لماذا تلاحق لعنة الانتحار عائلة الروائي الأمريكي «إرنست هيمنغواي»؟

سحر الهاشمي
نشر في 2016/11/24

إرنست هيمنغواي - لندن 1944

إذا كنت تفكر في اﻻنتحار، توجَّه إلى شخص مُقرَّب واطلب منه المساعدة، أو يمكنك زيارة هذا الموقع.


في عام 1961، أطلق الروائي الشهير «إرنست هيمنغواي» رصاصةً على نفسه، بعدما ظل سنوات يتعايش مع ميولٍ انتحارية وهوس اكتئابي حاد، منهيًا بذلك ألمه ونجاحات مسيرة مهنية حافلة بالقصص والروايات الكلاسيكية، حاز عنها جائزتي بوليتزر ونوبل.

هيمنغواي: أعتقد أنني سأبقى راغبًا في الموت دائمًا

عُرف عن إرنست روح المغامرة، وحبه الشديد لرحلات صيد الأسماك والحيوانات البرية الذي ورثه عن والده «كلارنس»، إلا أن أباه ترك له إرثًا آخر لم يعلم كيفية التعامل معه؛ فقد أقدم «كلارنس» (Clarence) على الانتحار برصاصة بندقيته المفضلة عام 1928، تاركًا إرنست يعاني من عقدة الذنب التي لم يحبذ التحدث عنها بشكل صريح، لكنه حاول معالجتها في كتاباته من خلال ابتكار شخصية «نِك» الذي ينتحر والده في «آباء وأبناء»، فكتب:

كان «إرنست» مهووسًا بفكرة الموت، حتى أنه اعترف بذلك في رسالة حب للمرأة التي أصبحت فيما بعد زوجته الثانية.

«تتم خيانة الأشخاص العاطفيين مراتٍ عدة. لم يستطع نِك أن يكتب عن والده، لكنه سيفعل يومًا ما، وعندما يفعل سيشعر بالتحسن».

كان «إرنست» مهووسًا بفكرة الموت، حتى أنه اعترف بذلك في رسالة حب للمرأة التي أصبحت فيما بعد زوجته الثانية، قائلًا: «أعتقد أنني سأبقى راغبًا في الموت دائمًا».

إرنست هيمنغواي وزوجته

منذ انتحار «إرنست» وحتى اليوم، لحق به خمسة أفراد من العائلة، من ضمنهم أخته «أورسولا»، وأخوه «ليستر»، وابنه الأصغر «غريغوري» وزوجته السابقة «مارثا غيلهورن»، وحفيدته العارضة الشهيرة «مارغو هيمنغواي».

سبعة انتحارات أو أكثر باتت جزءًا من إرث آل هيمنغواي الأسطوري، فما السر وراء اللعنة التي تلاحق أفراد العائلة واحدًا تلو الآخر، حتى بعد مرور سنوات عديدة على موت الكاتب؟ وهل تشير الانتحارات المتلاحقة بين الأجيال إلى وجود خلل جيني وراثي، أم أنها مجرد صدفة سيئة؟ ماذا لو كان الجيل الحالي من عائلة هيمنغواي مهددًا بشبح الانتحار؟

غريغ هيمنغواي: لم أتخطَّ قط الإحساس بالمسؤولية عن وفاة والدي

إرنست هيمنغواي وابنه

إن آخر سلسلة الانتحارات المنحوسة كانت عام 2001 للابن الأصغر «غريغوري»، الذي مات بعد أن أجرى عملية تحويل جنسي وأصبح يدعى «غلوريا». وبالرغم من أنه أجرى العملية في الستينات من عمره، إلا أنه ظل يعانى من اضطراب ثنائي القطب؛ ما جعله غريب الأطوار في آخر فترات حياته، إذ توقف عن أخذ أدويته تمامًا، وشوهد يهرول عاريًا في ولاية فلوريدا قبل خمسة أيام من وفاته.

قد يعجبك أيضًا: حكايات الاضطراب الوجداني ثنائي القطب

لم يتوقف «غريغ» يومًا عن التفكير في والده والطريقة التي أنهى بها حياته.

