«كفر ناحوم»: تعالوا نتفرج على البؤساء
«كفر ناحوم» عنوان ثالث فيلم روائي للمخرجة نادين لبكي. اختارت المخرجة اللبنانية اسم القرية التي ألقى فيها يسوع المسيح موعظته المعروفة باسم «عظة الجبل»، لكنها في الغالب قصدت تفسيرًا آخر للاسم: المكان الذي تسوده الفوضى.
يتناسب هذا التفسير لعنوان الفيلم تمامًا مع ما يحويه من خليط عناوين منظمات المجتمع المدني: عشوائيات، أطفال مكتومو القيد، قُصَّر يتعاطون المخدرات، «بيدوفيليا» وزواج قاصرات، عاملات أجنبيات ضحايا نظام الكفالة، تهريب لاجئين، اتجار بالبشر، سجون العمال الأجانب والأحداث. تلاحقك هذه القضايا منذ البداية في إطار زمني لا يتجاوز ساعتين.
بعد الميلودراما الخفيفة في «سُكَّر بنات» و«هَّلأ لوين»، انتقلت لبكي إلى التراجيديا، مستعيدة في الشكل فقط، شيئًا من روح الواقعية الجديدة التي ظهرت في إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية.
يبدأ الفيلم من قاعة محكمة. الفتى زين مكتوم القيد، والمحكوم بالسجن خمسة أعوام في الإصلاحية لطعنه رجلًا، يواجه والديه أمام القاضي. والتهمة التي يريد عقابهما عليها، جلبه إلى هذا العالم. من هنا تنطلق الأحداث بصيغة «فلاش باك» (استرجاع) لماضي زين والمسار الذي أوصله في نهاية المطاف إلى السجن.
قعر البؤس في كفر ناحوم
بؤس يتبعه بؤس، يليه مزيد من البؤس، ولا شيء آخر سوى البؤس. بهذا الاختصار يمكن تلخيص الفيلم. يتخذ السيناريو مسارًا واحدًا لا يتحرك ولا يتبدّل إلا نزولًا إلى القعر.
يتعرض زين إلى سلسلة من الأحداث المأساوية المتتالية: من العيش في بيت حقير مع عائلة مكونة من ستة أولاد وأب سكير وأم متبلدة المشاعر، إلى إجبار والديه ابنتهما البالغة من العمر أحد عشر عامًا، على الزواج، وصولًا إلى الهرب من المنزل والعيش مع عاملة إثيوبية تملك ولدًا غير شرعي، وليس انتهاءً ببيعه الصبي بعد اختفاء أمه وطعنه زوج شقيقته بعد تسببه في وفاتها جراء الحمل.
لم تشفع شخصيتا دعد و«صرصور مان» والوجه اللطيف لـ«يوناس» ابن الإثيوبية «راحيل»، في إقناعنا بأن الإنسان المقهور في عالم تعيس كهذا، قد يحظى بلحظة سكينة أو مواساة، أو بمشهد يخفف عنه ما يقاسيه.
طوال مدة العرض يحكمك الشعور بالاختناق، كما لو أن نادين لبكي تحكم قبضتها على عنقك، عبر لحظاتٍ حزينة تتوالى عليك. يعزز ذلك، الخيارات الإخراجية للبكي التي ما زالت أسيرة أسلوب التقطيع والتوليف في الكليبات الغنائية، تارة بالكادرات الضيقة التي تركز على تعبيرات وجوه الأولاد، وتارة بموسيقى خالد مزنر التراجيدية.
ابكِ. لماذا لا تبكي؟ انظر إلى وجه هذا الصبي الذي يبيع جرعات من «الترامادول» للمراهقين، أليس ذلك مؤثرًا؟ حسنًا، شاهد هذا الطفل الذي يأكل مكعبات ثلج مخلوطة بالسكر، وتفرَّج على دموع هذه المرأة التي سُجنت وتُرك رضيعها في المجهول. ألا يبكيك ذلك يا عديم الإحساس؟ ابكِ الآن. أرِني دموعك في هذه اللحظة. يؤدي بك هذا الابتزاز العاطفي المهول إلى التبلد بدل التأثر.
تعالوا أعرفكم إلى حياة الفقراء
لا نعرف من أين أتت خصال «زين» الملحمية: ذكي، غاضب، عنيد، يساعد الناس، لديه قدرات خطابية. وحدها نادين تعرف الإجابة.
في رد على سؤال عن مدى معرفتها بحياة المهمشين الذين تتحدث عنهم، تقول نادين: «صحيح أنني لم أختبر طفولة زين. لكنني صورته يوميًّا لمدة ستة أشهر، وعشت معه واستمعت له، لذلك استطعت الاقتراب منه وبمن يشبهه بما يكفي لإيصال صوته ورسالته».
تدين نادين نفسها من حيث لا تدري. إذ تظهر كما لو أنها لم تحتك قبل هذا العمل بالطبقات الأكثر فقرًا في المجتمع، وحين أتيح لها التعرف إليها اعتقدت أنها صارت قادرة على إيصال صوتها ورسالتها، ووجدت أن من واجبها أن ترينا كل مشهد وموقف صادفته خلال هذه الفترة، لتقع في فخ صورة نمطية عن سكان العشوائيات، تُهمِّش كل جوانب شخصياتهم والتأثيرات فيها لصالح جانب أحادي وتأثير واحد: الفقر.
