الزمن الذي يهزم «سبيلبرغ».. الزمن الذي يقاومه «سكورسيزي»
في منتصفِ ستينات القرن العشرين أصدر المخرج الفرنسي «فرانسوا تروفو» (François Truffaut) كتابه الحواري مع المخرج الكبير «ألفريد هيتشكوك» (Alfred Hitchcock) في فرنسا تحت عنوان «السينما تبعًا لألفريد هيتشكوك»، قبل أن يُعرف في العالم بعد ذلك باسم رمزَيْه السينمائيين؛ «هيتشكوك/تروفو».
محاورات الكتاب تتناول بالتتابع أفلام «هيتش»، من الصامتة في بريطانيا حتى آخرها عام Marnie) 1964)، الذي عُرض قبل صدور الكتاب بعام ونصف.
بعد وفاة «هيتشكوك» عام 1980، صدر الكتاب بطبعة أخرى تحمل مقالًا ختاميًّا بديعًا من كتابة «تروفو» عن الحوار عمومًا، وعن الست عشرة سنة الأخيرة في حياة «هيتش» خصوصًا، يحاول فيه التقاط السبب الذي أدى لأُفول نجم «المخرج الأنجح في هوليوود خلال عَقدَيِ الخمسينات والستينات»، وإيجاد إجابة لسؤال: لماذا لم يخُرج فيلمًا ناجحًا طَوَال 16 عامًا؟
«تروفو» ذكر السبب صراحةً لكن بتأدب حقيقي: الشيخوخة.
«كيف علينا أن نتعامل مع شيخوخة الرجال العظماء؟ هؤلاء الذين فعلوا كل شيء وكبروا الآن، ولكن قرروا البقاء داخل الحلبة؟». كان «تروفو» يتحدث عن «تغير المزاج العام»، وأن لياقة «هيتشكوك» وصحته وذهنه لم تعد كذي قبل، وأن الشباب الصغير كان يضحك عام 1972 عند عرض فيلم (Frenzy) في قاعات السينما، وأن الفجوة اتسعت على الأغلب بين ما كان يقدمه «هيتشكوك» حينها وإيقاع الزمن في المُقابل.
من الواضح أن الزمن يهزم الناس، يهزم أغلبهم على الأقل، خصوصًا في السينما؛ لأن صناعة الأفلام أمر صعب للغاية. لستَ شاعرًا أو روائيًّا ستمسك قلمًا وتكتب في غرفة مُغلقة تستحضر فيها ما عشته ورأيته، ولستَ رسامًا أو موسيقيًّا يمكن أن تُبقي لياقتك وتتحرك وحدك، فالأفلام «صناعة» فعلًا، وصناعة قاسية تتعامل فيها مع العشرات وأحيانًا المئات أو الآلاف، والزمن قاسٍ، وحتى العظماء يشيخون.
«سبيلبرغ» العالق في زمن آخر
أُقدِّر «ستيفن سبيلبرغ» كثيرًا، أحبه كشخص أكثر حتى من محبتي لأفلامه، له فضل حقيقي على السينما، شغف ومحاولة مستمرة للتطور، من المستحيل تخيُّل وجود ما يسمى بـ«أفلام الصيف» (الميزانيات المرتفعة، والإيرادات القياسية التي تدفع «الصناعة» للأمام، وتسمح حتى بفرصة أكبر لسينما مستقلة تعمل على الهامش) دون «سبيلبرغ»، ودون فيلم مثل (Jaws) عام 1975، بالانقلاب الذي حققه ودفع به السينما خطوة شعبية أكبر.
ومن المستحيل تخيُّل صنف كـ«الخيال العلمي» دون البصمة التي وضعها عليه «سبيلبرغ»، سواءً كانت علمية رصينة مثل (Close Encounters of the Third Kind)، الذي قام ببطولته «فرانسوا تروفو» نفسه عام 1977، ويؤثر لم يزل في أفلام مثل (Arrival) عام 2016 بعد 39 سنة من إنتاجه، أو كانت إنسانية وخيالية مثل (E.T. the Extra-Terrestrial) عام 1982، وهو جزء مهم وأصيل من تاريخ السينما.
