إني سمعتكما: كيف وظف عبد الوهاب صوت نجاة لخدمة ثورته الغنائية؟
بين الغناء والفطرة علاقة قديمة، فليس كل مطرب ذا معرفة أكاديمية بأسس الجملة الموسيقية، وأيضًا ليس كل مطرب تُوجهه الفطرة كأداة وحيدة في إبراز إمكانياته. لكن الفطرة عند نجاة الصغيرة أساس قدراتها الغنائية، والعفوية التي كانت سمتها الأساسية، أضيف إليها مع الوقت والتجربة الوعي الغنائي منذ أن بدأت طفلة صغيرة حتى استطاع صوتها أن يضع خطًّا فاصلًا بين الطرب الكلاسيكي والطرب الحداثي، القائم بالأساس على التجريب والقدرات الصوتية المحدودة.
ظهر صوت نجاة الصغيرة بعد جيل من الملحنين والمطربين استطاع تشكيل الهوية الغنائية الحديثة، وطبع الموسيقى المصرية بطابعها المميز، فتشبعت نجاة منذ بدايتها بالموروث الغنائي، لكنها ظلت حتى مطلع الخمسينيات غير قادرة على تكوين أسلوب فني ذي معالم محددة، واتجاه موسيقي قابل للحياة والاستمرار، بعيدًا عن صورة قدوتها الأولى أم كلثوم، حتى تلقف محمد عبد الوهاب صوت نجاة في منتصف الخمسينيات، وحاول إعادة تحديد ملامح شخصيتها الغنائية، فشكلت تجربتها انطلاقة جديدة في مسيرتها وغنائها.
كان الأساس في تلك التجربة رغبة محمد عبد الوهاب في حسم موقفه من شكل الأغنية الحديثة ونمطها وطبيعة أدائها، ورغبة نجاة في إيجاد مخرج لأزمة هويتها الضائعة في التقليد.
لحن مع إيقاف التنفيذ
في حوار الموسيقار محمد عبد الوهاب مع الكاتب سعد الدين وهبة، والمنشور في كتاب بعنوان «النهر الخالد»، ذكر محمد عبد الوهاب أنه استمع لنجاة في عام 1946، وهي لا تزال طفلة، وحرص على إبداء النصح لأبيها بإبعادها عن الشهرة حتى تنضج موهبتها.
انتبه عبد الوهاب إلى جماليات واضحة في صوت نجاة، أولها: أنها تنتمي من ناحية تقسيمات الأصوات إلى فئة «الميزو سوبرانو»، وهي فئة غنائية يقع مجالها بين الأصوات الحادة والأصوات المنخفضة، ما يجعلها تجيد الغناء بسلاسة في المناطق المتوسطة من الصوت. فالجملة اللحنية لا يعوقها غناء الدرجات الموسيقية المنخفضة ولا المرتفعة.
ثانيًا، والأهم، أن غناءها يميل إلى التطريب، لكنه قائم بالأساس على فكرة «الصوت المستعار» بديلًا عن الصوت الطبيعي. والصوت المستعار هو الصوت المصطنع الذي يلجأ إليه بعض المطربين للوصول إلى طبقات غنائية غير موجودة في أصواتهم.
فمن الثابت علميًّا أن مصدر الصوت، في كل أشكال الأداء الغنائي العربي أو الأوروبي، هو الحنجرة. بعد خروج الصوت من الحنجرة، تؤثر عوامل أخرى في تحديد طبيعة الرنين النهائي للصوت، منها قدرة المطرب على التحكم في النفَس الخارج من الرئتين، والتحكم في استخدام تجاويف المناطق المحيطة بالحنجرة، والتي يتردد فيها الصوت.
المتأمل في غناء نجاة يجد أنها استخدمت كل هذه الأدوات المؤثرة في إخراج صوتها، بل إن أداءها في مراحلها الأولى كان يتلون وفقًا لمتطلبات اللحن وتنوع درجاته الموسيقية المختلفة. كل ذلك شكَّل في نظر محمد عبد الوهاب فرصة لا يجب أن تفوت، وهو القادر على التقاط كل الفرص العابرة.
نجاة: حبيبة منكسرة تغني للثورة
بدأ عبد الوهاب مسيرته اللحنية مع نجاة الصغيرة بأغنية «كل ده كان ليه»، والتي سجلتها نجاة في 13 مارس 1954، بأداء يغلب عليه الطابع الوهابي في الغناء.
