«ريك آند مورتي»: كلنا سنموت في النهاية، وابا لابا داب داب
منذ سنوات طويلة ومسلسلات قليلة لها السيادة المطلقة في مجال الرسوم المتحركة، يفضل الجمهور بعضها على غيره، لكن الإجابة التي سيُجمع عليها الكل تقريبًا إذا سألتهم عن هذه المسلسلات لن تخرج عن «The Simpsons» و«Family Guy» و«South Park»، وهي أعمال استحقت ما نالته من شهرة ونجاح، وإن وقعت مع الوقت، كما يحدث كثيرًا، في فخ التكرار والنمطية، وهو فخ تقع فيه المسلسلات التي تطول مدة عرضها أعوامًا وأعوامًا، فتبدأ في إعادة تدوير ما لديها من أفكار قديمة، وسرعان ما يصاب المشاهدون بالملل ويبحثون عن شيء جديد.
في فترة، احتل مسلسل «Futurama» الصدارة بشخصياته شديدة الطرافة ومغامراتها المثيرة في الفضاء وعبر الزمن، وعُدَّ أفضل مسلسل خيال علمي كوميدي من فئة الرسوم المتحركة على الإطلاق، لا سيما أن فريقًا من الفيزيائيين الحقيقيين كان يشارك في كتابة حلقاته، لضمان أن يكون الخيال قائمًا على نظريات علمية.
لكن، مثلما يحدث طيلة الوقت مع أعمال ناجحة يحسب المرء أنها ستدوم طويلًا، خضع المسلسل في النهاية لحسابات المكسب والخسارة لدى شبكات التلفزيون، وانتهى الأمر بوقفه في ذروة نجاحه، وهو ما أصاب الملايين بخيبة أمل شديدة، وجعلهم يظنون أن سنوات ستمر قبل أن يجدوا عملًا مشابهًا يثير خيالهم ويستفز حِس الدعابة لديهم، ويمنحهم شخصيات تستحق أن يتابعوها أسبوعًا بعد أسبوع.
لكن الانتظار لم يَطُل لحسن الحظ، ففي ديسمبر 2013، العام نفسه الذي انتهى فيه «Futurama»، بدأ عرض حلقات «Rick and Morty»، وقال العالم: «وابا لابا داب داب».
المسلسل فكرة وتأليف «دان هارمون»، الذي كان قد أثبت نجاحه ككاتب كوميدي قدير في مسلسله «Community»، بالاشتراك مع «جستن رويلاند»، وهو ممثل ومخرج ومنتج.
بدأت الفكرة بفيلم التحريك القصير الذي أخرجه رويلاند وأدَّى أصواته، وقدَّم فيه محاكاة ساخرة لثلاثية «Back to the Future»، فعمل الاثنان على تطوير الفكرة والشخصيات لتكون صالحة لمسلسل ذي حلقات منفصلة متصلة، ويبدو أن كلَّا من هارمون ورويلاند وجد في الآخر الشريك المثالي لتقديم العمل، الذي تحول خلال فترة قصيرة من بداية عرضه إلى ظاهرة عالمية مدوية النجاح على المستويين النقدي والجماهيري.
عائلة «ريك ومورتي» السعيدة
على غرار كثير من مسلسلات الرسوم المتحركة، الأبطال الأساسيون في «Rick and Morty» عائلة أمريكية للغاية، يستغلها هارمون ورويلاند في تقديم صورة واقعية جدًّا للتفسخ الأسري في المجتمع الأمريكي، بخاصة الطبقة الوسطى، وإن كان تصويرها بهذا الشكل صالحًا للتطبيق على أي عائلة متهتكة الروابط في أي مكان في العالم، وهو ما أشار إليه كثيرون من دول أخرى وأكدوه.
الابن الصغير «مورتي» مراهق تقليدي محدود الذكاء للغاية، ولا يُكنُّ احترامًا كبيرًا لأبيه رغم التشابهات الكثيرة بينهما، وتتبدل حياته إثر عودة جده بعد اختفاء 20 عامًا.
