تمت الترجمة: تطور مشاهدة الأفلام من راوي الأحداث إلى معامل أنيس عبيد

إسلام السقا
نشر في 2018/11/12

لقطة من فيلم «Dans Paris» - الصورة: Gemini Films

«ليست مباراة كرة مضرب»، هكذا حدَّث «هيرمان وينبرغ» نفسه وهو يشدُّ خُطاه نحو الستار الأحمر السميك الممتد على جانبي شاشة العرض. كان وينبرغ يبحث عن الأسئلة الصحيحة في الوقت الخطأ، كيف يمكن للمشاهدين أن يفهموا حديث الممثلين أمامهم على شاشة العرض، بلغة غير لغتهم؟

حتى أتاه الجواب فجأة، وكأن فاعل خير ألقى به على عتبة منزله.

«ليست مباراة كرة مضرب»، يكررها وهو يراقب عيون المتفرجين الموزَّعة بانتظام أمامه. كان هؤلاء محظوظين للغاية لأنهم يدخلون التاريخ كأول من شاهد الأفلام بترجمة تكاد تطابق ما نراه نحن اليوم عند مشاهدة فيلم أجنبي.

كانت الترجمة التي تُذيِّل صورة العرض ابتكارًا منح وينبرغ لقب الأب الروحي للترجمة المصاحبة للفيلم (Subtitle) عام 1930.

لم يلحظ وينبرغ حركة مستمرة في رؤوس الجالسين، ما عكس نجاحه لأنها «ليست مباراة كرة مضرب». لذلك، ليس على المتفرجين أن يستمروا في تحريك رؤوسهم من أسفل إلى أعلى وبالعكس طيلة العرض، كانت فكرة وينبرغ، الناجحة الآن، أن يضمن عدم انصراف أعين الحاضرين عن مربع الأحداث الرئيسي، ولو لبرهة، ولا يتقطع انتباههم.

دفع وينبرغ تاريخ السينما نحو الأمام بكلتا يديه، كان نجاحه هذا الأبرز في المجال منذ امتلكت السينما صوتًا لأول مرة عام 1927. رحلة طويلة ستقطعها الترجمة، بدءًا من التطويرات المستمرة في طريقة عرض الترجمة على الشاشة، وحتى 2012، حين طرحت شركة «سوني» نظارتها الذكية التي توفر الترجمة دون الحاجة إلى طبعها على نسخة الفيلم نفسه.

10 دقائق من فضلك

الفيلم الصامت «Alice in Wonderland»

من شباك التذاكر إلى الكرسي المبطَّن الذي ستجلس عليه. يعد دخول قاعة السينما اليوم رحلة في التاريخ، وكأنه مرور على شريط زمني متعاقب من الإنجازات. وعلى غرار كل النقلات الثورية التي استطاعت المزج بين التقنية والثقافة، مرت الترجمة بعدد من المراحل حتى وصلت إلى شكلها الحالي.

بالعودة إلى بدايات عملية الترجمة الفيلمية، يمكننا القول إن كل فيلم سينمائي هو فيلم أجنبي. أجنبي بالنسبة إلى آخرين في مكان ما، أولئك الذين يستكشفون ثقافات ولغات مختلفة عبر قاعة السينما، وعبر وسيط أساسي هو المترجِم.

وُلِدت السينما صامتة، استعاضت الاستديوهات عن الصوت الغائب بـ«العناوين الداخلية» (Intertitles)، وهي مربعات تحوي نصوصًا مكتوبة أو مرسومة تتوسط الشاشة، وتظهر كل عشر دقائق تقريبًا لشرح الدقائق العشر التي تليها.

شكَّلت ثورة الصوت في السينما عاملًا مهمًّا في عملية تقويض انتشار العناوين الداخلية. بدأ التفكير حينها بالبديل، فالجمهور الآن يستمع للممثلين ولا حاجة لشرح ما يجري على الشاشة سوى لأولئك الذين لا يفهمون لغة الفيلم.