قد تكون النهاية التي وصل إليها «غريغ» ناتجة عن تتبع نمط حياة شبيه بوالده إلى حد كبير، فالاثنان تزوجا من أربع نساء خلال فترات مختلفة من حياتهما، وعشقا هواية صيد الحيوانات (اصطاد «غريغ» أكثر من 30 فيلًا في إفريقيا)، وعانيا من الهوس الاكتئابي وانتحار الأب على نحوٍ مفاجئ.

لم يتوقف «غريغ» يومًا عن التفكير في والده والطريقة التي أنهى بها حياته، وقد ذكر ذلك في كتاب مذكراته «Papa»، الذي نشر فيه عام 1976 مقتطفات عن لحظات سعيدة عاشها مع والده، وكيف شعر بالذنب الشديد تجاه ابتعاده عن أبيه في العشر سنوات الأخيرة من حياته: «لم أتخطَّ قط الإحساس بالمسؤولية عن وفاة والدي».

مارغو هيمنغواي: السقوط من أعلى ممر العرض

مارغو هيمنغواي

لا تبدو «مارغو هيمنغواي» للذي لا يعرفها شخصًا ذا ميول انتحارية، فهي فتاة بملامح جميلة ذات حضور طاغٍ وطلة تأسر القلب. وبسبب تهافت المصورين للحصول على صور حصرية لحفيدة الكاتب الشهير، تمكنت من توقيع أول عقد عمل لها في عرض الأزياء بقيمة مليون دولار قبل إكمال دراستها الثانوية.

حاولت أن تظهر عاريةً في عدد من المجلات، وأن تحصل على أدوار ثانوية في أفلام تجارية، لكنها لم تنجح كثيرًا.

لكن، لسوء الحظ، عانت «مارغو» من عقبات نفسية وصحية دفعتها للانتحار في 1997؛ أولها نوبات الصرع التي انتابتها منذ السابعة من عمرها، والبوليميا الشديدة التي أفقدتها وزنها على فترات متقطعة من حياتها المهنية، حتى عندما كانت تظهر على أغلفة أشهر المجلات العالمية، كما كانت تشكو من عُسر القراءة (الديسلكسيا) التي جعلتها تتعثر دراسيًا، وصعَّبت عليها مهمة قراءة النصوص في مهنتها الثانية: التمثيل.

أما نفسيًا، فقد أثرت فيها كثيرًا حقيقة فشلها المهني في التمثيل؛ لذا حاولت أن تظهر عاريةً في عدد من المجلات، وأن تحصل على أدوار ثانوية في أفلام تجارية، لكنها لم تنجح كثيرًا بالمقارنة بشقيقتها الأصغر «ماريل» (Mariel)، التي لطالما قارنت «مارغو» نفسها بها، لتمكن نجمها من الصعود خلال فترة قياسية على عكسها تمامًا. 

مارغو هيمنغواي

شعرت «مارغو» بالوحدة مطولًا، وبخاصةٍ بعد فشلها في عدة علاقات عاطفية؛ فترك ذلك أثره الشديد في نفسها، ولم تعاود تجربة الارتباط بعد ذلك.

عندما بلغت الأربعين، أرادت العودة لمهنتها الأولى، لكنها كانت قد بدأت تفقد ألقها الذي عُرفت به في عمر أصغر، ولم تكن لديها مؤهلات أخرى تعتمد عليها؛ بسبب تركها الدراسة في عمر مبكر. كل ذلك أدى إلى اكتئابها الشديد وتراكم الشعور باللاجدوى؛ فقررت الانتحار بابتلاع جرعة زائدة من المسكنات، قبل يوم من ذكرى وفاة جدها الـ53.

ماريل هيمنغواي: الحفيدة الصغرى تحقق فيما أصاب عائلتها

تحلل «ماريل هيمنغواي»، الحفيدة الصغرى للكاتب، في وثائقي بعنوان «Running from Crazy» (الهروب من الجنون)، الأسباب التي وصمت عائلتها بهذه اللعنة، والمشاكل النفسية التي ظلت تعاني منها شخصيًا هي وإخوتها ووالدها بسبب ما حصل مع جدها.

