فيلم «Mother!»: فشل كل عناصر النجاح
«يا له من عالم مجنون نعيش فيه». هكذا افتتح المخرج «دارين أرنوفسكي» كلمته التي قدم بها فيلمه «Mother!» في دورة هذا العام من مهرجان فينيسيا السينمائي.
توافرت لهذا الفيلم كل عناصر النجاح: مخرج كبير مثل أرنوفسكي بتاريخ من الأعمال الناجحة، أشهرها «Requiem for a Dream» و«Black Swan»، وفريق عمل يضم أسماء كبيرة جدًّا مثل «جينيفر لورانس» و«خافيير بارديم» و«ميشيل فايفر» و«إد هاريس»، إضافةً إلى مدير تصوير عبقري كـ«ماثيو ليباتيك»، وفوق كل هذا موضوع مثير للجدل مُقَدّم بطريقة لا تقل في الجنون عن العالم الذي أراد أرنوفسكي تصويره.
رغم كل ذلك، فإن الفيلم كان وجبة فنية ثقيلة على أغلب المشاهدين، ولاقى فشلًا جماهيريًّا، وصنع حالة انقسام بين النقاد قلّما أحدثها فيلم قبله، فغاب على إثرها عن أغلب سباقات الجوائز العالمية.
ربما كان الفيلم رؤية فنية طموحة أكثر من اللازم، وغير مناسبة لذوق المشاهد العادي، لكنه على أي حال تجربة سينمائية فريدة من نوعها، وفيلم يستحق أن يكون من أهم أفلام 2017.
يكشف الفيلم البشر أمام أنفسهم بشكل فاضح، ويجبرهم على النظر في المرآة ليروا الجنون الذي أصاب العالم بأفعالهم، فيسبب شعورًا بين الذنب والخزي والعجز.
صُنِّف الفيلم على أنه «رعب»، رغم أنه لا ينتمي إلى تلك النوعية على الإطلاق. وربما كانت صعوبة تصنيفه من المشكلات التي واجهته بالفعل، فهو ليس فيلم رعب، لكنه يسبب حالة شديدة من عدم الارتياح للمُشاهد، أسهَم فيها ضيق مكان التصوير، وطريقة التصوير التي ركزت على اللقطات القريبة والضيقة بشكل يُقحم المُشاهد في الأحداث بطريقة مبالَغ فيها.
قد يهمك أيضًا: تاريخ تصنيف الأفلام عمريًّا
أسهمت في ذلك أيضًا لوحة ألوان الفيلم الداكنة، واستخدام الإضاءة الخافتة في معظم مَشاهده، والكيمياء غير المفهومة بين الشخصيات، ولمسات أرنوفسكي الميلودرامية، والرموز التي يحفَل بها الفيلم لدرجة تجعل المُشاهد يبحث عنها في كل كلمة ولقطة.
وربما هناك سبب آخر لتلك الحالة: المعضلة الأخلاقية التي وُضِعَ المُشاهدون فيها رغمًا عنهم.
يكشف الفيلم البشر أمام أنفسهم بشكل فاضح، ويجبرهم، دون نقاش، على النظر في مرآته ليروا الجنون الذي أصاب العالم بأفعالهم، فيسبب شعورًا بين الذنب والخزي والعجز، ويغذي سخط البشر على أنفسهم وعلى الآخرين، ثم يجعل المُشاهد يتساءل: كيف أخرج من كل هذا؟ كيف أبرئ نفسي من كوني جزءًا من ذلك الجنون؟ إنه فيلم يجعل المُشاهدين، بعد الانتهاء منه، يتمنون لو لم يكونوا جزءًا من هذا العالم.
Mother: الحكاية وراء الأم
لا حاجة لمن شاهد الفيلم إلى شرح الرموز الواضحة التي تتضمنها القصة والإسقاطات التي تحملها. فمن الطبيعي في السينما، أو في الفن بشكل عام، أن يكون لكل رمز دلالات متعددة يدركها كلُّ مُتَلَقٍّ بشكل مختلف. لكن في فيلم «Mother!»، خلق أرنوفسكي رموزًا لا تحمل إلا معنًى واحدًا، وأتاح للمُشاهد حرية تأويلها، والوصول إلى معناها متأثرًا بخلفيته الاجتماعية والثقافية والدينية.
