إعلان أورنج: هل هكذا تورَد «الدارك هيومر»؟
لم أضحك وأنا أشاهد إعلان شركة أورنج (Orange) الجديد، الذي أُذيع في الأيام السابقة لمباراة مصر المهمة أمام أوغندا في تصفيات كأس العالم، فقط اعتدلت في جلستي في محاولة لفهم ما يحدث، وأعتقد أن رأسي تمايل مرة أو اثنتين مع الموسيقى، في نفس الوقت الذي انتابني فيه شعور بالانقباض.
كنت مرتبكًا، وهذا الارتباك ذكرني بالإسكتش الذي قدمه «لويس سي كيه» (Louis C.K) في إحدى حلقات برنامج «Saturday Night Live». تحدث لوي يومها عن البيدوفيليا (معاشرة القُصَّر) من وجهة نظر مرتكبيها، النكات كانت مُحكمة تُجبرك على الضحك مع شعور دفين بالذنب لأنك تضحك على شيء كهذا، نفس ردود فعل المؤمنين على الكوميكس المحكَمة التي تسخر من الأديان «هاهاها، أستغفر الله العظيم يا أدمن بس ضحكتني»، دائمًا كنت أسخر من هؤلاء، والآن أصبحت مكانهم.
يصور الإعلان مجموعة من كبار السن المرضى، في أماكن مختلفة تتفق في كآبتها، وبألوان قاتمة، يتحرك هؤلاء العجائز بشكلٍ كاريكاتيري وهم يغنون ما هو مختصره «يا نتأهل يا ماتلحقوناش». الموت أقرب من كأس العالم الأبعد عام 2022، وهم في انتظار وجود المنتخب المصري في المونديال منذ الصعود الأخير لكأس عام 1990، تسعة أشهر تفصل عن بطولة قد يلحقون بها رغم أمراض الشيخوخة التي تُغنَّى في الإعلان.
في مجتمع لا زال يجد في «قرص» ممثل لممثلة أخرى في فخذها مادة مضحكة، يمكنك أن ترى إعلان أورنج عملًا ثائرًا على سطحية الفكاهة.
لم أكره إعلان أورنج ودافعت عنه بعد إذاعته، وضحكت بشدة وأنا أشاهد إسكتش لوي، لكنني لم أضحك عندما قرر أحدهم أن يستخدم صورة «جوليو ريجيني» في نكتة، الطالب الإيطالي الذي عُذِّب حتى الموت في القاهرة، وسط تشككات بتورط أجهزة الأمن المصرية في مقتله.
كتب ذلك الشخص على صورة ريجيني: «هكذا يموت الإيطاليون في مصر». قُلت لصديق لي إنها نكتة حقيرة، حادثة جوليو كانت مأساة ما زالت تتكرر من وقت إلى آخر، لكن ارتباكي كان حاضرًا لإيماني بـ«حق النكتة» في أن تكون كما تشاء، فلم أواصل النقاش، لكن السؤال بقي في رأسي: «ما الذي يجعل الكوميديا السوداء مقبولة في نكات، وغير مقبولة في نكات أخرى»؟
فتح إعلان أورنج الباب لكي أرى هاجسي الشخصي يناقَش بشكل علني، بين المؤمنين بإطلاق يد الكوميديا، والقلقين من استباحة جميع الموضوعات للمزاح دون تمييز.
«لكنكم لا تفهمون الدارك هيومر»
إلقاء نكات مهينة وعنصرية ضد المرأة في البلدان العربية قد يكون بمثابة ترسيخ لأفكار المجتمع.
في مجتمع لا زال يجد في «قرص» ممثل لممثلةٍ آخرى في فخذها مادة مضحكة، يمكنك أن ترى هذا الإعلان على أنه عمل ثائر على سطحية الفكاهة، مثل إعلانات أخرى بدأت تظهر في السنين الأخيرة، لكنه أكثر سوداويةً في كوميديته، الأمر الذي لم أشاهده من قبل يعرض على العلن في التلفزيونات العربية. غير ذلك، يكسر الإعلان مقدسات بتناوله ذكورًا كبار السن في أوهن حالاتهم بشكل ساخر، في عمل إعلاني موجه إلى مجتمع أبوي بامتياز، فلِم الاندهاش من أنه يقابَل بكل هذا السخط؟
حتى مع التحفظ الذي لديَّ من احتمال أن يجرح الإعلان مشاهدي المباراة من المرضى كبار السن، فقد كنت أبدأ نقاشي دائمًا مع المعارضين بافتراض قَصْر الإعلان على الإنترنت فقط دون إذاعته على التلفزيون، كي نكون على نفس الأرض قبل مناقشة محتواه.