عندها توجهت الأنظار نحو الترجمة بكل ما يحمله هذا التوجه من تعقيد على مستوى التقنية، وبإدراك واسع بأن المترجمين يستطيعون توصيل رؤية المخرج لمشاهدين من جنسيات مختلفة، ويستطيعون أيضًا، إذا أفلتت منهم الدقة، أن يجعلوا من الفيلم تجربة سيئة. لكن كل هذا مر بعدة مراحل، بداية من «المفهماتية»، وصولًا إلى الترجمة التي تظهر أمامك على شاشة السينما.

اقرأ أيضًا: لا نهضة دون ترجمة: كيف حفظ العرب فلسفة الإغريق من الضياع؟

المفهماتية

كيف يشرح البينشي أحداث الفيلم الصامت للحاضرين؟

كان المفهماتي مسؤولًا عن شرح أحداث الفيلم في أثناء عرضه قبل اختراع الترجمة.

كانت «ميدوري ساواتوه» واحدة من أولئك الذين عملوا طيلة حياتهم في مهنة لم يعد لها وجود. يبدو الأمر الآن مثيرًا للشجن: أن لا يكون لما تقدمه قيمة، لأن الزمن والتقنية تواطآ على التحرك ناحية الأمام.

طُبِعت صورتها على ملصقات الأفلام، وذُكِر اسمها أحيانًا قبل اسم المخرج نفسه: «البينشي (تعبير ياباني عن المترجم أو المفسِّر) لهذا الفيلم هي ميدوري ساواتوه، تشرح أحداث الفيلم». لم يكن سهلًا عرض الأفلام الصامتة والأجنبية في اليابان دون البينشي المسؤول عن شرح أحداث الفيلم للحاضرين، يقرأ لهم العناوين الداخلية، يتكلم على لسان الشخصيات، سواء كانوا ذكورًا أو إناثًا، ويُلقي بعض الإضافات أحيانًا لإثراء تجربة المشاهدة.

كانت ميدوري ضمن آلاف العاملين في مهنة البينشي في اليابان، بل إنها أسهمت وجيلها في تأخير دخول الأفلام الناطقة إلى السوق اليابانية من نهاية عشرينيات القرن العشرين إلى منتصف ثلاثينياته تقريبًا، وذلك في محاولة منهم للحفاظ على مصدر رزقهم.

كان المفهماتي مسؤولًا عن شرح أحداث الفيلم في أثناء عرضه قبل اختراع الترجمة

انتشرت هذه المهنة حول العالم، وخصوصًا في البلاد التي تعاملت مع الإنجليزية كلغة أجنبية، فعُرِف في مصر باسم «المفهِّماتي»، أي المسؤول عن ضمان فهم الجمهور أحداث الفيلم.

لا يزال المفهماتي حاضرًا اليوم، لكن بصورة أكثر رقمية. فالمترجمون الروس مثلًا ابتكروا حلولًا سريعة وأقل تكلفة لعملية الترجمة عن طريق دبلجة الفيلم كله بصوت مُعلِّق واحد، يؤدي في الغالب أدوار النساء والرجال على حد سواء، مُذكِّرًا بدور المفهماتي كما عرفه من عاصروا السينما في مطلعها.

في نفس الوقت، فإن احتياج الاستديوهات الأمريكية إلى تسويق أفلامها خارج الولايات المتحدة، كان دافعًا إلى التفكير في تقنيات تساعد على ظهور الكلام على الشاشة واختفائه في الأوقات المناسبة، ما يعني بالضرورة زوال مهنة المفهماتي.

حاول اليابانيون وضع الترجمة بشكل عمودي على جانب الشاشة، بينما حاول بعض الأمريكيين وضع الترجمة داخل فقاعات للكلام كتلك التي تظهر في كتب القصص المصورة.

تُقرأ بلمح البصر

يلتفت المترجِم المتمرِّس إلى عدد الكلمات والحروف في السطر الواحد بالنسبة إلى مدة عرضها.