يتساءل الفيلم عن جدوى الخلق، وهل نحن هنا لتسلية الإله ومنحه ما يحتاج من الاهتمام والعبادة والتعظيم، وفي سبيل ذلك نعيش كل المآسي والأزمات والأهوال؟
الفيلم يحكي قصة الأم (الأرض) التي جسّدتها جينيفر لورانس، وزوجها الذي يكبرها بأعوام هو الإله (خافيير بارديم). يعيشان وحيدين في بيت كبير معزول بحديقة عظيمة، إلى أن يقرر الإله أن يخلق آدم، ثم مِن ضلعه يخلق حواء، فتأتي ذريتهما على الأخضر واليابس في الأرض، يفسدون فيها ويسفكون الدماء. تحاول الأم أن تدافع عن بيتها الذي صنعته، وأن تجعله جنتها، وتلفت انتباه الإله إلى ما يصنعه بنو آدم لعله يوقفهم، لكنه لا يهتم حتى يحدث الطوفان العظيم، ويختفي الجميع، إلا الأم والإله.
بعد فترة ليست طويلة يعود البشر إلى الأرض وقد ارتبطوا أكثر بالإله الذي انتهى من كتابة رسالته، ثم شرع في إرسال أنبياء ينقلون تعاليمه إلى العالمين، فتحدث المعجزة المنتظرة، وتنجب الأم المسيح. تطلب الأم من الإله أن يطرد الزوار المتطفلين من المنزل، لكنه يصارحها بأنه لا يريدهم أن يرحلوا، بل ويأخذ المسيح منها ويرسله إليهم، فيقتلونه في مشهد غاية في الدموية. تفقد الأم صوابها وتدمر المنزل بمن فيه، فلا ينجو أحد إلا «هو»، فيطلب منها أن يأخذ الحب من قلبها ليعيد خلق كل شيء كما بدأه في أول الفيلم، وتتكرر دورة الحياة إلى ما لا نهاية.
تصوير الفكرة معقد إلى درجة أن بعض الممثلين لم يفهموا النص إلا بعد فترة من التصوير، وتحمل الفكرة في طياتها كثيرًا من الرموز والفلسفات، مثل علاقات القوة بين الجنسين، وعلاقة الإنسان بالطبيعة والإله والأديان. لكن ربما أهم فكرتين طرحهما الفيلم هما عبثية الوجود الإنساني، وتصور الإنسان عن الإله، ذلك التصور الذي يتغير عبر العصور.
قد يعجبك أيضًا: هكذا خُلق الشر: الشيطان في الحضارات القديمة
نظر أرنوفسكي حوله فوجد صراعات دامية، وحروبًا لا يبدو أن لِبَطشها نهايةً قريبة، ثورات تندلع وأخرى تُقمَع، عنصرية وتمييز في كل مكان، مجاعات وأزمات اقتصادية، خريطة عالم تتغير وتصبح أكثر انقسامًا، حُكامًا معتوهين يقودون العالم إلى حافة الدمار، وفي كل هذا يكون الإنسان الجاني والضحية في الوقت نفسه. ملايين البشر يلقون حتفهم لأسباب وبأشكال مختلفة في كل بقاع تلك الأرض. دفعه ذلك إلى التساؤل في الفيلم عن جدوى الخلق وسبب وجودنا، وما إذا كان السبب يستحق كل المآسي والأزمات والأهوال التي نعيشها في عالمنا اليوم.
أسلاف أرنوفسكي
طرح نفس التساؤل من قبله «صامويل بيكيت»، حين كتب رائعته «في انتظار غودو» عام 1953، التي كانت انطلاقة لحركة مسرحية جديدة في أوروبا والعالم، هي مسرح العبث، الذي قام بالأساس على فكرة اغتراب الإنسان عن موطنه الأرض، وعن باقي البشر، وحتى عن نفسه، فأخذ يتساءل عن جدوى وجود الإنسان، وإلى أي مدى كانت عملية الخلق عبثية وعفوية وعشوائية. رأى بيكيت أن العالم قابع في انتظار «غودو»، ذلك الذي لا ولن يأتي.