قد يهمك أيضًا: هل تصنع الجينات شخصياتنا أم نشكلها بأنفسنا؟

يتضح من الوثائقي التحليلي لأفراد العائلة وشخصياتهم أن القواسم المشتركة بينهم كانت ولا تزال هي المشاحنات الدائمة وعدم الاستقرار العاطفي، التي أورثت «ماريل» وشقيقاتها مجموعة من عقد الذنب الخفية، مع استمرار تكرار أنماط الاكتئاب والهوس بمقتل «إرنست»، التي كانت الدوافع الأساسية لليأس والانتحار في كل مرة.

وعن تكرار النمط المَرَضي تقول في إحدى المقابلات: «لقد عانى جميع أفراد عائلتي من مشاكل مع الكحول والمخدرات في لحظات الانتكاسة والألم، لكن كل ذلك كان مجرد غطاء لما كان يحدث بالفعل، فقد تعرضت شقيقتي «مارغو» و «مافيت» للتحرش الجنسي من والدي «جاك»، الذي عانى بدوره من عقدة الذنب جرَّاء انتحار أبيه الكاتب العظيم، ولم يحب التحدث في الأمر بتاتًا، فكان يدمن الكحول ويتجادل مع والدتي طول فترة طفولتي».

من أين أتت الفكرة؟

عائلة هيمنغواي

إن الانتحار ليس بالفكرة الحديثة، واللجوء له كحل أخير أمر شهدناه أو سمعنا عنه كثيرًا من أشخاص عدة في حياتنا اليومية، لكن الفارق بين من يبدأ سلسلة الانتحارات ومن يلجأ إليه بعد انتحار شخص قريب منه، هو مدى سهولة الإيمان بنفعه كحل في الحالة الأخيرة.

يقول البروفيسور «بول كوينيت»، صاحب كتاب «الانتحار: القرار النهائي»: «إذا اعتبرنا أن مشاكلنا ستحل بالانتحار، لا بد أننا تلقينا هذا الاستنتاج عن طريق شخص ما، قد يكون صديقًا أو قريبًا أو شخصية شهيرة. لا بد أن يكون شخص ما قد أرانا الطريق إلى الانتحار كحل يمكننا اللجوء إليه، وعندما يرينا شخص نثق به الطريق، يكون عندها من الأسهل علينا أن نمشي على خطاه».

اقرأ أيضًا: تجربة شخصية: أستطيع أن أفهم «فيرجينيا وولف»

لكن الأمر الذي لا يطرأ على بال صاحب قرار الانتحار، هو كونه بالواقع أمرًا بالغ الضرر على الأشخاص الذين يتركهم، فهو يُدخلهم، دون علمه، في دوامة جديدة من الكآبة قد لا تنتهي إلا بالانتحار. وكلما كان المنتحر قريبًا منا، كان تقبُّل الأمر أصعب علينا، فتخيل مثلا حالة الأبناء الذين يعانون من أثر انتحار أحد الأبوين أو كليهما.

عندما ينتحر أحد الأبوين فكأنه يقول لابنه: وجودك لم يقنعني بما يكفي كي أبقى على قيد الحياة.

تقول المعالجة النفسية «آنيت آنتشايلد»: «عندما أعمل مع مرضى عانوا من انتحار أحد والديهم، فإن التعافي من الصدمة يكون شبه مستحيل، ومنذرًا بمعاناة مستقبلية. قد لا ينتحر الابن بالضرورة، ولكنه لن يتخطى الأمر بسهولة أيضًا».

تضيف «آنتشايلد»: «أكبر هدية يمكن أن نهبها لأبنائنا هي التفاؤل بغدٍ أفضل، وعندما ينتحر أحد الأبوين فكأنه يقول لابنه: إن محاولة حل المشكلة ليست بالأمر الهين، ووجودك لم يقنعني بما يكفي كي أبقى على قيد الحياة»، فيجد الابن نفسه في مواجهة مع إرث سيء من الرفض والتخلي، ويعيش مع عقدة الذنب كافة حياته، وهو الأمر الذي يفسر كثيرًا من المصاعب والتحديات التي ما زالت تلاحق عائلة «هيمنغواي» إلى يومنا هذا.

هذا الموضوع جزء من ملف منشور عن الانتحار، لقراءة موضوعات أخرى في الملف، اضغط هنا.

سحر الهاشمي