ولكن في الاثنتي عشرة سنة الأخيرة، بدا أن «سبيلبرغ» أصبح خارج الزمن قليلًا، فقد قدرته الاستثنائية على «صنع الموضة السينمائية» وأصبح عاجزًا حتى عن الاقتراب مما يحدث. فمنذ فيلم (Munich) عام 2005 والرجل يصنع أفلامًا تجارية تشعر أنها منتمية للحظة زمنية أخرى، يمكن لها أن تنجح بشدة لو صُنعت في الثمانينات أو التسعينات، ولكنها الآن تفشل ببساطة؛ لأن إيقاع الزمن أسرع كثيرًا من حركة صاحبها، وهو ما زال متحجِّرًا في نقطة أسبَق.
قد يهمك أيضًا: «يواكيم تريه»: ما الذي سيبقى بعد نهاية كل هذا؟
ومع استبعاد فيلميه التقليديين ذوي البناء الكلاسيكي جدًّا (Lincoln) عام 2012 و(Bridge of Spies) عام 2015، يمكن أن نُصبح في الصورة ونرى كيف أن الرجل يتحرك وكأنه في زمن آخر.
أعاد «سبيلبرغ» إنتاج القصة الكلاسيكية (War of the Worlds) عام 2005، ثم حاول استعادة مجد شخصية «إنديانا جونز» القديم في فيلم (Indiana Jones and the Kingdom of the Crystal Skull) عام 2008، مستعينًا بالأجواء نفسها والسمات والكوميديا وحتى الشكل البصري للأجزاء القديمة دون أن يقترب من أهميتها، واقتبس كلاسيكية (The Adventures of Tintin) في 2011 وفشل.
حاول كذلك صنع قصة عاطفية مؤثرة في غمار الحرب العالمية عن فتى يريد إنقاذ حصانه في (War Horse) عام 2011، ولم ينجح في ترك أثر يذكر، وصولًا إلى فيلمه الأخير الذي صدر في 2016، والذي يُعبِّر تمامًا عن توقف حركته مع الزمن: (The BFG).
في (The BFG)، يحكي «سبيلبرغ» عن علاقة صداقة بين طفلة تُدعى «صوفي» وعملاق لطيف. منذ اللحظة الأولى يبدو الشبه واضحًا بينه وبين «إي.تي»، الذي يحكي عن صداقة بين طفلين وكائن فضائي «لطيف» أيضًا، الأجواء نفسها والروح وطبيعة المَشَاهد.
وحين نعرف بعد ذلك أن «ميليسا ماثيسون» (Melissa Mathison) كاتبة «إي.تي» هي نفسها كاتبة «بي.إف.جي»، تصبح الأمور أوضح: «سبيلبرغ» غير واعٍ بتغير الزمن، بأن الوضع القائم الآن ليس نفسه ما كانت عليه الأمور قبل 34 عامًا، بأن ما يجذب الأطفال أو المراهقين أو الكبار ليس الشيء ذاته، وتعريف «العالم» و«العالم الساحر» تغيَّرا، وإذا قدمتَ «إي.تي» نفسه في 2016 لن تنجح، فما بالك بعملٍ مستنسَخ وبطريقة أقل قيمة بكثير، ولا يحمل الأثر نفسه ولا التاريخ العاطفي؟
لذلك فشل الفيلم تمامًا، لم يجلب أكثر من ثُلث ميزانيته، والأهم أنه كان المؤشر الأكبر على الزمن كعدو قاسٍ، يهزم حتى الرجال العظماء.
اقرأ أيضًا: 7 أفلام عن الزمن الذي يمر فوق أجسادنا
«سكورسيزي» ما زال في الحلبة
لم يعش «مارتن سكورسيزي» (Martin Scorsese) تسعينات متألقة، فبعد (Goodfellas) عام 1990 انتقل بين أكثر من «نوع فيلمي» وآخَر طول عقد كامل، كل منها كان متفاوت النجاح، وعانى ربما من سطوة الزمن والحركة داخل ما يعرفه.