إذا كانت مهمة عرض الصورة بتزامن تام مع الصوت صعبة للغاية، فإن دمج النص المترجَم بالصورة في المكان والزمان المناسبين ليس أقل صعوبة، خصوصًا عند التعامل مع الأشرطة من عيار 16 ملليمترًا.

جرَّب بعضهم كتابة الترجمة بخط اليد على ألواح زجاجية، لتنعكس على الشاشة وتتبدل مع كل جملة، في محاولة لتفادي جرح أصابعه.

آخرون اختاروا الكتابة على الشريط نفسه، فيما قرر بعضهم استخدام آلات منفصلة لعرض الترجمات. جميعها محاولات لم تدم طويلًا لأنها افتقدت أهم عناصر الترجمة، وهو «المزامنة».

عكس ترجمة الكتب والروايات، فإن الترجمة للسينما تبدو محاصَرة بالزمن الراهن. لا يمكن استعمال الهوامش كما يحدث في المقالات والكتب، بل على المترجِم أن يعكس في ترجمته المقابل اللغوي للكلام، بالإضافة إلى المعنى الثقافي المُحمَّل به ذلك الكلام، بأقل استخدام ممكن للمساحة والزمن، لأن العين تقرأ أبطأ مما تسمع الأُذن، ما قد يفرض التضحية بنسبة كبيرة من النص في سبيل «إدراك اللحظة».

لكن متى يجب أن تظهر الترجمة؟ ومتى عليها أن تختفي؟

يجيب المحاضِر المختص بالترجمة «ديونيسيوس كابساسكيز»، بأن الوقت المثالي لظهور الترجمة هو في اللحظة التي يبدأ فيها الممثل بالكلام. حينها يبدأ العقل بطرح التساؤل الطبيعي: «عن ماذا يتحدث هذا الممثل؟»، وبمجرد أن يفكر بذلك يجد الترجمة ظاهرة أمامه، ولا تزول عن الشاشة إلا بعد نهاية تدفق صوت الممثل ببرهة حتى يستطيع المتفرج القراءة.

على المترجِم أن يلتزم بالقطع الموجود في الفيلم، إذ ليس للترجمة أن تستمر بعد قطع المشهد والانتقال إلى آخَر في عملية تسمى «Spotting»، وهي مرحلة أولى تسبق الترجمة يحدد فيها المترجم أماكن ظهور السطور المترجَمة ومدتها على طول الفيلم.

أفضل الترجمات تلك التي تكون أخف مما تتصور، خفيفة وخفية، ويمكنك قراءتها بلمح البصر.

يلتفت المترجِم المتمرِّس إلى عدد الكلمات والحروف في السطر الواحد بالنسبة إلى مدة عرضها. تستغرق مدة عرض أسطر الترجمة بين ثانية ونصف كحد أدنى إلى سبع ثوانٍ كحد أقصى، وخلالها، عليه أن يضمن أفضل تنسيق ممكن لكلماته، مثلًا في حالة هذه الجملة: «ماذا لو صرتَ عصفورًا وطرت بعيدًا عني؟»، فإن هناك أسلوبين لعرضها، سيكون الأول:

ماذا لو صرتَ عصفورًا وطرت
بعيدًا عني؟

نلاحظ أن السطر الأول لم يكتف بذاته، بل إن تكملته كانت بالفعل في السطر الثاني، ما يعيق عملية توزيع محطات الوقوف في الجملة ذاتها، ويعني مزيدًا من التأخير في استقبال الجملة.

لذا يميل المترجم المحترف إلى عرض نفس الجملة بالطريقة التالية:

ماذا لو صرتَ عصفورًا
وطرت بعيدًا عني؟

تتطلب عملية ضبط النص والتوقيت، التعامل مع أقل قدر ممكن من الكلمات التي تحقق أكبر قدر استفادة ممكنة. يعتمد بعضهم 35 حرفًا لكل سطر، بإجمالي 70 حرفًا للسطرين معًا (12 كلمة تقريبًا)، بينما يضيف بعض المترجمين غير المحترفين شروحات إضافية إلى النص، تزيد من مساحة الكلام مع ثبات مدة عرضه، أي إنه، ومن أجل تعاطٍ سليم مع الترجمة، يجب على المتفرج أن يوقف العرض ليستطيع القراءة.

