الفلكلور: نبعٌ للأغاني لا ينضب
الفلكلور هو العمود الأهم الذي ترتكز عليه الفنون، خصوصًا الأغاني. وظل الفلكلور دائمًا يتحرك في كواليس صناعة الأغنية، مهما حاولنا الابتعاد عنه يظل حاضرًا ولو بشكل خفي.
الفلكلور هوية لا يمكن الهروب منها، مهما بعدت السنين وتغيرت أشكال الموسيقى. قد تكمن بعض مشكلاته في أن حالات توثيقه قليلة للغاية، ويكون الاعتماد فيها على الذاكرة الشعبية أو على بعض من كرسوا حياتهم لتسجيله، لكن هذه حكاية أخرى تحتاج تفصيلًا.
في موضوع سابق عنوانه «الإباحية أصيلة في الغناء المصري»، توصلنا إلى أن غالبية الإباحية في الأغنية المصرية، وبخاصة فترة «الطقطوقات»، ما هي إلا رجوع واستناد إلى التراث والفلكلور الشعبي. لكن لم يكن الاستناد فقط إلى تلك الفترة، أو هذا الشكل، فقد اتسع التعامل مع الفلكلور كل الفترات الزمنية والموسيقية المتباينة.
كان الفلكلور واضحًا في كل الأشكال، وليس الأغاني التي يمكن أن نطلق عليها لفظ «خليعة» فقط، لكن سنجد أيضًا الأغاني الاجتماعية، مثل «تضربني ليه» بصوت منيرة المهدية، أو «ماتحسبوش يا بنات» التي غنتها الست توحيدة، وأعاد تقديمها صلاح جاهين مع فرقة «المصريين» بكلمات جديدة في الثمانينيات، أو «منديلي يا ننتي»، أو «جننتيني يا بنت يا بيضا» التي غناها زكي أفندي مراد، وأعاد غناءها علي الحجار لكن بكلمات ولحن مختلفَيْن في تتر مسلسل «البيضاء»، بالتعاون مع جمال بخيت.
من فنان الشعب إلى ثومة وعبد الوهاب
أبرز من قدم أغاني مبنية على الفلكلور المصري هو الشيخ سيد درويش، مثل «سالمة يا سلامة» و«يا عزيز عيني»، وهي كلمات كانت فلكلورية الأصل، وهو ما قدمه الشيخ سيد لأجل تغيير بعض الأنماط الموسيقية السائدة في ذلك العصر، والاقتراب بالفن الموسيقي من نبض الشارع، ما أثر في كثير من ألحانه، فقد أسهم أكثر في صناعة أغانٍ فلكلورية الطابع تخدع المستمع في بداية الأمر. إنها فلكلورية الأصل، واتضح ذلك في أغاني المهن والطوائف التي قدم كثيرًا منها في أعماله المسرحية، مثل لحن «الشيالين» و«العربجية» و«الحشاشين»، وهي لم تكن إلا من قريحته وشريكه الشاعر النابه بديع خيري.
لم تقترب أم كلثوم من الفلكلور إلا قليلًا، وبشكل غير مباشر، مع طقطوقات في بداية مشوارها الفني، نتذكر أكثرها قربًا من الشكل التراثي مثل جملة «الدنيا أهي باسمه لك، وخفة الروح رسمالك»، في طقطوقة «ما تروق دمك»، من كلمات أحمد رامي وألحان محمد القصبجي، وكان هذا اقترابًا على استحياء.
أيضًا محمد عبد الوهاب فضَّل الابتعاد عن الاشتباك مع الفلكلور المصري إلا قليلًا في المواويل، وحتى في الموسيقى حاول بقدر استطاعته أن يبتعد عن ما قُدِّمَ قبله، وأن يقدم شيئًا جديدًا مع المحافظة على هوية الأغنية المصرية.
قد يعجبك أيضًا: نوستالجيا أغاني الأطفال الشعبية في مصر
ثورة يوليو وبداية التغيير
كانت والدة عبد الرحمن الأبنودي تقول له إن العبارات التي يقتبسها من الفلكلور في كلمات أغانيه «سارقها منها».
مع قيام ثورة 1952 اتضح تأثير الفلكلور المصري، وبداية تشكيل هوية مصرية جديدة، تتغير كل فترة بحسب سياسات الدولة.
كان الفلكلور ضلعًا أساسيًّا في تكوين هذه الهوية، وكان الملجأ الآمن لكل أنواع الفنون، سينما كانت أو إذاعة أو تلفزيون في ما بعد، وكان للأغنية النصيب الأكبر في إعادة تقديم الفلكلور، إما بإعادة غنائه كما هو، وإما بإعادة تلحينه وتوزيعه، مع إمكان استخدام المذهب الفلكلوري فقط، ثم بناء الأغنية بكلمات جديدة.