الأب «جيري» والأم «بِث» تزوجا مرغمَيْن لأنها حملت منه وهي في السابعة عشرة من العمر لا أكثر، وهي الحادثة التي ضربت بأحلامهما وطموحاتهما عرض الحائط، إذ انتقل التركيز من السعي إلى تحقيقها إلى أداء الواجبات الأسرية التقليدية، فلم تصبح بِث جرَّاحة بشرية كما كانت تتمنى، واكتفت بممارسة الجراحة على الخيول.
بينما يشغل جيري وظيفة عادية جدًّا تجعل حياته روتينية تمامًا، خصوصًا أنه رجل ضعيف الشخصية أصلًا، لا يتمتع بكثير من الذكاء، ولا تفلح طيبة قلبه في تعويض النقص البالغ في كيانه، وهو يدرك هذا تمامًا رغم عناده، وإن كان نادرًا ما يسعى إلى تغيير واقعه أو تحسين صورته أمام زوجته وطفليه، وبالطبع لا يكفي الحب بين الزوجين لحل أيٍّ من تلك المشاكل بأي صورة.
«Rick and Morty» ليس مسلسلًا تقليديًّا، تبرز فيه مشكلة جديدة كل أسبوع وتُحَل مع نهاية الحلقة.
الابنة الكبيرة «سمر» طالبة المدرسة الثانوية على قدر لا بأس به من الذكاء والاستقلال، حادة الطباع ولاذعة اللسان، ويطاردها طَوَال الوقت هاجس أن أبويها يلومانها على توقف مسار حياتهما الطبيعي وانهيار أحلامهما، وهو الشيء الصحيح إلى حدٍّ كبير، ويتجلى كثيرًا في الحوارات التي تدور بين الشخصيات.
أما الابن الصغير «مورتي» فمراهق تقليدي تمامًا، محدود الذكاء للغاية، أكثر ما يشغله أن تلتفت حسناء الفصل إليه وتواعده، ولا يُكنُّ احترامًا كبيرًا لأبيه رغم التشابهات الكثيرة بينهما، بل وربما لهذا السبب بالتحديد، ويبدو أنه يفضل أمه باعتبارها أعقل شخص في العائلة، لكن حياته تنقلب وتتبدل تمامًا عندما يعود الجد الغائب إلى العائلة بعد اختفاء 20 عامًا.
«ريك»، العالم العبقري، أذكى مخلوق في الكون كله، الرجل الذي توصَّل إلى أسرار لا تخطر ببال أحد، وجاب مئات العوالم والكواكب والأكوان الموازية وخاض مغامرات رهيبة، الساخر السكِّير المكتئب الذي لا يبالي بأحد أو بشيء إلا نفسه، المغرور سليط اللسان الذي يدرك أن الحياة كلها لا معنى لها، وأفضل وسيلة للتعامل معها أن يعيشها مستمتعًا بها إلى أقصى درجة ممكنة قبل النهاية المحتومة، التي لا سبيل للفرار منها مهما كانت عبقريته، الشخصية العدمية الكريهة المحببة الظريفة، التي علقت بأذهان المشاهدين وصارت من أبرز الشخصيات الخيالية في تاريخ التلفزيون.
ريك: أنا عبقري، إذًا أنا بائس
تعتبر شخصية ريك سوسيوباثية بامتياز، وتجسد فلسفة «كامو» العدمية، وهذا لأنه كفَّ عن محاولة العثور على قيمة جوهرية أو معنًى للحياة.
لو لم يكن هذا مسلسلًا كوميديًّا، ولو كانت الشخصية غير كارتونية، لوجد أغلبنا «ريك سانشيز» إنسانًا كريهًا حقًّا. إنه لا يبالي بشيء أو أحد، ولا يفعل شيئًا إلا إذا كان يصبُّ في مصلحته الخاصة مباشرة، حتى إذا كان قد رفض أن يفعله قبل دقائق معدودة، لكن الظروف تغيرت فجأة، وبهذا التغير المفاجئ نقصد أن الملل أصابه.