يرى واحد من المترجمين المحترفين أن الفرق يكمن في المنهج الذي يتبعه المترجم. يروي مثلًا أنه في أثناء ترجمته مسلسلًا يابانيًّا كوميديًّا، واجه بعض الصعوبة في التعامل مع كمية المعلومات الكبيرة التي يجري إيصالها في وقت قصير للغاية لا يتعدى بضع ثوان.

يقول: «من المستحيل التعبير عن نفس المعلومات بنفس الزمن باللغة الإنجليزية. هنا يبرز الدور المهاري للمترجم، أن يختار المعلومات المتعلقة بشكل مباشر بالمشهد، وأن يستثني تلك التي يمكن الاستغناء عنها. أفضل الترجمات تلك التي تكون أخف مما تتصور، خفيفة وخفية، ويمكنك قراءتها بلمح البصر».

مترجمون فاسدون

لقطة من فيلم «World War Z» - الصورة: Paramount Pictures

في وقت تبدو فيه هوليوود أكثر اعتمادًا على السوق العالمية من أي وقت مضى، تكتسب الترجمة أهمية كبرى إذا تعلق الأمر بالتعامل مع جمهورها غير الناطق بالإنجليزية. لكن حضور الترجمة بصريًّا على الشاشة مزعج لكثير من الناس، خصوصًا أولئك الذين لا يحتاجونها.

تذهب العين مباشرة إلى الجزء الأسفل من الشاشة، ذلك الخط الأبيض الصغير الذي يستمر في الظهور والاختفاء بتواتر. تقع الترجمة في الثلث السفلي من الشاشة مذكِّرة المُشاهِد بأن ما يراه خيال، وإذا أخطأ المترجِم وأظهر الكلام لمدة ثانية واحدة قبل موعدها المفترض، فإنه «يحرق» نكتة أو موقفًا دراميًّا. ولأن الترجمة عملية دقيقة وصعبة للغاية، فإن كل جملة وكل علامة ترقيم وكل قرار يتخذه المترجم يتحول إلى عامل تأثير مباشر في تجربة المشاهدة وطريقة تلقيه الفيلم.

يقول الباحث المختص في السينما الآسيوية «ماركوس نورنيس»، في ورقة بحثية أصدرها عام 1999 بعنوان «من أجل ترجمة فاسدة»، إن الترجمة الفاسدة هي تلك التي يُعلي فيها المترجم من شأنه على حساب النص الأصلي. يصنع من نفسه نجمًا بالانتقاص من النص الأساسي. يصدره مع تغيير في البنية، وبعد تمرير النص على معاييره الثقافية الخاصة به وبمجتمعه. يختصر الكلام بمعنى قد يكون مشابهًا للأصل، لكنه يبقى مزعجًا وغير ملائم غالبية الأوقات.

معضلة «موت النص» قديمة ومعروفة في ما يتعلق بالترجمة، لكنها في حالة الترجمة للسينما تكتسب معنى جديدًا. وإذا رأينا موت النص في الترجمات الأدبية أمرًا منطقيًّا، فإنه في الترجمة للسينما يدخل في حيِّز الإدراك الحسي أكثر من أي شيء آخر. لكن لأن مترجمي الأفلام بشر مثلنا، فينطبق عليهم ما قد ينطبق على مترجمين آخرين يعملون في الصحافة والأدب. عليهم أن يكونوا في حالة إدراك وإتقان كاملين للغة.

يقع بعض المترجمين في فخ الترجمة الحرفية، وهي دقيقة لغويًّا، لكنها تتحرك بمعزل عن السياق الثقافي للكلام، بينما تكتسب «الترجمة الدلالية» (Semantic Translation) أو «الترجمة السماعية» كما يسميها المترجمون عادةً، قدرًا أكبر من الأهمية لأنها لا تتقيد بالمقابل اللغوي للكلام بمقدار انسيابها مع المعنى المتدفق معه، وهي الترجمة التي يستخدمها معظم المترجمين بحسب إحدى الدراسات.

