«مقتل غزال مقدس» و«أُم!»: معضلة الألوهية ومعنى الإله

لقطة من فيلم «The Killing of A Sacred Deer» - الصورة: Element Pictures

ممدوح صلاح
نشر في 2018/02/06

في العام السينمائي 2017، قُدِّمَ فيلمان يتحدثان بشكل مباشر عن علاقة الإله بالإنسان، هما «The Killing of a Sacred Deer» (مقتل غزال مقدس) و«Mother!» (أُم!)، لمخرجين حققا كثيرًا من النجاح في إيضاح ملامح مشروع كلٍّ منهما السينمائي على اختلافه، اليوناني «يورغوس لانثيموس» والأمريكي «دارين أرنوفسكي». وبينما كتب أرنوفسكي فيلمه بالكامل، شارك لانثيموس في كتابه فيلمه.

تجاهلت أكاديمية الأوسكار الفيلمين في ترشيحاتها، لكن «مقتل غزال مقدس» نال نصيبه من الاحتفاء، بفوزه بجائزة أفضل سيناريو وترشحه للسعفة الذهبية في مهرجان «كان» في دورته الماضية. بينما لاقى «أم!» استقبالًا فاترًا من النقاد والجمهور، يمكن وصفه على أفضل تقدير بأنه استقبال استقطابي.

المثير في الأمر أن كلًّا من المخرجَيْن اختار موقعًا فكريًّا معاكسًا تمامًا للآخر، ما يجعل المقارنة بين رؤيتيهما، على مستوى السيناريو تحديدًا، أشبه بمحاورة متعددة الأوجه لمسألة أزلية.

تنص «مشكلة الشر» الفلسفية الشهيرة على أن وجود الشر والمعاناة في العالم يتنافى مع فكرة وجود إله «كُلي المعرفة» و«كُلي القدرة» و«كُلي الخيرية» في الوقت ذاته، وإلا لكان قد مَنع وجود الشر نهائيًّا، إذا كان «يعرف» بوجوده و«يريد» منعه و«يقدر» على ذلك. ويحاول الفيلمان طرح المسألة نفسها، لكن عبر ديناميكية مختلفة كثيرًا من حيث موقع الشخصيات وتفاعلاتها.

Mother: ماهية الإله

لقطة من فيلم «Mother!» - الصورة: Protozoa Pictures

يناقش أرنوفسكي في آخر فيلمين له، «Noah» و«أم!»، ماهية الإله من داخل المنظومة الثيولوجية «الدينية المقدسة» نفسها، فيعترف طواعيةً بالعهد القديم والجديد، ويحاول البحث عن رؤيته من تلك الزاوية. وهذا ما يجعل أفلامه، على أقل تقدير، مثيرة للاهتمام. وبينما يذهب «نوح» إلى الشكل التقليدي من الملحمية التجارية، يستغرق «أم!» في الترميز، ثم تأكيد رموزه من جديد، وتحريك الدراما من خلالها، ليصبح، في كثير من الأوقات، مجهودًا ذهنيًّا خالصًا لا يمكن الحكم فيه على الدراما، أو الجماليات السينمائية وحدها، من دون قراءته من نفس المنطلق الرمزي.

ينطلق «أم!» من فرضية الندية بين الشاعر وقوانين الطبيعة، وإن كانت هذه الرؤية تختفي أمام سلبية الأم وموقفها من الأحداث.

يقول أرنوفسكي إنه كتب فيلمه في أيام قليلة، ويبدو هذا واضحًا من التركيب السينمائي الأشبه بكابوس راود مخرجه. ومع استمرار أحداث الفيلم، يتضح أنه أيضًا يحمل نفس سمات الكوابيس من حيث فقدانها للتماسك المنطقي، وتفوقها في خلق جو عام ومشاعر حادة مشحونة.

يقدم «أم!» صورة شديدة التجريد لبيت في مكان بعيد ومنعزل، تسكنه الأم وزوجها الشاعر، ويعيشان في سلام وهدوء، حتى يحضر إلى المنزل رجل وامرأة كضيوف. يرحب الشاعر بضيفيه، بينما تُظهِر الأم تخوفًا من تطفل الضيفين وتجرؤهما على المنزل الهادئ. بعد قليل يحضر إلى المنزل ابنا الرجل والمرأة، وتنشب بينهما مشاجرة، فيقتل أحدهما الآخر «في إحدى أكثر لحظات الفيلم مباشرةً في تقديم الرمز». ثم يتدفق إلى المنزل عدد آخر من البشر، ويبدأ الشاعر في استقاء إلهامه من هؤلاء الزوار، ويكتب إليهم أشعاره التي يحتفون بها.