إنها طقطوقة ذات مذهب قصير وغصنين متشابهين في اللحن. ورغم النمطية الظاهرة في هيكل تلك الأغنية، من حيث مضمونها الشعري أو اللحني، إذ صاغها عبد الوهاب من مقام «البياتي»، ولم يخرج منه إلا ملامسًا نغمات مقاربة لذلك المقام، فإنها خدمت الصوت والغناء الموقَّع والمرسل (أي دون إيقاع)، ما جعل عبد الوهاب يعيد تقييم نظرته إلى تلك الأغنية بعد ذلك.
ففي يونيو 1954، وبعد ثلاثة أشهر من تسجيل نجاة الأغنية، أعاد عبد الوهاب تسجيلها بصوته، ومنع إذاعتها بصوت نجاة التي لم تعترض لأن اللحن كان هدية من ملحنها.
حملت ألحان عبد الوهاب للسيدة نجاة التي قدمتها بين عامي 1954 و1960، سمة التوحد بين صوتها وشخصيتها في الحياة. فهي الحبيبة المنكسرة التي يترجم صوتها شاعرية الانكسار في «أمَّا غريبة»، وهي الشابة التي عبَّر صوتها المحدود عن آمال ثورة يوليو، بقدرات عاطفية، بعيدًا عن ترديد هتافات ثورية في «ولد العم يا جمال». غير أن ما كان يخبئه القدر لنجاة في مشروعها الغنائي مع عبد الوهاب كان أبعد من ذلك.
ففي 1960، وعبر وساطة من الشاعر إسماعيل الحبروك، كتب نزار قباني قصيدة «أيظن؟» لنجاة. ووفقًا لكتاب «نجاة الصغيرة»، فإنها عرضتها على كمال الطويل ومحمد الموجي لتحيلنها، لكنهما رفضا القصيدة بحجة أنها لا تصلح للتلحين، لتكتشف نجاة أن الموسيقار عبد الوهاب قد قرأ بالفعل القصيدة وشرع في تلحينها.
بعد ما يقرب من شهرين، كان عبد الوهاب أتم تلحين القصيدة لتغنيها نجاة لأول مرة في ليلة عيد الفطر 27 مارس 1960، في مسرح سينما ريفولي.
تكشف قراءة تجربة قصيدة «أيظن؟» عن تحول عميق في طبيعية القصيدة الغنائية عند عبد الوهاب، وتؤكد الثورية التي أرادها أن تتوج مسيرته في تلحين القصائد.
في بداية لحن القصيدة تختلط ضربات القانون المعبرة عن حالة البطلة بضربات الكونترباص الغليظة، التي تترجم خيبة العلاقة بينها وبين والبطل.
فعلى الرغم من أن عبد الوهاب لعب دورًا مهمًّا في تطور القصيدة الغنائية خلال الأربعينيات، حين لحن قصيدة «الجندول»، وخرج بها إلى المعنى والفكرة المقصودة، فقد ظل النص الشعري عند عبد الوهاب محتفظًا بكامل هيبته، ولم يخرج عن الأطر الشعرية المتعارف عليها. لكن مع «أيظن؟» اختلف التكوين النصي، وعلى أساسه سعى عبد الوهاب إلى تأسيس نص موسيقي يعبر عن تلك القصيدة بكل ما تحمله من ثورية وعصرية.
وزع عبد الوهاب مَشاهد القصيدة على ثلاث مراحل موسيقية متتالية، أولها: المقدمة الموسيقية الطويلة نسبيًّا، والتي حملت كثيرًا من عناصر الحداثة التعبيرية عندما استندت إلى جمل غير مألوفة، ولا ترتبط بأي سياق لحني.
ففي بداية اللحن تختلط ضربات القانون المتتالية والمعبرة عن حالة بطلة القصيدة بضربات الكونترباص الغليظة، والتي تترجم خيبة العلاقة بين البطل والبطلة، ما يمكن اعتباره حوارية موسيقية فريدة، تقمصت فيها الموسيقى لأول مرة روح بطل القصيدة الغائب عن النص الشعري.