صور الفيلم الإله كرجل متسلط على زوجته التي تحبه، يشعر بالملل من وحدته، وبالشك في قدرته على الخلق والإبداع، ربما بالحاجة إلى الاهتمام والتقدير.
كانت الحرب العالمية الثانية، ببشاعتها، وأهوالها، والأرواح التي أُزهِقَت فيها، سببًا في إلهام جيل من الفنانين والأدباء، وعلى رأسهم بيكيت، إذ أثارت في نفوسهم الأسئلة والشكوك عن مدى جدية الهدف من خلقهم ووجودهم في تلك الحياة. وبالكيفية ذاتها، كان للحروب والمجازر وأزمة اللاجئين والمجاعات التي نشهدها اليوم نفس التأثير في العالم، وفي تصور الإنسان عن نفسه وعن حياته. وبالطبع ألهمت أيضًا كثيرًا من الفنانين، وأثارت فيهم نفس الشكوك التي عَبّر عنها أرنوفسكي في فيلمه.
تأخذنا تلك الفكرة إلى الأخرى، وهي تصور الإنسان عن الإله، وتصور أرنوفسكي كمثال.
لطالما كانت الذات الإلهية موضع تساؤل وافتراض ودراسة منذ بدء الخليقة، فتصور الإغريق والرومان آلهتهم يتصارعون في ما بينهم، ويحبون، ويكرهون، ويثأرون لأنفسهم كالبشر تمامًا، لكنهم ذوو قدرات خارقة وبأس شديد، يقررون مصائر عبادهم وأقدارهم. وجسّد المصريون القدماء والفُرس آلهتهم في قوى الطبيعة من حولهم، ليفسروا الظواهر الخارجة عن إرادتهم وفهمهم، والحاكمة لظروف حياتهم اليومية، فأخذوا يتقربون إليها ليتقوا شرها، ويضمنوا العيش في سلام معها.
ثم ظهرت الأديان الثلاثة لتُحدِثَ تغييرًا جذريًّا في مفهوم الإنسان عن الذات الإلهية، فوحّدتها في إله واحد، وتسامت بها عن صفاتها البشرية، وأضفت عليها مزيدًا من القدسية والجلالة، لكنها منحتها غموضًا عزل الإله عن البشر بمرور العصور، وأعطت فرصة لبعض منهم كي يتجبّروا باسمه على باقي الخلق. نَفَرَ كثير منهم من فكرة الإله الذي يحكِّم شِرار خلقه في أرضه، ونقضوه بالكلية، وبقي بعضهم على إيمانه بوجوده، لكنهم وصلوا إلى أنه ليس بالقدسية ولا القوة التي تخيلوها وقرؤوها في أساطير الكتب المقدسة.
اقرأ أيضًا: «قتل غزال مقدس» و«أُم!»: معضلة الألوهية ومعنى الإله
نرى في الفيلم الإله الرجل المتسلط على زوجته التي تحبه، يشعر بالملل من وحدته، أو ربما يشعر بالشك في قدرته على الخلق والإبداع، أو ربما بالحاجة إلى الاهتمام والتقدير، فيخلق الإنسان، ويحبه، ويغفر له هفواته وزلاته. تجعله أنانيته يتجاهل نداءات زوجته المتكررة وتوسلاتها بأن يطرد البشر من بيتهم وجنتهم التي أفسدوها، لكنه ما زال في حاجة إلى مزيد من التعظيم، فيترك الإنسان يرتع في خيرات أرضه، ويرحب بذلك، بل ويلوم على زوجته كرهها لمخلوقه الجديد الذي أتي خصيصًا من أجل عبادته وتعظيمه.