أنيس عبيد والمعيار الأخلاقي للترجمة

لقطة من مسلسل «Brooklyn Nine-Nine» - الصورة: Fremulon

لم يستطع المترجم السينمائي المصري الشهير أنيس عبيد نقل الشتائم كما هي. إذا أراد فعل ذلك سنجد أمامنا موجة من الشتائم التي لا حصر لها لغويًّا، ومن الممكن التعبير عنها بالطريقة الفجة أو أحيانًا بطريقة ناعمة. اختار عبيد المسلك الثاني دون الانتقاص من قيمة الأول الأكثر واقعية. ابتدع كلمات بعينها حملت وزن الشتيمة الأصلية دون الوقوف على ترجمتها الحرفية، التي كان من شأنها نقل المعنى من الفصحى إلى العامية أحيانًا.

فمثلًا تمكَّن عبيد من ترجمة شتيمة مثل «Mother fucker» إلى وغد، وهي ليست مشكلة بحد ذاتها، بقدر الأزمة التي خلَّفها تعامل بقية المترجمين مع هذه الفلسفة.

امتلك أنيس عبيد خطة ومنهجًا واضحًا في الترجمة، لكن هذا المنهج لم يتطور منذ ذلك الحين.

أسس عبيد، بالطبع، مدرسة كاملة في مجال الترجمة العربية للسينما، لكنها كما تبدو المدرسة الوحيدة المتوفرة حتى اللحظة. لم يتغير كثير من الأمور منذ ذلك الحين، وبالكاد يعرف المشاهدون العرب اسمًا كبيرًا في عالم الترجمة للسينما بعد أنيس عبيد، بل صار المترجمون من بعده أكثر عرضة لتجاهل شركات الإنتاج.

بالنسبة إلى عبيد، فإنه ليس على الترجمة أن تسرق الأضواء من العمل الأصلي، وهو الفيلم. الترجمة المثالية هي التي لا تذكرها بعد انتهاء الفرجة على الفيلم. لذا كان من الطبيعي أن يستخدم عبيد ترجمة أقل لفتًا للأنظار إذا تعلَّق الأمر بالشتائم.

وبصراحة، يبدو ما فعله ذكيًّا مقارنة بما يجري في بعض الدول غير العربية، مثل هونغ كونغ التي يجد المترجمون فيها قائمة حكومية من لجنة الرقابة على المنتجات السينمائية تحتوي كل البدائل التي من الممكن استخدامها في حال أراد المترجم أن يترجم شتيمة إنجليزية. وفي بعض الأحيان، فإن الشتائم لا تُترجَم، أما في الصين، فإن أسماء الأعضاء التناسلية يجري إزالتها وتحويلها إلى أسماء أطعمة.

ربما امتلك أنيس عبيد خطة ومنهجًا واضحًا في الترجمة، لكن هذا لا يعني أن هذا المنهج تطور منذ ذلك الحين، بل إن المعطيات تشير إلى تدني مستوى الترجمة، خصوصًا التي ينشرها الهواة.

أولئك الذين نقلوا ما فعله أنيس عبيد في ترجمته الشتائم وعمَّموه على كل النواحي الأخرى في الفيلم السينمائي، وهم بذلك يفصلون بين الفلسفة من وراء ذلك وظروف تطبيقها الحالية، فرأى كثيرون أن الهدف هو ترجمة النص بمعايير مجتمع المُتلقِّي ذاته، وليس صانع الفيلم. إذ تجد اعتراض المترجمين على إلحاد بعض الشخصيات أو آرائها في الدين أو في رموز معينة، واضحًا في الترجمة، ما يدخل بالتأكيد في خانة «التحريف» واللاموضوعية كمعيار وحيد لتقييم مدى أخلاقية الترجمة.