يأتي المشهد الثاني ليمثل عاطفة القصيدة الرئيسية، وهي رفض العودة إلى الحبيب، إذ استعمل عبد الوهاب مقام «النهاوند» القادر على التلون بجميع المشاعر الإنسانية، فأضفى على اللحن تنويعًا في الدرجات الصوتية، وفي الانتقال بين الخفوت والجهارة لكل بيت، بل أحيانًا لكل كلمة.
يبدأ اللحن بأخفض الدرجات في بداية القصيدة، تصويرًا لصيغة السؤال الداخلي الذي تطرحه البطلة، ثم يتصاعد مع توالي الحوارات النفسية، حتى يصل اللحن إلى ذروته الإيقاعية عند مقدمة الكوبليه الثاني، فتصور نقرات الكمنجات التي توافقها ضربات القانون، حركة راقصة لدقات قلب البطلة التي يتطور الموقف بينها وبين حبيبها بعدما عاد حاملًا الزهور إليها معتذرًا.
يبدأ المشهد الثالث حين يتحول اللحن المرسَل في معظم مشاهد القصيدة السابقة إلى لحن على «البياتي» عند مقطع «حتى فساتيني التي أهملتها»، فتصور الموسيقي حركة البهجة التي تدور في نفس البطلة. بل إن «اللوازم الموسيقية» في ذلك المقطع، تترجم حركة الفساتين الراقصة، ويتصاعد اللحن مجسدًا نبرة التسامح التي بدأت تطغى على جو القصيدة، حتى نصل إلى درجة الاستقرار النهائي عند مقطع «إليه.. إليه ما أحلى الرجوع إليه» لتختم القصيدة بجملة المقدمة الموسيقية الرئيسية في ترابط ذكي يؤكد فكرة البناء الموسيقي التي اعتمدها عبد الوهاب في القصيدة.
فتاة رقيقة تحترف غناء القصائد
نجحت نجاة في تصدير صورتها التي ما زالت محفورة في الأذهان، حين غنت بلسان الفتاة الهامسة الرقيقة. غير أن أهمية أخرى تُحسَب لتلك القصيدة، إذ إنها كانت الإرهاصة الأولى لما سيكون بعدها من قصائد جمعت عبد الوهاب ونجاة الصغيرة، كان أولها «لا تكذبي» عام 1962.
مع نجاة الصغيرة، تجاوز عبد الوهاب شكل القصيدة الغنائية ونمطها، وساعده في ذلك صوت نجاة برغبتها في تطوير ذاتها.
ظهرت قصيدة «لا تكذبي»، من كلمات الشاعر كامل الشناوي، في فيلم «الشموع السوداء» عام 1962، عبر موقف سينمائي مناسب، وبعيدًا عن أسطورة «لا تكذبي»، وما ترويه الحكايات عن علاقة كامل الشناوي بنجاة الصغيرة، فقد فتح غناء نجاة لتلك القصيدة أبواب النقاش حول إمكانية تبديل الضمائر «الجندرية» في الغناء، خصوصًا بعد إذاعة تسجيل عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ للقصيدة.
بالمقارنة السريعة بين أداء نجاة للقصيدة داخل الفيلم وأدائها في الحفلات، نلمح حضورًا مختلفًا في الأداء. فنجاة التي تستحضر حالة الانكسار في الفيلم، يتحول غناؤها في الحفل إلى غناء طربي قائم بالأساس على استغلال عناصر التطريب التي وزعها عبد الوهاب بدقة في النص الغنائي.
فعلى الرغم من المقدمة المهيبة التي بدأت بذلك التآلف البديع بين البيانو والأوركسترا، والبداية الصادمة من مقام «العجم»، ونقطة الانتحاب الموسيقي عند جزء: «إني رأيتكما.. إني سمعتكما»، فإن المقطع الثاني من القصيدة حمل تطورًا في الحوار اللحني حين استعمل عبد الوهاب مقام «الراست» في مقطع «ماذا أقول لأدمعٍ»، قاصدًا تحوُّل الصورة الموسيقية من حالة الفجيعة والاستنكار إلى رثاء الذات، لكن في صياغة طربية.