لكن عن أي فقر نتحدث هنا، وعن أي فقراء؟ إذ لم يزد الفيلم عن تصوير شكله وهيئته دون تعمق. لا نعرف أسبابه ولا المسؤولين عنه، كما لو أن بؤس هذه الشخصيات جاء عفوًا، قدَرًا لا علاقة لأحد به، ولو حتى للعنة من الآلهة. نتيجة ذلك، تجري أحداث الفيلم في عالم مجرد، دون أن يدلنا فيه شيء على أحزمة البؤس في الضاحية الشرقية لبيروت، حيث يجري جزء كبير من الأحداث.
في بيروت أو في القاهرة أو في طهران، وحتى على سطح أحد الكواكب خارج المجموعة الشمسية. لا يشكل ذلك فرقًا، فالبيئة الاجتماعية مُغيَّبة، وكذلك هويات الشخصيات وانتماءاتها وأفكارها. لا نعرف مثلًا من أين أتت هذه الخصال الملحمية في شخصية زين، فهو حاد الذكاء وغاضب وعنيد، يساعد الناس ويتعامل مع أي مشكلة بمفرده. إضافة إلى ذلك، يمتلك قدرات خطابية وعقلية يبز بها الكبار الناضجين. من أين أتى ذلك؟ وكيف؟ وحدها نادين والفريق الذي شارك في كتابة السيناريو يعرف الإجابة.
حل سحري وخطاب «نظيف»
بالسذاجة نفسها التي تهبط علينا فيها الأحداث وأفعال الشخصيات وخياراتها، يجيء الحل.
بعد قرابة ساعتين من العيش في عالم معتم حالك السواد، دون بارقة أمل صغيرة، يتلون العالم فجأة بأزهى الألوان، وذلك في آخر ربع ساعة من الفيلم. يشاهد زين برنامج الإعلامي جو معلوف «هوا الحرية»، على شاشة التلفزيون في السجن، وهو برنامج يُعنى بمعالجة المشكلات الاجتماعية، بأسوأ شكل ممكن. يتصل زين بالبرنامج على الهواء مباشرة، معلنًا رغبته في رفع دعوى قضائية على أهله، ما يثير الرأي العام.
سريعًا، انتقل النقاش إلى الحريات وسلاح «حزب الله» ومشاركته في الحرب السورية، دون أن يكون أحد قد شاهد الفيلم.
في المشهد التالي، تظهر المحامية نادين العلم (تؤدي دورها نادين لبكي) في دور المخلص، للقاء زين، وتتولى المرافعة عنه في محاكمة أهله، والتي يختمها الصبي بالحل المثالي من وجهة نظر نادين، إذ يقول ردًّا على سؤال القاضي عما يريده من أهله: «بدي ياهم ما بقى يجيبوا أولاد».
بعد ساعتين من إنهاكنا بمشاهدة صنوف الإذلال والفقر والبؤس دون توجيه النقد إلى أي جهة، تصل لبكي إلى الحل المثالي: «فليتوقف الفقراء عن الإنجاب». معادلة بسيطة: إذا توقف الفقراء عن الإنجاب، يقل عددهم تدريجيًّا، وفي النهاية يختفي الفقر. لمدة ساعتين، يتجاهل الفيلم دور المجتمع ومسؤولية الدولة، ومن ثمَّ يلقي بالمسؤولية الكاملة على عاتق الضحايا. نحن أمام فيلم يُفترَض أنه سياسي من الدرجة الأولى، لكنه من دون سياسة أو خطاب سياسي، ما ينم عن سذاجة مرعبة إذا ما تعاملنا مع صناع العمل بحسن نية.
استغلال سطحي
أما في لبنان، وككل شيء آخر، دخل الفيلم في إطار المماحكات السياسية. فور إعلان النتائج غرَّد رئيس الحكومة سعد الحريري، مهنئًا نادين، وتبع ذلك تهنئات كثيرة. ليرد النائب في «حزب الله»، نواف الموسوي، بتغريدة يقول فيها ممتعضًا: «بلا لبكي بلا وجع راس، وقت الجد ما فيه غير سلاحك بيحميك»، وبعدها يلغي حسابه على موقع تويتر، لينهمر بعدها سيل من التغريدات المؤيدة والتغريدات المنددة التي بدأت بالحديث عن نادين، وانتقلت سريعًا إلى النقاش المتكرر عن الحريات وسلاح «حزب الله» ومشاركته في الحرب السورية، دون أن يكون أحد قد شاهد الفيلم، الذي بدأت عروضه التجارية في الصالات اللبنانية، 20 سبتمبر 2018.
ليست نادين لبكي أول من يصنع فيلمًا مرتبطًا بالظروف السياسية، ويحقق النجاح. إذ ارتبطت معظم الأفلام اللبنانية في فترة ما بعد الحرب، ارتباطًا وثيقًا بمعالجة الأزمات الراهنة، ما أفاد كثيرًا من السينمائيين اللبنانيين بتسليط الضوء عليهم، وأتاح لهم الدخول إلى المنافسة في المهرجانات العالمية.
اقرأ أيضًا: قضية رقم 23: في لبنان، الكل يعاني
من مارون بغدادي في «خارج الحياة» (1991)، الذي حصل على جائزة «لجنة التحكيم» في «كان»، مرورًا بزياد دويري في فيلم الأخير «قضية 23» في 2017، الذي شارك في النسخة الماضية من مهرجان «البندقية»، وصولًا إلى نادين لبكي في «كفر ناحوم». إلا إن هذه المعالجات ظلت محصورة في القشور، وقائمة على رؤية ساذجة للواقع وتسطيح الصراعات بما يتوافق مع التصور المسبَق للمخيلة الغربية، عما يجب أن تقدمه الأفلام المقبلة من هذه المنطقة. يمكن القول إن معظم إنتاجات السينما الروائية في لبنان أُنتجت لإرضاء المشاهد الأجنبي قبل المحلي، وهنا تكمن علتها الأساسية.
رضا حريري