هكذا يتوافد بشرٌ آخرون للاحتفاء بالشاعر العظيم، ويتحول المنزل إلى مكان شديد الازدحام والفوضى، تشعر فيه الأم بالضياع والخوف من هؤلاء المعتدين، حتى ينتهي كل شيء إلى دمار شديد.

ينطلق الفيلم من فرضية تبدو جذابة، وهي تلك الندية بين الشاعر وقوانين الطبيعة، وإن كانت هذه الرؤية تختفي سريعًا أمام سلبية الأم وموقفها المتفرج من الأحداث.

يظهر أول ما يعاني منه الفيلم: اختلاط الرمز، ففي بعض الأحيان تشير الأم إلى الطبيعة، وفي أحيان أخرى ترمز إلى العذراء مريم، وفي أوقات ترمز إلى طاقة الحب غير المشروطة. وهو ما كان يمكن تجاوزه إذا كان هذا الخلط يخدم الفكرة التي يحاول الفيلم أن ينقلها.

لكن الحقيقة أنه لا توجد فكرة جديدة، أو براقة، خلف أطنان الرمزية وهذه الإحالات التوراتية العديدة. فما يقوله الفيلم فكريًّا هو خواطر سطحية حول أمور عدة لا تتجاوز في عمقها عبارة «أن الإنسان يقتل البيئة بتصرفاته العدوانية المتهورة».

لقطة من فيلم «Mother!» -الصورة: Protozoa Pictures

يحل فيلم «أم!» مشكلة الشر هنا (بالتأكيد) على أنه ناتج بفعل الإرادة الحرة للإنسان، بينما الإله يسمو فوق تلك التعريفات البشرية للخير والشر، ولا يمكن (بالتأكيد) وصفه بأنه «كُلي الخيرية». فلا يبدو أنه يهتم بتلك العلاقة المعقدة الناتجة من تفاعل البشر والطبيعة من حولهم، بل ويرى في كل ما يحدث فرصة لإلهام جديد. يفتقد أرنوفسكي أي تعاطف مع أيٍّ من أطراف الفيلم، إلا الأم التي ينقل الأحداث كلها من منظورها.

ربما كانت هذه التقليدية في أفكار الفيلم، وإصراره على وضع رمزياته في موقع الصدارة منه، ما جعل كثيرين يتجاهلون تفوقه على المستوى التنفيذي والبصري. فالرحلة الدائرية التي يصنعها أرنوفسكي، بدءًا من الديكورات المنغلقة، وحركة الكاميرا الحرة المتجولة خلف الأم في أروقة المنزل، تجعل من المشاهدة سيرًا مستمرًّا داخل متاهة مظلمة تصيبك بالدوار، وتوقعك أسيرًا لأداء «خافيير بارديم» لشخصيته الآسرة التي تتغذى على السيطرة على الآخرين. وبمَشاهد اجتياح البشر للمنزل البارعة إخراجيًّا، تكتمل دائرية الفيلم لينتهي، بالضبط، من نفس النقطة التي بدأ منها.

قد يهمك أيضًا: فيلم «Mother!»: فشل كل عناصر النجاح

Sacred Deer: انتصار التعبير على النص المقدس

اسم فيلم «مقتل غزال مقدس» تفسره مسرحية يَقتل فيها الملك غزالًا مقدسًا، فتطلب منه الآلهة التضحية بابنته الكبرى، وتحمل القصة تشابهًا مع الخط العام للفيلم.

المقاربة الرمزية في عالم المخرج يورغوس لانثيموس ليست بنفس الصراحة، لكنها حاضرة. فلا يمكن تفسير قصة «مقتل غزال مقدس» من دون اللجوء إلى بُعد سيريالي أو أسطوري. وعلى الرغم من أن وقائعها نفسها تدور في الحاضر، وفي مدينة معاصرة، فإنه وضع حاجزًا واضحًا بينك وبين المعايشة والتصديق، عبر الأداء التمثيلي الجاف والنظرات الزجاجية، واختفاء الحياة من كل تفاصيل الفيلم.

شيء ما يدور في رأسك طوال الوقت، ويقنعك بأن من تراهم على الشاشة ليسوا في الحقيقة بشرًا مثلنا كما يبدو ظاهرهم. وربما كان الفيلم سيصبح أكثر مأساوية وثقلًا بكثير إذا تُرِكَ لممثليه مساحات تعبيرية أوسع، وربما كان هذا سيُغرق المشاهدين في الميلودرامية، ويقودهم بعيدًا عن الفكرة الأساسية والنظر إلى الصورة الكلية.

اسم الفيلم تفسره مسرحية «إيفيجينيا» للشاعر الإغريقي «يوربيديس»، وفيها يقتل الملك «أجاممنون» غزالًا مقدسًا من مرعى الإلهة «أرتيميس»، فتطلب منه الأخيرة التضحية بابنته الكبرى.