من خلال تنوع اللوازم الموسيقية وتباين أدوارها، انتقل محمد عبد الوهاب عبر عدة مقامات في القصيدة حتى وصل إلى اللحظة الدرامية التي تكاد تشبه لحظة الذروة في أوبرا ميلودرامية، حين اختلط اليقين الشعري في مقطع «كوني كما تبغين لكن لن تكوني»، باليقين الموسيقي الذي صاغه عبد الوهاب من جميع درجات مقام «النهاوند» تقريبًا، فجاء الأداء في نمط أوبرالي جعل بعضهم يعتقد أن عبد الوهاب اقتبس ذلك المقطع من لحن «سرينا» لـ«شوبارت»، لكن إذا كانت الروح متشابهة بين اللحنين، فالتكوين والبناء مختلفان تمامًا.
مع نجاة الصغيرة، تجاوز عبد الوهاب شكل القصيدة الغنائية ونمطها، وساعده في ذلك صوت نجاة برغبتها في تطوير ذاتها، خصوصًا بعدما عبَرا معًا حالة الجدل حول قصيدتي «أيظن؟» و «لا تكذبي»، في نجاح غير مسبوق.
أصبحت نجاة مؤمنة بأن نجاحها مرتبط بعبد الوهاب ورؤاه الموسيقية. من هنا كان قرار إعادة تجربة «أيظن؟»، لينتج الثالوث (عبد الوهاب ونجاة ونزار)، ثلاثية ما زالت تشكل إحدى ركائز الرومانسية الغنائية الكلاسيكية:
1. «ماذا أقول له؟» (1965): صاغها عبد الوهاب من مقام «الحجاز كار كرد» بمقدمة صغيرة توحي بمنطق السؤال. ورغم محاولات عبد الوهاب ترويض كلمات القصيدة وإخضاعها لمزاجه الموسيقي، فإن الكلمات التي اختارتها نجاة من ديوان «الرسم بالكلمات»، طغت على عناصر القصيدة الغنائية بشكل عام، وسيطرت ألفاظها وصورها الحسية على النص الموسيقي، فاختفى التعبير الموسيقي الذي سبق واستخدمه عبد الوهاب في «أيظن؟» و«لا تكذبي».
اختفى أيضًا التوزيع في هيكل اللحن، وواكب أداء نجاة هذه الردة الموسيقية، فمال غناؤها للرصانة والرغبة في التطريب. لكن ظل نموذج القصيدة الغنائية عند نزار قباني ثابتًا على نهج «أيظن؟»، إذ بدأت القصيدة برفض عودة العلاقة العاطفية وانتهت بالرجوع والتسليم بالحب.
2. «متى ستعرف كم أهواك؟» (1970): اختارتها نجاة الصغيرة من ديوان «قصائد متوحشة»، وغنتها نهاية الستينيات. أُدرِجت ضمن أغاني فيلم «جفت الدموع» (1975)، وتعد نموذج القصيدة القصيرة التي تحولت إلى قصيدة مسرحية طويلة.
أسس عبد الوهاب فيها مقدمة موسيقية مدهشة تؤديها مجموعة من الآلات الشرقية والغربية، على مقام «النهاوند» ومشتقاته، في تنويعات لاستخراج ما في باطن المقام من جماليات.
3. «أسالك الرحيلا» (1990): آخر ألحان عبد الوهاب لنجاة، من مقام «الكُرد»، وارتبط بشبكة كبرى من المقامات والإيقاعات المختلفة. استغرق تلحين القصيدة ثلاث سنوات تقريبًا، إلى أن حدث التسجيل بنظام «التراكات» أو المسارات المتعددة، فسُجلت الموسيقى أولًا، ثم صوت نجاة.
وربما يكشف تسجيل عبد الوهاب على العود لهذه القصيدة، فكرًا موسيقيًّا كاملًا بأجزاء القصيدة حتى قبل أن تُوزَّع بشكل نهائي. فالمقطع يُلحَّن أكثر من مرة لتختار نجاة ما تشاء وما يناسب صوتها في تلك المرحلة المتقدمة.
نجاة وعبد الوهاب: نغني لك القصص
تظل أغنية «ساكن قصادي» من كلمات الشاعر حسين السيد، محطة فنية كبرى في مسيرة نجاة مع عبد الوهاب. فقد حققت بها نجاحًا جماهيريًّا واسعًا على الرغم من أنها تمثل حالة قصة حب غير سعيد.