لم تكن الأغنية الشعبية في خمسينيات القرن العشرين وستينياته إلا إعادة تقديم للفلكلور بأشكال مختلفة، فأغنية مثل «آه يا زين» ليست سوى فلكلورًا، وغيرها كثير من الأمثلة التي تؤكد نفس الفكرة. ثم جاء الشاعر عبد الرحمن الأبنودي من صعيد مصر حاملًا فلكلورًا بنكهة جنوبية صعيدية، وهو ما أقر به في كثير من كتبه وحواراته، فقدم أغاني كثيرة قائمة على الفلكلور الشعبي، مثل «مال عليَّا مال» لفايزة أحمد.
ومن الحكايات الطريقة أن عبارة «روح يا نوم من عين حبيبي» في أغنية «عيون القلب» لنجاة الصغيرة، وأغنية «بيبه» من فيلم عرق البلح، وأغنية مثل «أنا كل ما أقول التوبة»، جاءت من الفلكلور عن طريق فاطمة قنديل، أم الأبنودي، وهو ما حكاه كثيرًا ونقله على لسانها: «يا واد الأغاني اللي إنت سارقها مني».
قد يهمك أيضًا: «العديد» في الصعيد: غناء عن الحياة لا الموت
مع ظهور مطربين ومطربات تحت تصنيف الأغنية الشعبية الريفية، مثل عايدة الشاعر وليلى نظمي وفاطمة عيد وبدرية السيد، كانت أغانٍ كثيرة تُقدَّم من تراثنا، إما أغانٍ قُدِّمَت في فترة العشرينيات مثل «يمامة حلوة» لمنيرة المهدية، وغنتها ليلى نظمي وآخرون في ما بعد، لكنها في الأصل فلكلور، أو «الحلو مخاصمني»، أو «آه يا زين».
سمات أغاني الفلكلور
أُخذت كلمات أغنية «يا منعنع» لمصطفى حجاج، إحدى أشهر الأغاني مؤخرًا، من الفلكلور.
أغلب أغاني الفلكلور تكون على شكل حوار. ورغم أنه حوار من طرف واحد والطرف الثاني تخيُّلي، لكن دائمًا هناك وَنَس في أغاني الفلكلور، هناك قصة وحدث، أحداث كلها بسيطة، وكل الأمور يكون التعبير عنها من زاوية المشاعر الإنسانية بعيدًا عن القضايا والفلسفة.
فبعد «حادثة دنشواي»، وتحديدًا في عام 1910، اغتال الطالب إبراهيم نصيف الورداني رئيس وزراء مصر آنذاك، بطرس باشا غالي. وليلة إعدام الورداني خرج الناس يغنون: «قولوا لعين الشمس ما تحماشي، لاحسن غزال البر صابح ماشي»، التي غناها محمد حمام بعد ما كتب مجدي نجيب كلماتها على المذهب الفلكلوري، وكتب أيضًا نفس الأغنية لشادية، لكن مع تعديل كبير في الكلمات والمفردات، وأيضًا غنت شادية «يا بهية وخبريني»، وهي فلكلور من قصة «ياسين وبهية»، وغناها آخرون مثل محمد طه.
بُنيت أغانٍ وقصص على الفلكلور، «وحوي يا وحوي» لم تكن أغنية رمضانية، بل كُتِبَ عليها كلمات تناسب شهر رمضان، وأصبحت أهم أغنية تعبير عن الشهر. وأغنية الفرح «يا ليلة بيضا، يا نهار سلطاني» غنتها فاطمة علي، وغنتها فايزة أحمد بعد أن غيرت الكلمات، وأصبحت أغنية عن الوحدة بين مصر وسوريا.
عند البحث في كلمات الفلكلور لأغنية «يا بنات إسكندرية»، نجد مقطع «كامل الأوصاف فتَنِّي، والعيون السود رموني، من هواهم صرت أغني، والهوى زود جنوني».
هكذا كلما بحثنا عن أصل الأغاني وجدنا الفلكلور حاضرًا وبقوة، هو الأصل، وهو الأصدق. فأغنية محمد منير «بفتح زرار قميصي» فيها جملة تراثية هي «يا هوى يا سيسي، نشِّفلي قميصي»، وهي أغنية ريفية، وأغنية «أمانة يا بحر» لمحمد منير أيضًا مأخوذة من فكرة أغنية للصيادين تحت نفس الاسم. حتى في الأغاني الشامية سنجد أغنية «البنت الشلبية» في الأصل فلكلورية، وكتب عليها الأخوان رحباني كلمات جديدة.
حتى الأغاني الشعبي الجديدة سنجد كثيرًا منها ينتمي إلى الفلكلور، مثل «يا منعنع» لمصطفى حجاج، التي هي في الأصل مأخوذة من الفلكلور. الفلكلور شريك أساسي في تاريخ الأغنية العربية، وكذلك في تاريخ التعبير عن المشاعر.
شريف حسن