يؤمن ريك بأن كل شيء قابل للتفسير علميًّا ويخضع لقواعد ثابتة، حتى الحب الذي يراه مجرد تفاعل كيميائي وينجح في إثبات هذا بالفعل، وحتى الشر يقول إنه شيء قابل للقياس والتحليل إذا كنت عبقريًّا، ويثبت هذا كذلك عندما يتغلب على الشيطان ذاته. ولأن العلم هو الشيء الوحيد الذي يجد فيه منطقًا، فإنه لا يسمح للعاطفة أو الفلسفة أو الدين بلعب دور في حياته. كل تصرُّف عملي تمامًا، كل مغامرة يخوضها ستعود عليه بمنفعة مادية، بغض النظر عن اعتبار الآخرين إياها خيرًا أو شرًّا.
ريك شخصية سوسيوباثية بامتياز، وتجسيد حي لفلسفة «كامو» العدمية، وهذا لأنه كفَّ منذ زمن عن محاولة العثور على قيمة جوهرية أو معنًى للحياة، والسبب في هذا تطبيق المسلسل نظرية العوالم المتعددة، وهي نظرية علمية حقيقية وضعها الفيزيائي الأمريكي «هيو إفيريت الثالث» في عام 1945، وتقول إن هناك عددًا غير نهائي من الأكوان الشبيهة بكوننا، وإن اختلفت عنه في نواحٍ عدة، وإن احتمالات حدوث أي شيء في الماضي والحاضر والمستقبل تؤدي إلى خلق واقع جديد باحتمالات جديدة، وهكذا دواليك.
هذه النظرية استطاع ريك تطبيقها باختراع مسدس الأبعاد الذي يتيح له الانتقال لحظيًّا من واقع إلى آخر. وفي الحلقات دلائل تشير إلى أن هذا الاختراع كان بداية التحول في شخصيته، فعندما تكون هناك نسخ لا نهائية مطابقة لابنتك وحفيديك وكل من تعرفه، وعندما تكون الأرض ذرة رمل على شاطئ واحد بين عدد لا محدود من الشواطئ، وعندما تذوب كل قيمة للحياة والموت لأن كل شيء وكل شخص وكل مكان قابِل للاستبدال بمجرد ضغطة على زناد، وعندما تكون كل الاحتمالات ممكنة، كأن يكتشف هتلر في أحد العوالم علاجًا للسرطان، فلا يعود هناك معنًى لأي شيء، وهي النقطة التي يتحرر عندها ريك من أي قيود أخلاقية أو عاطفية، ويصبح شاغله الشاغل تخدير الألم الشديد الذي يسيطر على كيانه بعد هذا الاكتشاف.
يشرب الجد العبقري جرعات هائلة من الكحول ويتعاطى المخدرات، يخوض مغامرات مجنونة لا تنتهي وفي أحيان كثيرة تكاد تُكلفه حياته، يجري تجارب متطرفة على نفسه، كأن ينقل مخه من جسده العجوز إلى جسد مراهق، أو يحول نفسه إلى قطعة من الخيار المخلل، أو يواعد كوكبًا كاملًا في الآن نفسه. هذا شخص لا يسعى إلا إلى النسيان اللحظي لحياته البائسة، فلا عجب أن عبارته الشهيرة «وابا لابا داب داب»، التي يرددها باستمرار ويعتبرها المُشاهد طريفة، تعني في الحقيقة: «ساعدوني، أنا أشعر بألم شديد».
مورتي: أنا غبي، لكني بائس أيضًا
يدرك ريك أن حياته نفسها لا قيمة لها أو معنى، ناهيك بحياة الآخرين، بمن فيهم حفيده وشريك مغامراته «مورتي».
في إحدى الحلقات، نعرف أن عددًا كبيرًا من نسخ ريك قرر إنشاء قلعة توحدهم ضد حكومة المجرة وغيرها من المنظمات التي واجهوها في مغامراتهم، لكن ريك بطل المسلسل يرفض الانضمام إليهم بدعوى أن مجرد فكرة تحالفهم معًا ضد الحكومة تجعل منهم حكومة، وهو يرفض الانضمام إلى كيان يجعل منه فردًا في قطيع، بينما لا يرى مشكلة في أن يكون مورتي جزءًا من قطيع كهذا، لأن كل مورتي عبر الأكوان لا يستطيع النجاة دون ريك يحميه، بالإضافة إلى أن موجات المخ «المورتية» تعمل كساتر ممتاز لإخفاء موجات مخ ريك العبقرية عن أعدائه.