إنها أغنية تستحق الوقوف أمامها باعتبارها تشكل خطًّا جديدًا في الأغنية العربية، إذ كانت فاتحة لمسار الأغنية القصصية التي لم تعد تحتاج إلى سياق درامي في فيلم، لتعبر عن قصته، بل أصبحت الأغنية قصة في حد ذاتها.
تشير بدايات عبد الوهاب الغنائية إلى محاولة أراد بها أن يسلك مسار الأغنية القصصية، عندما قدم مونولوغ «مريت على بيت الحبايب» (1932)، لكن المناخ الموسيقي المسيطر آنذاك، لم يكن يسمح بذلك الانحراف في تبديل شكل الأغنية العربية، ما جعل تجربة عبد الوهاب غير مكتملة.
مع قصيدة «أيظن؟» كُسِرت قيود كلمات الأغنية العربية، والتقط عبد الوهاب الخيط لينسج عددًا من الأغاني القصصية ذات الطابع الدرامي، مثل «ساكن قصادي» (1961)، وأغنية «فاتت جنبنا» (1974) لعبد الحليم حافظ.
تنوعت حالات العاطفة في «ساكن قصادي»، وتغيرت موسيقى عبد الوهاب للتعبير عن دراما الكلمات، فاحتوت الأغنية على طابع المناجاة والحوارية. بينما اتسم أداء نجاة أو بطلة الصورة الغنائية، بالتلون الصوتي، فيكسو صوتها الفرح مرة، وتنتقل لتصوير الفجيعة مرة أخرى، عبر مشاهد تتدرج من الابتهاج والفرح إل حالات الصدمة وخيبة الأمل.
تصاعد الموسيقى في «ساكن قصادي» بمقطع «شربت شرباتهم وأنا قاعدة بصَّالهم»، يعبر عن صدمة شديدة لبطلة الأغنية.
المقدمة الموسيقية من مقام «الكُرد»، إذ ظهرت في البداية جملة تمهيدية تؤديها الآلات الوترية في صورة ضربات تنذر برعب يتصاعد، تلي الضربات دخول القانون في حوارية بينه وبين الوتريات لمحاكاة معاندة القدر لحب الفتاة الصامت، ثم تبدأ نجاة الغناء من جواب المقام (أعلى درجاته الموسيقية) في مشهد تسيطر عليه المناجاة الذاتية.
المشهد الثاني يبدأ بلحظة الرعب التي مهدت لها بداية العمل. فالوتريات ترعد في خوف، ثم تشتبك مع جملة موسيقية لزفة شعبية، فتضعنا الموسيقي في المشهد، تغني نجاة بفطنة موسيقية، إذ تتدرج صحوة صوتها خلال البيت الأول في المقطع وكأنها تستيقظ من نوم، ثم تتصاعد الموسيقى عند مقطع «هللت من الفرحة» للتعبير عن مدى سعادة الكلمات، ثم تتباطأ ويستخدم عبد الوهاب الأداء المرسل لتصوير جملة «سألت قالوا جارك» الصادمة، التي تحوِّل مجرى حياة الفتاة والأغنية أيضًا.
المشهد الثالث والأخير، والأكثر قسوة وفجيعة، لم يقف عند صورة واحدة، بل شمل صورتين للحدث.
ففي البداية، تذهب بطلة القصة إلى فرح جارها محملة بالحزن. التصاعد الذي تشي به الموسيقى وهي تغني «شربت شرباتهم وأنا قاعدة بصَّالهم»، يعبر عن صدمة شديدة ونظرات حادة من بطلة الأغنية.
في الصورة الثانية، التي تبدأ عند مقطع «لحد ما قاموا ومشيت أوصلهم»، يتحول اللحن إلى ما يشبه النحيب الغنائي ليستخدم محمد عبد الوهاب جملة موسيقية بسيطة من مقام «البياتي»، يزخرفها صوت نجاة بنبرات الحزن تصويرًا لحال البطلة الضائعة المهجورة في طريق مليء بالدموع.
السينما الغنائية بوابة عبد الوهاب ونجاة الأخيرة
من اللحظة الأولى أدرك عبد الوهاب أهمية صوت نجاة وانحاز إلى طريقة أدائها المعبر عن عاطفة المرآة، فخصها بأفضل ألحانه.
