صالح وداوود الكويتي: أسسا لموسيقى العراق وقتلتهما الهجرة لإسرائيل
داخل إحدى ضواحي حيفا، في بدايات خمسينيات القرن العشرين، جلس رجلان في الأربعينيات من عمرهما داخل محل صغير يبيع الأواني المعدنية. يقف أحدهما يجادل سيدة عجوز في السعر كي يحصل على ما يكفيه وشقيقه للعيش وسداد مصاريف المسكن. يبتسمان في وجه الزبائن، لكن ثَمَّة حزن دفين داخل العين، حزن تتشقق له الأفئدة وتتصدع من هوله البيوت.
رغم كل ذلك، وفي أي وقت يسمح بالراحة، تجد أيديهما تتحرك بإيقاع موسيقي، يسرح كلٌّ منهما في وجه الآخر، تغيب الناس وزحمة السوق وضوضاء المارة كأنك في مشهد سينمائي، يصمت كل شيء تدريجيًّا، ويأتي صوت سليمة مراد في الخلفية تغني «على شواطي دجلة مُر، يا منيتي وقت الفجر».
قدم صالح ألحانًا للمطربة السورية زكية جورج، ولحن أيضًا لنرجس شوقي وصديقة الملاية ومنيرة الهوزوز وعفيفة إسكندر.
مع صوت سليمة، تبدأ الإضاءة تقل إلا من على وجه الرجلين، ويبدءان في تذكر العراق، افتتاحهما ملهى «أبو نواس» في أوائل الأربعينيات، ترى المشهد مزدحمًا بالجالسين لسماع أهم مطربي العراق في ذلك الوقت، وما زال صوت سليمة باشا في الخلفية. يتغير الدكان إلى ملهى، وتصغر ملامح الرجلين 10 سنوات، ويبتسم وجهيهما. وبدل الأواني المعدنية، أصبح الأخ الأكبر صالح يمسك كمنجة، كأنه يهمس لها ويتوعدها أن لا تتركه يضيع في الدنيا، ويحتضن داوود العود كأنه الوطن والحبيب.
كان صالح وداوود من أهم الموسيقيين في العراق، بعد أكثر من 10 سنوات قضياها يتنقلان بين مدنه وضواحيه، يشكلان الهوية الموسيقية العراقية الحديثة، بالعمل على تطوير المقامات الموسيقية وتقديم ألحان لكل مطربي تلك الفترة، وعلى رأسهم بالطبع سليمة مراد باشا، التي كانت أول من اقترح على صالح أن يلحن لها، بعد أن كان عازفًا مع شقيقه في فرقة المطرب العراقي محمد القبانجي، ثم فرقة سليمة.
قدم الأخوان كثيرًا من الألحان، وصلت إلى ما يقارب 500 لحن، ولحن صالح الموسيقى التصويرية لأول فيلم عراقي عام 1947، وقدم ألحانًا للمطربة السورية زكية جورج، التي جاءت من حلب إلى بغداد في بداية العشرينيات، ولحن أيضا لـصديقة الملاية ونرجس شوقي ومنيرة الهوزوز وعفيفة إسكندر، ولحن داوود وغنى أيضًا، وشكل الأخوان، مع هؤلاء المطربين والعازفين، النواة الأولى لشكل الموسيقى العراقية الحديثة.
اقرأ أيضًا: كيف طوَّر التضاد بين الأخوين دوخي موسيقى الكويت؟
«كنا محظوظين رغم كل ما حدث، شاركنا في تأسيس الموسيقى العراقية، وفي تسجيل أول اسطوانة لمطرب كويتي في بغداد».
على «خبطة» زبونة على باب المحل في حيفا، يستيقظ الأخوان من حلمهما ويعودان إلى وظيفتهما الجديدة، صاحبا محل للأواني المعدنية.
في حديث داوود مع الزبونة تقول له: «تعاهدني أن الأواني جيدة؟»، فيبتسم ابتسامة حزينة وينظر إلى صالح الجالس خلفه، فيرى نفس الابتسامة المكسوَّة حزنًا. يمسك إحدى الأواني وينقر عليها بأصابعه، ويبدأ في غناء الصوت الكويتي «يعاهدني لا خانني ثم ينكث، وأحلف لا كلمتهُ ثم أحنثُ». يتحول المحل الصغير إلى جلسة سمر كويتية، لكن دون جمهور أو كورس أو آلات موسيقية، جلسة سمر يحاوطها الحنين لكل ما سبق.