مع الوقت ومرور أحداث الفيلم، نرى الإله عاجزًا عن كبح جماح البشر وشرهم المستطير، ويحاول أن يتجاهل كل الصراعات والدمار والدماء، حتى بعد قتلهم لوليده لم يغضب، أو يعاقبهم، بل طلب من زوجته أن تغفر لهم، وتتفهم ندمهم على فعلتهم. ثم في النهاية، وبعد أن ثارت الزوجة والأم، وانتقمت لنفسها وبيتها، ودمرت كل شيء حتى نفسها، نرى الإله في سلوك طفولي يريد أن يعيد الخلق من حيث بدأه ليسلي عن نفسه ملل الوحدة، وأملًا في السيطرة على الموقف في المرة القادمة، فلا يصل إلى تلك النهاية مجددًا، لكنه يظل يدور في نفس الدائرة المفرغة إلى ما لا نهاية.
هكذا صَوّرَ المخرج إلهه في الفيلم، نراه كمفعول به وَرَدّ فعلٍ أكثر من أي شيء آخر. وهكذا عَكَسَ الفيلم المدى الذي وصل إليه البشر في إزالة كل قدسية أحاطت يومًا بذلك الإله، وتجريده من كل صفاته التي تجعل منه إلهًا جديرًا بالعبادة من مخلوقاته. صَوّرَ علاقته بالإنسان الضعيف المجرد من حقه في الاختيار، الذي أتى إلى هذا العالم في عبثية، لا لشيء إلا ليسلي إلهًا ملولًا، ويغذي حاجته إلى التوقير والتقدير.
أراد أرنوفسكي أيضًا، انطلاقًا من اهتمامه بقضايا البيئة، أن يحذرنا من نتائج أفعالنا والفظائع التي نرتكبها كل يوم في حق الطبيعة، ويذكِّرنا بأنها لن تغفر وإن كانت تصبر على انتهاكاتنا، وقريبًا سترد الصاع صاعين وتدمر كل شيء.
يرى الرجل أن هذا جزء من طبيعة الطبيعة ذاتها، ولذا تعمّد تجسيدها في شخصية الأنثى، التي قد تبدو عاجزة أمام جنون البشر لكنها في لحظة قد تغير كل شيء. استلهم أرنوفسكي تلك الفكرة من قراءته لكتاب «Woman and Nature: The Roaring Inside Her»، أحد أهم ما أَنتج الأدب النسوي في القرن الماضي، والذي نظرت كاتبته إلى العالم بعين امرأة، فرأت ما تتشارك فيه الطبيعة والمرأة من حيث كونهما أصل الحياة ورمزًا للثورة وضحية للتسلط الذكوري منذ القِدم.
قد نتفق أو نختلف مع طرح الفيلم وأفكاره، قد نرى أن جينيفر لورانس لم تكن الاختيار الأمثل، قد نرى أن الفيلم يعادي ذوق المشاهد العام بغرابته وبعض مشاهده المستفزة، لكن لا يمكننا أن ننكر أننا أمام مخاطرة فنية من العيار الثقيل ستؤثر بشكل أو بآخر في صناعة الأفلام في المستقبل القريب، ويجب تقديرها وتشجيع مزيد من صُناع الأفلام على خوضها بدلًا من الركون إلى الأعمال السهلة التي تستميل الجمهور دون أن تقدم جديدًا.
«Mother!» فيلم قدم فيه أرنوفسكي روايته الخاصة للكتاب المقدس وحملها بكل آراءه وتصوراته. فيلم يحملنا على الترقب والسؤال، رغم أننا على معرفة تامة بالقصة. يثير انتباهنا لأدق التفاصيل والكلمات والرموز، يصيبنا بالتوتر لاعتماده على الحوار وحركة الممثلين في خلق الصوت، يستغني عن موسيقى تصويرية كان يمكن أن تخفف من وطأته، يستفز العقل، ويحمله على التفكير والتأمل في معنى الحياة ووجود الإنسان، وعلاقته بموطنه الأرض، وعلاقته ببني جنسه، وتصوره عن خالقه، وعلاقته به.
محمود صبري