فيُخرج (Casino) في 1995 كمحاولة استنساخ قريبة الشبه من عالم (Goodfellas)، أو يُخرج (Bringing out of the Dead) عام 1999 كأنه يحاول صنع (Taxi Driver) آخر، والفيلمان كتابة «بول شرايدر» (Paul Schrader)، ويدوران في عالم الحياة الليلية لأبطال يرون العَفَن.
بدا أن مسيرة الرجل في طريقها للخفوت، وأنه «يعيد إنتاج الإرث الذي حققه سابقًا»، وهي العلامة الأهم ربما على انتصار الزمن.
ولكن مع قدوم الألفية، عاد «سكورسيزي» من بعيد.
ثلاثيته المتتابعة والضاربة في مسار المشروع والحلم الأمريكي (Gangs of New York) في 2002، و(The Aviator) في 2004، وأخيرًا (The Departed) عام 2006، جعلته تمامًا في واجهة السينما الأمريكية، محتفظًا بكل اللياقة الذهنية والسينمائية المحتملة.
دعكَ من ترشح الأفلام الثلاثة لجوائز أوسكار (فيلم ومخرج)، وعن نَيْلِه الجائزتين بالفعل عن (The Departed). قد يُؤخذ هذا كمؤشر، لكن الأهم هو القدرة على خلق الزخم والمُضِيِّ قدمًا في مسارات مختلفة ومشروعات ترتبط ببعضها، الأهم أن تكونَ في الحلبة، أن تظلَّ قادرًا على الجري حتى مع تخطي المباراة دقائقها التسعين.
حتى مشروعات «سكورسيزي» الأقل شهرة في ذلك الوقت، فيلمه القصير (The Key to Reserva) عام 2007 الذي قدَّم فيه تحية فريدة لـ«ألفريد هيتشكوك»، أو الوثائقي العظيم (No Direction Home) في 2005 عن حياة «بوب ديلان»، كل شيء ينبض بالحياة تمامًا.
أُقدِّر بعد ذلك حتى المسارات التي اختار «سكورسيزي» أن يجرِّب فيها ويَلعب مع السينما ولا يجترُّ من إرثه أو منطقته الآمنة، حتى لو لَمْ ترقنيَ الأفلام ذاتها.
كيف يحاول صنع إثارة بـ«تويست ختامي» في عصر الانقلابات الدرامية، وبشكل مختلف عن أي فيلم آخر في تاريخه، مع (Shutter Island) عام 2010، أو خلق فيلم يستفيد فعلًا من تقنيات الأبعاد الثلاثية وتجريب آخر ما وصلت له السينما في (Hugo) عام 2011، بل والنجاح في ذلك لدرجة أن يصير أحد أكثر الأفلام التي استفادت تقنيًّا من الـ3D ولم تعاملها بشكل تجاري، حتى (The Wolf of Wall Street) في 2013، ورغم انتمائه لمشروعه الأمريكي وما يعرفه، لكنه قدمه بسخرية وكوميديا غير معتادة.
و«سكورسيزي» أيضًا في الخامسة والسبعين من عمره كان قادرًا على مُلاحقة حلم قديم للغاية في تحويل رواية «الصمت» إلى فيلم سينمائي، وذهب وراء ذلك حتى جبال اليابان ذاتها مع (Silence)، الذي صدر بشكل محدود في 2016 ثم طُرح رسميًّا في دور السينما مؤخرًا، ووصفه الجميع، سواءً أحبوه أو لم يحبوه، بأنه «لا يُشبه أي فيلم آخر لسكورسيزي».
الرجل ما زال يُناهِد ويُعاند مع عدو صعب كالزمن، لا يرتكن للمناطق الآمنة ولا يحاول إعادة إنتاج ما سبق أن أنتجه، يحاول الابتعاد بأكبر قدر ممكن عن «شيخوخة الرجال العظماء».. تلك التي ليس أحد عنها ببعيد.
محمد المصري