يبدأ داوود مع صوت أخيه في تذكُّر الكويت، وشارع الغربللي في حارة اليهود. الكويت بلد الميلاد، كان ذلك في عام 1910، وقبله بعامين وُلد صالح، يتذكر داوود والدهما عزرا يعقوب، وعمله بالتجارة والسفر إلى الهند، التي جاء منها أول عود احتضنه وأول كمنجة يمسكها صالح.
كانت الحياة في الكويت هادئة وجميلة، لم يشعرا أبدًا أنهما مِن خارج البلد. ينتهى صالح من الغناء وينظر إلى داوود ويقول: «كيف حال عبد اللطيف الكويتي الآن؟ هل ما زال يغني؟ غنيت أنت صوت ملك الغرام، عملنا معه في الفرقة وأخذنا اسمه، دائما يظنون أننا كويتيون، وهذا شرف لا ندعيه وخطأ لا ننفيه». يقاطعه داوود: «نحن رغم كل ما حدث لنا، كنا محظوظين وموهوبين، شاركنا في تأسيس الموسيقى العراقية، وشاركنا في تسجيل أول اسطوانة لمطرب كويتي في بغداد، كانت أول مرة نزور فيها الوطن، العراق».
يستمر داوود في تذكر العراق، والبدايات، وغنائهما في مدنه وضواحيه، والسفر من مكان إلى آخر، ويسأل صالح بكل حزن: «هل قسى علينا الوطن، أم نحن من تخلينا عنه؟ وماذا كان يمكننا فعله؟»، ثم يسود المكان الصمت، ويأتي من بعيد، من مسافة ألف كيلومتر، من العراق، صوت داوود وهو في أَوْج تألقه، يغني «يا نبعة الريحان حِني على الولهان، جسمي نحل والروح ذابت وعظمي بان».
اقرأ أيضًا: لأن اللحن أكثر بلاغة: يا صاحبي، دعك من كلام الأغاني
يجلس الأخوان مستندين إلى شجرة برتقال أنهكهما التعب، يخطط أحدهما على الأرض ويرسم قلبًا أكله التعب والحنين، قُدَّ من صخر لكنه ذاب من تعب الحياة وقسوتها.
يقف الأخوان داوود وصالح في حديقة البرتقال في حيفا مع عدد من المهاجرين العرب لجمع الثمار، وهما في عقدهما الخامس، وظيفة إجبارية من أجل المسكن والمأكل وبعض الأموال القليلة، وهنٌ وحزنٌ في القلب يفوق بكثير وهن الجسد، يجمع صالح البرتقال ويضحك على حاله، ويبدأ في الدندنة بأغنية «ياللى زرعتوا البرتقان ياللا اجمعوه آن الأوان، ياللا اجمعوه آن الأوان يالا يالا».
يبكي داوود، يبكي على حالهما، هذه الأغنية لحنها محمد عبد الوهاب على مقام اللامي، المقام الذي جاء به من العراق في أوائل الثلاثينيات، بعد أن تَعرَّف إليه من جلساته مع صالح، وكان صالح قد طوَّر المقام وجعله أكثر طواعية للملحن والمستمع. تلك الأغنية كانت الأولى في مصر التي تلحَّن على هذا المقام، وتبعها بعد ذلك بأغنية «أنا والعذاب وهواك».
فجأة جاء صوت رئيس العمال الجهير يقطع كل ذلك، يعلن عن فترة راحة قليلة للعمال. يجلس الأخوان مستندين إلى شجرة برتقال وقد أنهكهما التعب، يخطط أحدهما على الأرض ويرسم قلبًا أكله التعب والحنين، قلبًا قُدَّ من صخر، لكنه ذاب من تعب الحياة وقسوتها.
هنا يعود الصمت إلى المكان، ويأتي صوت أم كلثوم من بعيد، منذ أكثر من 20 عامًا، وهي جالسة أمام صالح تتلقى منه أشهر أغانيه الملحنة في تلك الفترة، وتحفظ اللحن وتغنيه أمامه وتجوِّد عليه أيضًا، «قلبك صخر جلمود ما حن عليه»، التي غنتها في الأصل سليمة مراد، ولم تُسجَّل للأسف بصوت أم كلثوم، لكنها سكنت عقل صالح وتأتيه الآن، وتُصعِّب عليه روحه ونفسه: أين هو الآن؟ وأين أم كلثوم؟
بعد معاناة كبيرة في الوطن الجديد، السجن الكبير، كانت فكرة محل الأواني المعدنية أسلم حل لسد مال المأكل والمسكن، وما زال حنين الموسيقى في الدم.