لم تكن لديَّ قواعد واضحة مسبقًا للحكم على عنصرية محتوًى ما، أو تصنيفه على أنه مهين (Offensive) لمجموعة من البشر. أي شيء قد يكون جارحًا لمجموعة من الناس، وبمَدِّ كل الخطوط الممنوعة، ومهاجمة كل من يتخطاها، سنجد أنفسنا في النهاية جالسين إلى يمين الفنان محمد صبحي لترويج كوميديا أخلاقية، سقفها أقل حتى ممَّا قدمه هو في مسلسله (الكوميدي بمقاييس طفل في المرحلة الابتدائية) «يوميات ونيس»، وتنظيم حملات لإغلاق صفحات الكوميكس المختلفة، ومنع برامج مثل «أبلة فاهيتا».
في المقابل، السخرية من وفاة ريجيني أو النكات المهينة للمرأة في المجتمعات الشرقية شيء غير مقبول، صراع المرأة في البلدان العربية (وغيرها) ما زال مستمرًّا لنيل حقوق أساسية، وإلقاء نكات مهينة وعنصرية ضد المرأة على الملأ قد يكون بمثابة ترسيخ لأفكار المجتمع.
أما في حالة السخرية من أشياء مثل الذكورية أو الرموز السياسية، فذلك أمر مقبول تمامًا، بل وقد يكون مُستحبًّا للتخلص من التابوهات. لذا، بين يمين صبحي ويسار ريجيني، يمكن أن يكون مقياس الحكم على الكوميديا السوداء، كونها مقبولة أو ليست كذلك، هو جمهورها: أحكامهم المسبقة حول موضوع النكتة، وحالة الفئة التي قد تشعر بالإهانة منها في المجتمع المتلقي.
بتطبيق هذه الفكرة على إعلان أورنج، فجمهور الإعلان مجتمع يقدس كبار السن، ولكبار السن سُلطة فعلية عليه، تصل إلى حقوق عرفية يعاقَب غير الملتزمين بها معنويًّا أو ماديًّا، مثل الرجل الخمسيني الذي شاهدته يضرب مراهقًا في المترو رفض أن يترك له مكانه، وسط امتعاض الراكبين من سلوك الصبي. وهذه الفئة لها حماية مجتمعية أيضًا، أدت إلى تدخل الدولة لتعديل الإعلان، فمن الضعيف هنا؟ صُنَّاع الإعلان أم كبار السن؟
«ثورة أم هوجة؟»
سرعان ما اكتشفتُ التناقضات الواضحة في دفاعي عن الإعلان أو الكوميديا المطلقة: كيف أحتفي بجهرية الدعوة إلى الكوميديا السوداء العنيفة، وفي الوقت نفسه أتحفظ خوفًا من أن يجرح الإعلان المشاهدين من كبار السن المرضى، أو من ذويهم، وهم محور النكتة؟ لا كبار السن في المطلق، ولا المجتمع البطريركي، هم فقط أولئك الذين على وشك الموت على يد الشيخوخة وأمراضها.
إعلان أورنج لم يُظهر سوى شيوخ مرضى كشخوص غريبة المنظر، لإمتاع جمهور الإعلان المستهدف، الشباب، نقيض أولئك الذين ظهروا في الإعلان.
الأمر لا يشبه على الإطلاق السخرية من الرموز التي لديها القدرة على الرد، أو استخدام شخصية تنتمي إلى وظيفة أو مجتمع ما بشكل كاريكاتيري لعرض مستوى أعمق من الفُكاهة والنقد، فهل الإعلان مهين بالفعل لهؤلاء؟
يواصل أنديل، الذي فضَّل أن يُعرِّف نفسه على أنه ساخر جاد، من حيث عجزت أن أواصل، ويجيب بأن الإعلان فشل في اختيار خصمه بطل النُكتة (Anti-hero)، لأن الشخصيات التي أبرزها ليست كاشفة عن حالة المجتمع الأبوي.
هؤلاء ليسوا مثلًا لاعبي كرة سابقين، أو أشخاص ذوي مناصب في وزارة الشباب والرياضة، فحينها سيكون كبرهم في السن مقترنًا بمسؤوليتهم عن الوضع، بل إن مسؤوليتهم أقوى من ضعفهم كأشخاص كبار في السن، وبالتالي سيكون الإعلان مشاركًا لرغبة الشباب في كسر هذه الحالة المجتمعية، وسيطرح تساؤلًا حول قدسية التقدم في العمر في ظل بقية المعطيات.
