نجاة الصغيرة: شجرة «الإحساس» التي طرحت شيرين عبد الوهاب
قديمًا، قبل اختراع الميكروفون، كانت قوة الصوت وحدها معيار جودة المطرب، فلا يستطيع صوت مهما بلغت حلاوته أو إحساسه أن يغني إلا لو كان يملك القوة والنفس الطويل. لكن الأمر اختلف بعد ذلك، وأصبح التعبير عن معاني الكلمات واللحن، والإحساس بهما، له دور لا يقل عن قوة الصوت، وغيرت التكنولوجيا من خريطة الأصوات كثيرًا.
الفنانة نجاة الصغيرة من أهم الأصوات التي شكَّل الميكروفون عنصرًا أساسيًّا في انتشارها، إذ تعتبر بداية لمدرسة في الغناء أنجبت مطربات يشاركنها نفس الاتجاه، بل وتتقارب أصواتهن معها.
أصل المدرسة النجاتية
يقول الدكتور نبيل شوره، الأستاذ بكلية التربية الموسيقية في جامعة حلوان، إن نجاة الصغيرة هي كبيرة الأداء الغنائي العربي «المستعار».
يُعتبر محمد عبد الوهاب أول من رسَّخ الأسلوب التعبيري في الغناء العربي.
يوضح شوره لـ«منشور» أن أسلوب الأداء الصوتي ينقسم إلى «صوت حقيقي» يخرج من الصدر والأحبال الصوتية، وآخر «مستعار» يخرج من الأنف وينبع من الرأس، أو ما يُعرف بالأداء الأوروبي، ويلجأ إليه غالبًا أصحاب الحناجر الضعيفة التي لا تستطيع أداء الجوابات العالية بالشكل الطبيعي، كما يظهر في أكثر من مقطع عند غناء نجاة قصيدة «لا تكذبي»، التي لحنها محمد عبد الوهاب، مثل «كوني كما تبغين...»، وغيرها من الأغاني.
اقرأ أيضًا: كيف نجا محمد عبد الوهاب من اتهامات سرقة الموسيقى؟
وفقًا لشوره، فأسمهان أول من قدم الأداء المستعار في أغنية «يا طيور» عام 1940، من ألحان محمد القصبجي، لكن أداءها في تلك الأغنية لم يكن لعجز في إمكانيات صوتها، وإنما لمحاولة نقل نمط الغناء التعبيري الغربي إلى غنائنا العربي، فصوت أسمهان من القوة بما يكفي ليصل إلى أغلب المناطق الصعبة بشكل طبيعي، وكذلك فإن أداءها للحن ليس بالبسيط.
ذلك الأسلوب لم يكن ليظهر لولا الموسيقار محمد عبد الوهاب، الذي رسخ للمدرسة التعبيرية في الغناء العربي، تلك المدرسة التي لا تعتمد على عضلات الصوت بقدر ما تعتمد على الإحساس بالكلمات واللحن والتعبير عنهما بالشكل الأمثل، فلا يهم أن يُطرب المستمع إلى موال، لكن الوصول إلى الارتجاف واهتزاز المشاعر نتيجة الكلمة واللحن هو المطلوب.
ما «الإحساس»؟
إحساس المغني في هذه الحالة هو الرسول إلى قلب المتلقي، بحسب ما ذكر المايسترو الدكتور رضا رجب، العميد الأسبق للمعهد العالي للموسيقى العربية، خلال حديثه لـ«منشور»، إذ يشير إلى أن الغناء العربي القديم تمتد جذوره إلى مُقرئي القرآن والمبتهلين أصحاب المساحات الصوتية العريضة والحناجر الخارقة، وهو ما تغير بعد ذلك.
لا توجد نظرية علمية في الغناء اسمها «نظرية الإحساس»، بحسب رجب، فأي مطرب أو مؤدٍّ لابد أن يكون حساسًا، يستطيع فهم الكلمة وتركيبها على اللحن وإيصالها إلى الجمهور، لكن رقة ورهافة الصوت مع ضعفه قد تُنبِّه أذن المستمع أكثر إلى المعنى، على عكس المطربة صاحبة الصوت القوي التي تخطف المستمع إلى إمكاناتها الصوتية، وتشغله نسبيًّا عن استشعار معنى الكلمة واللحن.
تميل شيرين لمدرسة الغناء التعبيري، لكنها لا تعتمد كثيرًا على الصوت المستعار.
يوضح رجب أن نجاة تلميذة نجيبة لعبد الوهاب، لافتًا إلى ما يثيره البعض بشأن تدخل موسيقار الأجيال في حياة نجاة الفنية منذ صغرها، فقد برزت موهبتها وهي ابنة العشر سنوات، وكان والدها يهتم بتدريب صوتها على الغناء، ويشركها في حفلات غنائية، فقدَّم محمد عبد الوهاب بلاغًا ضده في قسم الشرطة للتوقف عن ذلك، لأن التدريب في هذه السن يمنع صوت الطفلة الصغيرة من النضوج بشكل طبيعي.