لم يتخيل صالح أنه سيضطر في يوم من الأيام إلى الرحيل عن موطنه العراق، فهو وشقيقه صاحبا أول فرقة موسيقية للإذاعة العراقية عند افتتاحها في 1936، وغنى صالح عند رحيل الملك فيصل الأول.
لم يتخيل أن يقف يومًا في المطار، بعد الضغوط السياسية والطائفية، وضغط الأسرة للبحث عن مكان آمن بعيدًا عن هنا، ويسافر بعد أن أُخذت منه كل متعلقاته الموسيقية (الآلات الموسيقية، النوتات، كلمات الأغاني، النقود). وقف في المطار يغني ما لحنه في يوم من الأيام لسليمة مراد: «الهجر مو عادة غريبة».
كان حلم الوطن الجديد والأمان والحياة السعيدة قد تبدد في الساعات الأولى من الوصول إلى إسرائيل، وسكنهما في خيمة، والعمل في المزارع، وعدم العثور على أي فرصة عمل في الموسيقى، لأنهما يغنيان أغاني وموسيقى «الأعداء».
كان الأصعب هو: أين نذهب الآن؟ سقطت الجنسية العراقية، ورفضا الجنسية الكويتية وهما في الطائرة في مطار العراق، بعد عرض من أمير الكويت، لكن العرض كان متأخرًا بعد ما قررا الهجرة. وقف صالح وداوود دون خطة ولا مستقبل ولا حتى ماضٍ، وكان صوت سليمة مراد يقول: «هذا مو إنصاف منك غيبتك هلكد تطول، الناس لو تسألني عنك شرد أجاوبهم شكول؟».
منع الأخوان صالح وداوود أولادهما من تعلم الموسيقى، لكن كان للحفيد «دودو تاسا» رأي آخر، فأحب الموسيقى والغناء وعرف أهمية جدَّيه.
بعد معاناة كبيرة في الوطن الجديد، السجن الكبير، وسط الغربة، كانت فكرة محل الأواني المعدنية أسلم حل لسد مال المأكل والمسكن، وما زال حنين الموسيقى في الدم.
أخيرًا، استطاعا جلب آلات شرقية (عود وكمنجة) وبدءا في الإعلان عن إحياء الأفراح وأعياد الميلاد للمهاجرين العرب، ومن ثَمَّ كان طريقهما إلى الإذاعة الإسرائيلية في نصف ساعة، بعد بدء البث العربي تحت إشراف العراقي «شاؤل بار حاييم».
رفضت سليمة السفر معهما إلى إسرائيل، وقالت: «لِمن أغني هناك؟ حياتي هنا، وجمهوري هنا»، وفشلت محاولات صالح بعد الهجرة في إرسال ألحان إليها، لأنها تعلم مدى خطورة أن تغني من ألحان صالح بعد هجرته إلى إسرائيل، وأتلفت الحكومة العراقية معظم أعمال الأخوين، ونُسِب جميعها إلى التراث العراقي.
قد يهمك أيضًا: أين ينتهي التطبيع مع إسرائيل ويبدأ الفن؟
رحل داوود في عام 1976، ورحل بعده صالح بعشرة أعوام. رحل الاثنان وفي الخلفية صوت زكية جورج يردد: «تئذيني تئذيني يا وِلفي ليش تئذيني، فراقك صعب يهوا بالقلب جاوبني»، يحتضن الحنين إلى العراق والكويت، والحنين إلى ماضيهما الموسيقي وأغانيهما وإسهاماتهما في الموسيقى العراقية.
منع الأخوان صالح وداوود الكويتي أولادهما من تعلم الموسيقى حفاظًا عليهم مما أصابهما منها، لكن كان للحفيد «دودو تاسا» رأي آخر، فأحب الموسيقى والغناء، وعرف أهمية جدَّيه، ورد لهما جزءًا من حقهما الضائع، وأعاد تقديم أغانيهما بتوزيعات جديدة مزجت بين صوتيهما وصوته.
شريف حسن