لكن الإعلان لم يُظهِر سوى شيوخ مرضى كشخوص غريبة المنظر، لإمتاع جمهور الإعلان المستهدف: الشباب، نقيض أولئك الذين ظهروا في الإعلان. هذا الفشل في التعاطي مع الموضوع هو ما جعل الإعلان مهينًا، لعدم إيجاد رابط حقيقي بين موضوع الإعلان كما قُدِّم فيه (كبار السن الذين يرغبون في وصول المنتخب إلى كأس العالم، ويعلنون عن مرضهم وخوفهم من أن لا يلحقوا بهذا الحدث إن فشل المنتخب هذه المرة)، وبين موضوع الإعلان في الحقيقة، وبذلك يمهد الإعلان الطريق للقمع، لأنه يجعل إهانة موضوعه عادية في ذهن المتفرجين.
يتماس رأي محمد خميس، كاتب السيناريو، مع طرح أنديل في عدم وجود صلة بين موضوع الإعلان والواقع، لكن على عكس أنديل، يرى خميس أن ذلك لا يعني بالضرورة وجود إهانة، هو شخصيًّا لا يرى الإعلان مهينًا، فصانعوه حققوا المطلوب منهم من وجهة نظره كي تُنفَى عنهم هذه التهمة، وهو عرض الإعلان من وجهة نظر هؤلاء الكبار، ومن منظورهم الشخصي.
لكن هل سيشعر أغلب المشاهدين أنهم يمرون بنفس ما يقدمه الإعلان؟ هل يرون أجدادهم وآباءهم منشغلين بالصعود إلى كأس العالم وهم على أسرَّة المرض؟ الإجابة: لا، لهذا فشل الإعلان، وهو ما أدى إلى فتح باب اتهامه بإهانة كبار السن.
«لكن الإعلان لم يكن مضحكًا»
اختلاس عمرو خالد النظر إلى الكاميرا خلال إظهاره الخشوع في الدعاء، ودعاؤه لزوار صفحته ولكل من ترك له تعليقًا، يمثلان إخلالًا بالمتوقَّع من الحجاج.
في الفيديو الذي يسبق هذه الفقرة، يشرح عالم السلوك «بيتر ماكجرو» نظريته التي تجيب سؤال: «ما الذي يجعل شيئًا ما مضحكًا؟»، نظرية «الإخلال الحميد». قد تكون الفقرة القادمة معقدة قليلًا، لكن الداعية الإسلامي عمرو خالد سيبسِّطها في الفقرة التالية لها.
تشترط النظرية حدوث إخلال ما، بمعيار اجتماعي أو أخلاقي، وأن يكون هذا الإخلال حميدًا، وأن يتحقق هذان الشرطان في نفس الوقت. ويتحقق الشرط الثاني (أن يكون الإخلال حميدًا) في حالة من ثلاث حالات:
- أن يكون الجمهور متسامحًا مع الإخلال بالمعيار محور النكتة (لا تمزح في أمور دينية مع أصدقائك العائدين من صلاة الجماعة).
- أن يكون الإخلال بعيدًا نفسيًّا، سواء بأن يبدو غير حقيقي، أو أن يكون مرَّ وقت كافٍ على حدوثه للتسامح معه، أو أن يبدو كأنه يشكل خطرًا على الآخرين فقط.
- أن يكون هنالك تفسير آخر للإخلال يسمح له أن يكون حميدًا (مثل شجار ضاحك بالأيدي مع صديق لك، أو السباب البذيء بين الأصحاب).
مقطع فيديو الداعية عمرو خالد وهو يدعي خلال الحج لزوار صفحته الخاصة مثال بسيط على هذه النظرية: اختلاسه النظر إلى الكاميرا في أثناء إظهاره الخشوع في الدعاء، ودعاؤه لزوار صفحته ولكل من ترك له تعليقًا، يُمثلان إخلالًا بالمتوقَّع من الحجاج، ومنه كداعية، وهو إخلال حميد، بعيد نفسيًّا عن المشاهدين، ومن لم يُضحكهم الفيديو كانوا غير متسامحين مع الإخلال بصورة داعية حتى لو أخطأ من وجهة نظرهم.
لم يضحكني إعلان أورنج، نجح فقط في خلق إخلال بمعيار مجتمعي، ولم يكن إخلاله حميدًا لأغلب مشاهديه. لن يتسامح قطاع عريض من الجمهور مع هذا الإخلال، وهو ليس ببعيد نفسيًّا عنهم، كما أن محاولات إيجاد تفسير آخر لهذا الإخلال فُنِّدت في الجزء السابق من هذا الموضوع.