تحمل القصة تشابهًا مع الخط العام للفيلم: الطبيب يقتل مريضًا في أثناء إحدى العمليات، وهو تحت تأثير الخمر، فيطلب منه ابن ذلك المريض أن يضحي بأحد أفراد عائلته في المقابل، أو ستموت عائلته كلها تدريجيًّا. تبدو كإحدى قصص «العاقبة الأخلاقية» أو «الجزاء من جنس العمل»، لكن هناك طرحًا خفيًّا يظهر خلسة من بين السطور.

ماذا لو كان الفيلم يعيد سرد الأسطورة الشهيرة، ولكن بالعكس؟

إشارات متناثرة توحي بأن الطبيب يلعب هنا دور الإله، أو على الأقل تجسيدًا للقوة المطلقة. يبدأ الفيلم وهو يعيد الحياة لمريض على طاولة العمليات، ويبدو شخصًا مُحِبًّا لأسرته، يعيشون حياة هادئة تستسلم فيها زوجته تمامًا لرغباته (في مشهد مثير للاهتمام والتأمل) حتى يظهر في حياتهم الفتى، الشيطان الصغير. بشكل ما، يخفق الطبيب في إحدى عمليات «الخلق»، فيوجد ذلك الشيطان. ونراه في لمحات متكررة يغار من صانعه، ويحبه، ويرغب في الانتقام منه. يعلق على قوة الطبيب ورجولته، ويعجب كذلك بيديه الماهرتين البارعتين في الجراحة.

يبدأ الفتى في التسلل إلى حياة الطبيب وعائلته، العائلة المتصارحة مع بعضها بعضًا إلى حدٍّ لا يُصَدّق، إلى حدٍّ يليق بخالق ومخلوقاته، لا طائل من تخبئة الأفكار في ما بينهم. فيبدأ باستمالة الابنة في مشهد ذي دلالة، تغني له فيه تحت شجرة وارفة في حديقة واسعة. وبعدما يصبح واحدًا من أفراد الأسرة ينتشر بينهم ذلك الوباء الغامض، وتظهر سيطرته على حركتهم، تلك السيطرة التي يؤكد المؤلف أنها سيطرة «رمزية» أو «عقلية» يمكن تجاوزها حين يشاء الفتى، في المشهد الذي تقوم فيه الابنة من الفراش مؤقتًا، فهي ليست سيطرة يمكن إدراكها من خلال الإطار المادي أو العلمي.

في الفصل الثالث من القصة، يتحول أفراد الأسرة إلى «بشر»، بكل المعنى المجازي والحرفي للكلمة، فتبدأ انفعالاتهم في التصاعد، ويغرقون في أفعال مستميتة لكي يجنِّبَهُم الأب المصير البشع. تظهر الأنانية البشرية حينما يحاول كل منهم استرضاء الأب لينجو بنفسه، حتى الأم والإخوة. ويظهر الاستسلام للقَدَر حين تقول الابنة لأبيها إنه هو من أعطاها الحياة، وهو الوحيد الجدير بانتزاعها منها.

يقدم لانثيموس حَلّه الخاص لمعضلة «الشر» من وحي مراقبته للبشرية، وليس من منطلق قناعات أو تفسير. الحل العبثي هنا هو العشوائية. فالحياة ليست غائية، وليس كل الشر محكومًا بغرض أسمَى.

يجمع الطبيب زوجته وأبناءه في صالة المنزل، ويعصب عينيه، ويطلق النار عشوائيًّا لأن أحدهم يجب أن يموت. وبعد هذا الحدث الدامي الذي ينتهي بمقتل أحد أفراد الأسرة، نراهم جميعًا في مطعم للمأكولات السريعة جالسين، والفتى «الشيطان» يجلس بعيدًا في هدوء، يتبادلون النظرات من دون أن يقدر أحد الطرفين على إفناء الطرف الآخر، في إيحاء مظلم باستمرارية وأبدية هذه العلاقة.

من دون غاية كبرى، أو حياة أخرى تبرر وجود الشر كمنظومة داخل الحياة الصغرى تحدد الثواب والعقاب، بالتأكيد ستصبح معاناة الإنسان غير ضرورية، تكون «خطأً» من الأفضل تجنبه. لكنه خطأ يحدث، ويتطلب نوعًا من التعويض الذي قد يصيب الأبرياء، بشكل أقرب إلى فكرة الاتزان منه إلى فكرة العدالة. بينما يرى أرنوفسكي هدفًا كبيرًا لتلك المعاناة، ويراها من صميم درامية حياة البشر، لكنهم هم من صنعوا تلك المعاناة بأيديهم، والمستفيد منها هنا هو المُشاهد والمُراقب، الذي يمكنه أن يستلهمها في خلق الأفكار والفن والشعر.

مواضيع مشابهة