بالنسبة إلى داوود خشبة، مدير قسم الترجمة في مؤسسة أنيس عبيد، فإن القيود التي تفرضها الرقابة على الترجمات تبدو سخيفة أحيانًا، وتدخل في نطاق انعدام الموضوعية التي يُتَّهم بها المترجمون، مثلًا يُطلب إزالة اسم إسرائيل من بعض الترجمات، أو كلمة «يهود»، وحتى بعض الانتقادات الحادة لنظام معين.

تُسبِّب هذه الرقابة، إلى جانب التهميش الاقتصادي وغياب أي جسم تنظيمي لعملية الترجمة، نشوء طرق بديلة يعمل من خلالها الهواة. فبحسب بعض المترجمين البريطانيين، فإن أجور الترجمة للسينما تقلصت لأكثر من النصف خلال السنوات الماضية، وطالبتهم الاستديوهات بإنجاز أفلامهم خلال مدة لا تتجاوز 48 ساعة، ثم ألغوا التعامل بنظام الأجر مقابل ساعة العمل، بل بمحاسبتهم على الدقيقة الجاهزة من العمل مترجَمًا، ما دعاهم إلى الاتجاه، إما إلى مهن بديلة، وإما عرض خدماتهم على الإنترنت.

قد يهمك أيضًا: الوصاية والأدب: «من أين لنا بهذا الرقيب الرائع؟»

سعاة البريد

لا تستبدل الترجمة النص الأصلي، لكنها تحل مكانه للحظات، بمعنى أنها لا تخلق معاني بديلة عن معانيه، إلا أنها تحل مكانه بنفس قوانينه وثقافته.

يعمل المترجمون، عكس بقية العاملين في المجال السينمائي، وحدهم وفي عزلة تامة. ليسوا جزءًا من عملية الإنتاج، وليسوا على دراية بموضوع الفيلم كأولئك الذين يصنعونه بالفعل، وفي معظم الأحوال ليس بمقدورهم التواصل مع مخرج العمل حتى في الأمور المهمة.

تبدو أزمة التجاهل هذه عالمية. ففي فيلم وثائقي قصير بعنوان «المترجم الخفي» لـ«علي أكبر كامباولا»، تؤكد واحدة من العاملات في مجال ترجمة الأفلام في البرازيل، أن نظرة الناس إلى طبيعة عملهم قاصرة ودونية أحيانًا، تقول: «يعتقدون أن كل ما في الأمر أنك تتحدث لغتين، لكن عليك أن تكون أكثر من مجرد متقِن للغات كي تحصل على ترجمة جيدة».

إنها تشير إلى صعوبة نقل المعنى أحيانًا من لغة إلى أخرى دون إحداث تبديل في شكل الجملة وبنيتها، ما يتطلب معرفة بثقافة المتكلم الشعبية. فمثلًا، تكون النكتة مضحكة في لغتنا لأنها مرتبطة بشكل ما بثقافتنا، لكن إن جرى ترجمتها، فإن إمكانية عدم فهمها واردة أكثر من بقائها على وضعها الأصلي.

لذلك يرى بعض المترجمين أن تغيير النكتة من الأساس ضروري كما يحدث في بعض أفلام الرسوم المتحركة.

لا تستبدل الترجمة النص الأصلي، لكنها تحل مكانه للحظات، بمعنى أنها لا تخلق معاني بديلة عن معانيه، إلا أنها تحل مكانه بنفس قوانينه وثقافته.

تبدو غالبية الانتقادات الموجَّهة إلى الترجمات السينمائية، وبخاصة تلك التي تصدر عن الهواة على مواقع الترجمة على الإنترنت ومنتدياتها، متمحورةً حول هذا الجانب. لذا، لن يكون مفاجئًا عثورنا على تصريح للمخرج الأمريكي «وودي آلن» الذي لا يزال يؤكد، كلما ذهب إلى في فرنسا، أن السبب الوحيد لنجاح أفلامه هناك هو المترجِم.

إسلام السقا