«صوت الحب»، «عصفورة الجنة»، «الصوت الحنون»، «همس الرومانسية»، ألقاب أطلقت على نجاة ويمكن إضافتها إلى لقبها الأشهر «قيثارة الغناء العربي»، وكلها تعبر عن الإحساس المرهف لدى نجاة، الذي لا ينبع من صوت صاخب وإنما من همس، وكذلك كان يصفها محمد عبد الوهاب بـ«صاحبة السكون الصاخب»، معبرًا عن مدى الأثر الذي يتركه صوت نجاة رغم انخفاضه.
على خطى نجاة الصغيرة
يرى نبيل شوره أن الأداء المستعار الذي أبدعت فيه نجاة، بجانب الأداء الطبيعي، فتح الباب لعدد من المطربات اللاتي أتين بعدها وسرن على نهجها، ومنهن عفاف راضي وأنغام وحنان ماضي وهدى عمار وغادة رجب وشيرين عبد الوهاب وجنات، مشيرًا إلى أن شيرين، وإن كانت تميل إلى هذه المدرسة، فإنها أقلهن استخدامًا للأداء المستعار.
عفاف راضي
لم تكن عفاف راضي، التي اكتشفها الموسيقار بليغ حمدي وقدمها عام 1970، ذات إمكانيات صوتية ضعيفة، لكنها كانت تميل إلى الأداء المستعار إلى حدٍّ كبير، وأسهمت في ذلك بشكل أساسي دراستها للموسيقى الغربية في معهد الكونسرفتوار، وغناؤها كـ«سوبرانو» (الطبقة الأعلى في أصوات النساء) في أعمال أوبرالية، وهو نوع من الغناء يعتمد على الأداء المستعار بالأساس بحسب نبيل شوره، الذي يشير إلى أن أغنية «لمين يا قمر» كانت من أشهر الأغاني التي أدتها بهذا الشكل، وهي من ألحان بليغ حمدي.
قد يعجبك أيضًا: أصوات نسوية متمردة فوق مسرح الموسيقى المستقلة
أنغام
ضمن الألقاب التي حصلت عليها أنغام كان «قيثارة الوطن العربي»، وهو لقب يتشابه مع ما أُطلق على نجاة «قيثارة الغناء العربي»، وقد غنت أنغام لنجاة أكثر من أغنية، منها «أمَّا براوة».
تلجأ أنغام إلى الأداء المستعار كما كانت تفعل نجاة، وتكمن قوتها في أدائها التعبيري ورهافة حسها، ويظهر ذلك في أغانٍ كثيرة، مثل أغنية «مهزومة» التي تحتوي على جوابات عالية، بحسب الموسيقار رضا رجب.
حنان ماضي
درست حنان ماضي في معهد الكونسرفتوار، أي أنها تأثرت بالأداء التعبيري الغربي، الذي يستمد قوته من رهافة الحس والمبالغة في الحُنُوِّ.
يقول الدكتور خيري الملط، أستاذ الموسيقى بكلية التربية الموسيقية في جامعة حلوان، لـ«منشور» إن حنان من محترفي الأداء المستعار التعبيري، ويبدو ذلك في أغلب أغنياتها، ومنها «في ليلة عشق».
هدى عمار
الأداء التعبيري المستعار سمة من سمات غناء هدى عمار، تلميذة الموسيقار عمار الشريعي، ويتجلى ذلك في تتر مسلسل «هوانم جاردن سيتي»، أشهر الأعمال التي قدمتها، بحسب خيري الملط، الذي يشير إلى دور معهد الكونسرفتوار، الذي تخرجت فيه هدى، في تعليمها نمط الغناء الأوروبي والأوبرالي.
اقرأ أيضًا: حكايات ذاتية جدًا: عمار الشريعي.. وآخرون
غادة رجب
في مسلسل «السندريلا»، اختار المخرج سمير سيف الفنانة غادة رجب لأداء دور نجاة الصغيرة، وعبَّرت غادة عن سعادتها لتشبيهها بنجاة.
يؤكد خيري الملط أن غادة تنتمي لمدرسة الأداء المستعار، ويبدو ذلك في أغلب أغانيها، ومنها «لماذا؟»، التي لحنها كاظم الساهر وضمَّن فيها جوابات قوية.
شيرين عبد الوهاب
نُسب إلى شيرين تمنيها أن تكون «ربع نجاة»، وقد أعادت غناء عدة أعمال لها مثل «عيون القلب» و«طول عمري أحبك وأشكيلك»، وغيرها.
ويرى الدكتور نبيل شوره أن شيرين عبد الوهاب تستطيع الغناء بالأسلوبين المستعار والحقيقي، وتبرز بشكل قوي حين تردد ألحانًا ناعمة.
جنات
غنَّت جنات تتر مسلسل «عيون القلب»، المأخوذ من اسم الأغنية الشهيرة لنجاة. ويقول الدكتور نبيل شوره إن جنات من أصحاب الطبقات الضعيفة في الغناء، لكنها مرهفة الحس، وكثيرًا ما تعتمد على الأداء المستعار لتعويض ذلك.
نستطيع القول إن نجاة هي جذر لشجرة غنائية زرعها اختراع الميكروفون، ونماها الأسلوب التعبيري والأداء المستعار، وأثمرت هذه الشجرة أجيالًا ما تزال تطرب المستمعين بصدق «الإحساس» قبل قوة الصوت.
محمد حسين الشيخ