادمة رهينة المواءمات والحسابات السياسية لقوى وجماعات تلاحقها اتهامات بالارتباط بالدول الإقليمية أكثر من ارتباطها بالعمق العراقي.
في ظل هذه النتائج أصبح تشكيل الحكومة العراقية المقبلة يحتاج إلى تحالف من عدة ائتلافات يحوز على الأقل 165 مقعدًا في مجلس النواب، كحد أدنى لتكليف شخصية توافقية لتشكيل الحكومة.
أصبح «الكل بحاجة إلى الكل»، وهو أمر عظيم في بلد مثل العراق يعتمد نظامه السياسي على المحاصصة المذهبية والقومية. ففي العراق تُوَزَّع المناصب السياسية بحسب القوميات والمذاهب: يتولى الأكراد منصب رئيس الجمهورية، وهو منصب شرفي دون صلاحيات، وتؤول رئاسة الوزراء، الحاكم الفعلي للبلاد، إلى الشيعة، ورئاسة البرلمان إلى السنة.
يخشى العراقيون أن تتحول بلادهم إلى ساحة حرب جديدة بالوكالة بين إيران ذات النفوذ الواسع في العراق، وأمريكا الساعية إلى الوقوف في وجه هذا النفوذ، خصوصًا بعد أن بدأ الطرفان (واشنطن وطهران) اجتماعاتهما مع القوى السياسية الفائزة بالانتخابات لبحث تشكيل الحكومة العراقية، التي يُفترَض أنها شأن سيادي عراقي.
عراق ما بعد الانتخابات: مخاوف وتهديدات
أجواء المشاحنات التي شابت الانتخابات والتهديدات التي تلتها أثارت قلق كثير من العراقيين حول مستقبل بلادهم بعد انتخابات 2018، التي تُعد الأقل في نسبة التصويت منذ سقوط صدام حسين.
أثارت النتائج غضب بعض الكتل السياسية التي لم يحالفها التوفيق بشكل كبير.
عبَّر ، هوشيار زيباري، وزير الخارجية العراقي السابق، عن قلقه من تطورات الأوضاع وتنامي الخلافات في البلاد على خلفية الانتخابات.
يؤكد زيباري، وهو أحد المرشحين لتولي منصب الرئيس القادم للعراق، وجود «مشكلات حقيقية ونزاعات نامية في العراق بعد الانتخابات. نأمل أن تكون سلمية ودون عنف. البوادر غير مشجعة».
جاءت النتائج لتثير غضب بعض الكتل السياسية التي لم يحالفها التوفيق بشكل كبير، وطالب ائتلاف الوطنية، بقيادة رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي، بإعادة الانتخابات نتيجة ما شابها من تزوير وعمليات شراء أصوات، مع تشكيل حكومة تصريف أعمال إلى حين توافر الظروف الملائمة لإعادة إجراء الانتخابات.
مطلب علاوي قوبل برفض وتحذيرات من قوى حزبية عراقية أخرى، فقد حذر جميل المياحي، القيادي في تيار «الحكمة»، من أن عدم احترام النتائج يهدد بدخول العراق في دوامة من مشكلات سياسية وأمنية لا يتحملها أهله.
عراك كردي
كعادتهم دومًا، خاض الأكراد الانتخابات العراقية متشرذمين مختلفين في ما بينهم، فلم تجمعهم قائمة واحدة، ولم يوحدهم ائتلاف جامع، رغم أهمية الانتخابات بالنسبة إلى القضية الكردية، فهي أول استحقاق عراقي منذ استفتاء سبتمبر 2017 لبحث الاستقلال عن الحكومة المركزية في بغداد، وما تبعه من إجراءات عقابية من العراق ودول الجوار.
اقرأ أيضًا: لماذا يفشل الحلم الكردي كل مرة؟
لم يتوقف الخلاف الكردي على فكرة عدم التنسيق، بل تطور ليشمل مظاهرات وأجواء مسلحة احتجاجًا على نتائج الانتخابات، فقد شهدت مدينة السليمانية مواجهات بين حركة التغيير وحزب الاتحاد الوطني الذي كان يتزعمه الرئيس العراقي الراحل جلال طالباني، على خلفية اتهامات التغيير للاتحاد بتزوير الانتخابات في السليمانية.
وشهدت مدينة كركوك حصار بعض القوى الحزبية المسلحة لمقر مفوضية الانتخابات للمطالبة بإلغائها وإعادتها، احتجاجًا على تقدم حزب الاتحاد أيضًا، الذي يتهمه منافسوه الأكراد بتزوير الانتخابات.
بعيدًا عن الشقاق الكردي، حقق الحزب الديمقراطي الكردستاني مفاجأة كبرى، فقد احتل المركز الرابع على مستوى العراق، والأول على إقليم كردستان بـ25 مقعدًا.
الحزب الديمقراطي هو الكتلة الأكثر صلابة وتماسكًا في الأحزاب الكردية، لارتباطه بعائلة البارزاني التي ينظر إليها قطاع كبير من الأكراد على أنهم قادة النضال الكردي، بدايةً من الملا مصطفى برزاني رئيس أركان جمهورية مهاباد الكردية، الذي سلم الراية إلى نجله مسعود حامل لواء استفتاء كردستان، وأخيرًا نيجرفان برزاني رئيس وزراء الإقليم، الذي نجح بدبلوماسيته في تفادي تداعيات الاستفتاء وإعادة العلاقات إلى ما كانت عليه مع بغداد ودول الجوار.