هذا الفشل، مرة أخرى، في بناء الكوميديا يفسره أنديل بالرجوع إلى دوافع السخرية، وهي أن يكون هنالك ما يستفز صانع العمل، أو الفنان، أو ما يستفزه أو يصيبه بمشاعر مربكة، فتنتج السخرية لتُوازِن بين صانعها وبين القوة الأكبر منه التي تستفزه. وقد يتعرض للخطر في سبيل ذلك، لكنه في المقابل يوجِد صلةً بينه وبين المجتمع، ممَّا يجعلهم يتحملون سخريته حتى لو كانت لاذعة. لكن ما حدث في الإعلان هو أن الهدف من السخرية مجرد تكسير قيود مجتمعية، حتى لو كانت ستؤدي إلى زيادة معاناة فئة ضعيفة تعاني بالفعل، في مقابل أن لا يكون رجعيًّا في وجهة نظره. هذا الصراع غير المتوازن (لصالح صانعي الإعلان) يقلل قيمة التحدي الفني.
محتوى الإعلان نفسه لم يكن فقط منعدم الصلة بالجمهور، لكنه أيضًا تناول شخوصه بشكل سطحي، بحسب أنديل، فهو يخلق العُزلة (أو يوسعها، بما أنها موجودة أصلًا بانعدام الصلة) بين الجمهور وكل ما هو آخَر، ويستثمر في أن يجعل علاقة جمهوره بالآخَر تقتصر على السخرية فقط، وهو ما يتعارض مع دور الفن في إخراج بشر ذوي رؤية أكثر حساسية من غيرهم.
«إذًا، لا داعي للدارك هيومر؟»
السؤال الأخير الذي هو على نفس القدر من الأهمية: «ما الذي يحمينا من التحول إلى محمد صبحي؟». هل سنشارك الآن في طلبات منع صفحات الكوميكس المسيئة لكل الناس؟
لمحمد خميس رأي في ذلك، هو أن صفحات الكوميكس على الإنترنت تختلف عن الإعلان الموجه إلى جماهير من طبقات مختلفة ويُعرَض على التلفزيون. هنالك من يحب الكوميديا التي ليس لها حدود أو تحفظات، من حقه تمامًا أن يجدها ويتابع القنوات التي تنتجها، لكن أورنج، حتى لو قُصِر عرض إعلانها على الإنترنت، فجمهور الشركة المستهدَف من كل الشرائح، وبشكل أو بآخر سيُفرَض محتوى صادم كهذا على مواطن سيتعرض للأذى بسبب الإعلان.
تدخلت الحكومة وقطعت كل الحديث الدائر بفرضها لسُلطتها الأبوية على الجماهير.
لديَّ هاجس آخر لم أصل إلى إجابة له حتى الآن: ماذا لو كان هنالك مواطن سيكتشف الكوميديا السوداء (غير المسيئة) للمرة الأولى عن طريق التلفزيون، وسيكتشف أنه يعجبه ذلك الشيء الغريب الذي يراه للمرة الأولى؟ هل نفرض الآن حمايتنا على هؤلاء بافتراضات مسبقة بأنهم لن يتقبلوها؟
يرى أنديل أن النقاش الحاد حول الإعلان كان مُفيدًا، وأن الأمر يستحق كل هذا الصخب، بعكس آراء المهوِّنين من النقاش بحجة أنه مجرد إعلان. الإعلانات، وفقًا لأنديل، وسيط قوي جدًّا للتأثير في ثقافة الناس، وفي تصرفاتهم وفي قناعاتهم، بل إنها تعلمهم كيف يأكلون، ويشربون، وأين يسكنون. هذا القدر من التأثير يستحق ما يحدث، بإحساس الجميع بالتورط المجتمعي، وأن رأيهم مهم، خصوصًا أن صُنَّاع الإعلانات يتابعون جيدًا ردود الأفعال، وتتغير آراؤهم تبعًا لها بالفعل.
تدخلت الحكومة وقطعت كل هذا الحديث الدائر بفرضها سُلطتها الأبوية على الجماهير، ممَّا قد يجعل هاجس صُنَّاع الأعمال في المستقبل هو رأي الرقابة/الجهاز القومي لحماية المستهلك، بدلًا من أن يكونوا أكثر قلقًا عند صناعة كوميديا تستهدف المجتمع ككل.
أسامة يوسف