بين عامي 1947 و1976 قدمت نجاة ما يقرب من 11 فيلمًا غنائيًّا، وفق ما ورد في «موسوعة الأغنيات في السينما المصرية» للكاتب محمود قاسم. في هذه الأفلام، تنوعت الألحان واختلفت أسماء الملحنين، وما إن ظهرت قصيدة «لا تكذبي» في فيلم «الشموع السوداء»، حتى صار للأغنية السينمائية وزن في مسيرة نجاة، بل إنها أصبحت بوابة لتقديم أغانيها الإذاعية عبر شاشة كبرى وجماهير أكبر.
كل هذا لم يغب عن بال عبد الوهاب الذي سيطر على اثنين من أهم أفلام نجاة السينمائية: «شاطئ المرح» و«7 أيام في الجنة»، فكانت السينما الغنائية مدخلًا لنجاح آخر بينهما.
قدم عبد الوهاب لنجاة في فيلم «شاطئ المرح» (1967) ثلاث أغنيات قصيرة: «آه لو تعرف» و«ع اليادي» و«القريب منك بعيد»، فتجاوزت قيمتها الغنائية في مسيرة نجاة قيمتها السينمائية.
أغنية «آه لو تعرف» التي سُجلت بأربع آلات فقط (الغيتار والقانون والرق والناي)، وأغنية «ع اليادي» التي استلهمها عبد الوهاب من التراث اللبناني، فدمج في مقدمتها الرق بأصوات الأجراس التي تميز الفلكلور اللبناني، ساعدتا الفرقة الماسية في تطوير آلاتها الشرقية، خصوصًا آلة الناي، ما جعل مهمة الدكتور يوسف شوقي أسهل عندما تولى التوزيع الموسيقي لأغنية «القريب منك بعيد»، ذات الملامح الشرقية، والتي تجاوزت الفيلم وصارت أحد أهم أغاني نجاة الطربية، بل والشعبية أيضًا.
في 1969، قدمت نجاة فيلم «7 أيام في الجنة»، وللمرة الثانية يسيطر عبد الوهاب على جميع ألحان الفيلم، عدا أغنية «دوارين» التي لحنها الأخوان رحباني.
لحَّن عبد الوهاب أغنيتي «يا مرسال الهوى» و«إلا أنت» التي يمكن اعتبارها أفضل ألحانه السينمائية لنجاة في تلك المرحلة، حين اختزلت مقدمتها فكرة الأغنية، فاستهل بالبياتي عن طريق نقرات من القانون دون إيقاع، لتدخل الوتريات بلازمة الأغنية الرئيسية على إيقاع المقسوم في حوارية بين الناي والفرقة، لتنتهي المقدمة بجملة موسيقية تصور الشجن، ما جعل عبد الوهاب يحاول تكراره في أغنية «دوينا حبايبنا»، وهي الأغنية الوحيدة لنجاة من ألحان عبد الوهاب في فيلم «ابنتي العزيزة.. شكرًا» عام 1971.
لم يكن عبد الوهاب موسيقارًا عاديًّا، ولم تكن نجاة مطربة عابرة في تاريخ الغناء العربي. فمنذ اللحظة الأولى أدرك عبد الوهاب أهمية صوت نجاة وانحاز إلى طريقة أدائها المعبر عن عاطفة المرآة وانكساراتها، فخصها بأفضل ألحانه، وقدم لها أكثر من 23 لحنًا بين الأغنية الكلاسيكية والعاطفية والوطنية والقصيدة.
في بدايات التسعينيات أعادت نجاة الصغيرة بعض أغاني عبد الوهاب القديمة، فسجلت بصوتها «يا مسافر وحدك» و«ماكنش على البال» و«محلاها عيشة الفلاح»، وهي التي سبق وأحيت له في الستينيات أغنية «ساعة ما بشوفك جنبي» بعد أن فُقِد تسجيل عبد الوهاب، فكان لنجاة في نفسه مكانة خاصة، إذ قال عنها في مذكراته: «إنها صاحبة الأداء المفكر»، ورأى تعاونه معها فتحًا جديدًا في مسيرته اللحنية، وعندما سئلت نجاة عن تجربتها مع عبد الوهاب، قالت: «أمسك عبد الوهاب بيدي ووضعها على ذاتي».
كريم جمال