عراق: البرلمان والحكومة
تشكَّل النظام السياسي بعد صدام بطريقة معقدة، تفرض تكوين تحالفات برلمانية لمنع عودة الديكتاتورية والتفرد بالحكم.
وفقًا للدستور العراقي، من المقرر أن يدعو الرئيس فؤاد معصوم البرلمان الجديد إلى الانعقاد خلال 15 يومًا من إعلان النتائج.
ينتخب المُشرِّعون رئيسًا جديدًا للبرلمان بأغلبية ثلثي النواب خلال 30 يومًا من انعقاد الجلسة الأولى، ونائبَيْن له بالأغلبية المطلقة في الجلسة الأولى. يكلف رئيس البرلمان مرشح الكتلة الأكبر في البرلمان بتشكيل الحكومة.
يكون أمام رئيس الوزراء المكلف 30 يومًا لتشكيل الحكومة وعرضها على البرلمان للموافقة عليها. ويتعين على البرلمان الموافقة على برنامج الحكومة، وعلى كل وزير على حدة، في تصويت منفصل بالأغلبية المطلقة.
إذا فشل رئيس الوزراء المكلف في تشكيل حكومة ائتلافية خلال 30 يومًا، أو رفض البرلمان الحكومة التي اقترحها رئيس الوزراء المكلف، يتعين على الرئيس تكليف مرشح آخر بتشكيل الحكومة خلال 15 يومًا.
تعقيد النظام الانتخابي العراقي
عقب كل انتخابات تشريعية تدخل الكتل الفائزة مفاوضات طويلة لتشكيل حكومة أغلبية، وليس من المستبعَد أن تخسر الكتلة الفائزة بالانتخابات قدرتها على تشكيل حكومة بفعل تحالفات الكتل البرلمانية.
في انتخابات 2010 حصدت قائمة إياد علاوي أغلب الأصوات، لكن تشكيل الحكومة آلَ إلى نوري المالكي زعيم ائتلاف دولة القانون، وتحول علاوي متصدر الانتخابات إلى زعامة المعارضة بفعل التدخلات الإيرانية.
بناءً على التاريخ والواقع العراقي، كل الخيارات مفتوحة، وكل السيناريوهات محتمَلة، ولا شيء مستبعد في العراق.
اقرأ أيضًا: التحالفات الوعرة: اتفاقات ما بعد الانتخابات العراقية
سيناريوهات التحالف في العراق
منذ تسريبات النتائج الأولية للانتخابات بدأت القوى الفائزة تحركاتها واتصالاتها لبحث أُطر التعاون وسبل الاتفاق على شكل الحكومة، وسط خلافات بين القوى.
في واجهة هذه التحركات التيار الصدري، الذي تصدر الانتخابات وعقد رئيسه مقتدى الصدر لقاءات مع التيارات الأخرى للوصول إلى شكل التحالف الذي يسعى إليه. ورغم أن التيار الصدري يظل المرشح الأوفر حظًّا لتكوين تحالف حاكم، فإن المفاجئات ما زالت محتمَلة.
ربما يكون صعبًا تحقيق استقلالية القرار العراقي التي يسعى إليها الصدر، في ظل الصراع الإقليمي للتدخل في شؤون البلد.
«أَبَوية»، هكذا وصف مقتدى الصدر الحكومة التي يسعى إلى تشكيلها، وهو لفظ جديد على مسامع الإنسان العربي بشكل عام، وقد يكون استخدامه من رجل الدين الشاب نوعًا من الدهاء السياسي، وخصوصًا في ظل معاناة العراقيين منذ سقوط صدام من فساد رجال السياسة ونظام المحاصصة الطائفية والمذهبية، وهي الأمور التي طالما دعا الصدر أنصاره إلى التظاهر ضدها .
ربما يكون فوز تحالف «سائرون» المدعوم من مقتدى الصدر أحد أهم مفاجآت الانتخابات العراقية، وينظر كثير من العراقيين إلى الصدر على أنه عراقي فقط، فمواقفه السابقة كانت مناهضة لواشنطن وإيران على حد سواء، ما يجعله حالة فريدة في الأوساط السياسية العراقية التي يرتبط معظمها بأحد الطرفين.
ربما يكون من الصعب تطبيق استقلالية القرار العراقي التي يسعى إليها الصدر، في ظل الصراع الإقليمي للسيطرة والتدخل في الشؤون العراقية، خصوصًا بعد نجاح قوى سياسية محسوبة على دول إقليمية في تحقيق نتائج إيجابية يتطلب تشكيل الحكومة التفاوض معها، وهو ما يفتح الباب لعراك لا ينتهي في عراق ما بعد صدام.
يبدو العراق على أبواب اقتتال قادم بين قوى تسعى إلى استقلاليته، وأخرى تريد استمرار ارتباطه ودورانه في فلك دول أخرى. ولا يمكن التنبؤ بشكل الحكومة القادمة، أو من سيتولى السلطة ومن سيقود المعارضة، فعراق ما بعد الانتخابات يختلف بشكل كبير عن ما قبلها. يبقى مستقبل العراق موقوفًا على نتيجة هذا العراك المتوقَّع بين القوى السياسية والدول الإقليمية، وهو عراك لن تهدأ معاركه قريبًا.
محسن عوض الله