العلاقة بين الجد وحفيده معقدة للغاية، فمورتي ينظر إلى ريك بعين الإعجاب، لكنه كثيرًا ما يُصدم بأفعاله المتطرفة، كأن يقيم مدينة ملاهٍ كاملة داخل جسد أحد متشردي الشوارع، أو يجعل كونًا بأكمله يعمل على توليد الطاقة لبطارية سيارته، أو يبيع سلاحًا لقاتل فضائي مقابل مبلغ من المال يقضي به يومًا من الترفيه.
تقول نظريات مشاهدي ريك اند مورتي، إن نهاية الخط الدرامي لمورتي ستكون إما بقتل ريك أو تحوله إليه، والإشارات إلى هذا وذاك موجودة بالفعل.
ومع الوقت، نرى صراعًا في نفس مورتي يرغمه على التحول من المراهق الحالم محدود الذكاء الذي كانه إلى شخص متشائم أقرب إلى ريك في الطباع، فيبدأ في الاستسلام لأفكاره العدمية، ويقول لأخته سمر في إحدى المرات حين يُشعرها أبواها بالذنب لمجرد أنها وُلدت: «لا أحد يعيش من أجل غاية بعينها، ولا أحد ينتمي إلى أي مكان، وكلنا سنموت في النهاية. تعالي نشاهد التلفزيون».
على الرغم من هذا، يظل مورتي أكثر من يكبح جماح جده في جنونه وتطرفه، ومع أن ريك لا يلتفت إلى رأيه كثيرًا، فإننا نرى بوضوح أن مغامراتهما العديدة معًا سبب في نضوجه في وقت مبكر، علاوةً على زواج أبيه وأمه الفاشل، لدرجة أن كثيرًا من النظريات التي وضعها المشاهدون عن المسلسل (وهي بالمئات على موقعي يوتيوب وريديت، وهذا في حد ذاته شيء غير مسبوق بالنسبة إلى مسلسل كارتون) تقول إن نهاية الخط الدرامي لمورتي ستكون إما بقتل ريك أو تحوله إليه، والإشارات إلى هذا وذاك موجودة بالفعل.
اقرأ أيضًا: «الأنيمي»: لمحات من تاريخ الرسوم المتحركة في اليابان
ريك ومورتي: خيال «لكن» علمي
يجنح المسلسل إلى السخرية من كليشيهات الخيال العلمي التي تتكرر مرارًا في الأفلام والروايات، وفي كثير من الأحيان يقلبها رأسًا على عقب بشكل مقنع ومضحك في آنٍ واحد. فكرة السفر عبر الزمن مثلًا تُعدُّ مستحيلة حتى الآن علميًّا، لذلك نرى دان هارمون يؤكد أنهم لا ينوون تقديم أي قصص سفر عبر الزمن في المسلسل، لما تنطوي عليه من تناقضات وثغرات في الأحداث لا سبيل لرتقها دراميًّا.
على أن عددًا لا بأس به من حلقات المسلسل يقوم على فرضيات علمية حقيقية، منها مبدأ الرِّيبة لـ«هايزنبرغ»، والسفر في الفضاء بسرعة أسرع من الضوء عن طريق استخدام مادة مظلمة مركزة، وقطة شرودنغر، ورفع معدل ذكاء الكلاب، ونظرية «إلون ماسك» عن أن عالمنا في الحقيقة مجرد محاكاة بالكمبيوتر، وغيرها.
هذا الأساس العلمي، من الناحية النظرية على الأقل، جزء من تشويق «Rick and Morty»، ودفع عددًا من العلماء ومؤلفي الخيال العلمي إلى الإشادة به، بل إن بعضهم أكد أننا إذا انتزعنا العامل الكوميدي، فإن مغامرات المسلسل تصلح لأن تكون قصص خيال علمي سوداوية بامتياز.
هشام فهمي