«بلوكباستر» هوليوود: هل انتهى زمن الأفلام «المُشبعة»؟
شاهدتُ فيلم «Synecdoche, New York» (نيويورك، مجازًا) الصادر عام 2008، من تأليف وإخراج «تشارلي كوفمان»، منذ ما يزيد عن شهر، وحتى الآن لم أنسه، كونه ترك أثرًا كبيرًا في نفسي. لم أتوقف عن التفكير في سؤال: لماذا لم ينجح هذا الفيلم جماهيريًّا وقتها؟
أتذكر أني عام 2008 شاهدت أفلامًا مثل الجزء الأول من «Iron Man» و«Kung Fu Panda»، ولا أذكر لهما تأثيرًا على حالتي لا وقتها ولا الآن، فلماذا نجحا ولم ينجح «نيويورك، مجازًا»؟
الأبطال الخارقون: إنقاذ هوليوود والهروب من الواقع
ضربت الكارثة الاقتصادية أعمدة البورصة الأمريكية عام 2008، في ما عُرف بأحد أكبر الأزمات الاقتصادية في التاريخ، وزُلزلت جميع الصناعات وقتها، بما فيها صناعة السينما في هوليوود، وقارنها كثيرون بالكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، من حيث عدم الأمان الاقتصادي للأفراد وخوفهم على مستقبل عائلاتهم.
رغم تأثر صناعة السينما في 2008 بالأزمة الاقتصادية، تخطّت إيرادات 10 أفلام من إنتاجات السنة حاجز مئة مليون دولار.
تضمنت القائمة ثلاثة أفلام أبطال خارقين («Iron Man» و«Hancock» و«The Dark Knight»)، وأربعة أفلام رسوم متحركة («WALL·E» و«Madagascar: Escape 2 Africa» و«Horton Hears a Who!»)، وفيلمين لسلاسل قديمة («Quantum of Solace» والجزء الرابع من «Indiana Jones»)، ومُفتتح السلسلة الدرامية المليئة بالرومانسية والحركة («Twilight»)، وجميعها أفلام لا يجمعها سوى أنها بعيدة عن قسوة الواقع، ويُمكن وصفها بأنها أفلام «بلوكباستر».
شهد عام 1975 أول تعريف واضح لأفلام الموسم الصيفي الرائجة، أو «البلوكباستر» بصدور فيلم «Jaws» (الفك المفترس) من إخراج «ستيفن سبيلبرغ» إلى دور العرض الأمريكية، إذ نجح جماهيريًّا بصورة ملحوظة، وأصبح أول فيلم يتخطى حاجز مئة مليون دولار أمريكي في شباك التذاكر، ما دفع منتجي هوليوود إلى تكرار الأمر سنويًّا، فظهرت سلاسل سينمائية جماهيرية شهيرة مثل «Die Hard» و«Ghostbusters» و«Back to the Future».
رغم ما تحمله تلك الأفلام من أبعاد اجتماعية وتعبير عن المخاوف السياسية والاجتماعية الخاصة بالثمانينيات والتسعينيات وعدم خلوها من المتعة، فإنها خلقت مبدأ «ادفع أكثر تكسب أكثر»، بمعنى أن المنتجين أصبحوا ينتجون أفلامًا بميزانية تتخطى 100 مليون دولار طالما أنها ستكسب الملايين في أسبوعين أو ثلاثة على الأكثر.
القائمون على حركة الإنتاج في هوليوود رجال أعمال لا يمتلكون العقلية السينمائية لاختيار أفلام تؤثر في وجدان المشاهدين، وكل ما يبحثون عنه هو المكسب.
شجعت أموال الاستوديوهات على إنتاج كثير من الأفلام سنويًّا، وأمام الإنتاج السخي، قلت الأفلام ذات الأفكار الأصيلة رويدًا رويدًا، وسيطرت على السوق القصص المُعاد إنتاجها، مثل «Charlie and the Chocolate Factory» و«Total Recall» و«Rise of the Planet of the Apes»، وبالطبع تحفة «نيكولاس كيدج» صاحب الأداء شديد المبالغة: «ويكر مان».
بجانب الأفلام المُعاد إنتاجها، بدأت فكرة زيادة عدد أفلام الأبطال الخارقين في الظهور، نظرًا لوجود عدد كبير جدًّا من المجلات المُصوّرة (الكوميكس) الجاهزة للتحويل إلى سيناريوهات سينمائية.
تحب الكوميكس؟ اقرأ عن التجربة العربية من سمير وسندباد إلى السمندل وتوك توك |
سبب التركيز على هذه النوعية من الأفلام أنها لا تحتاج إلى كثير من العمل، فيلم يُعاد إنتاجه بنفس العناصر تقريبًا، ولا يضاف إليه أي شيء، بل إن العكس صحيح أيضًا: يُمكن أن يُفرّغ الفيلم القديم من مضمونه وأساس حبكته، حتى يُصبح فيلمًا دون معالم ومليئًا بمشاهد الأكشن سيئة التصوير بكاميرات مهتزة وأطنان من الغرافيك، ولا مانع من ظهور النجوم الأصليين للأفلام المُعاد إنتاجها في أحد مشاهد النسخة الجديدة.
ما حدث أثّر بالكامل في نوعية الأفلام المعروضة في السينمات الأمريكية، على أنه لم يمنع تنوُّع الأفلام، لكن أسهَم في تقليله، فالقائمون على حركة الإنتاج في هوليوود رجال أعمال لا يمتلكون العقلية السينمائية المناسبة لاختيار أفلام تؤثر في وجدان المشاهدين، وكل ما يبحثون عنه هو المكسب.
الفيلم الحاصل على أكبر عدد من الأوراق المالية هو، بالتأكيد، الأفضل من وجهة نظرهم، ولن يجدوا بالطبع أفضل من قصص الأبطال الخارقين الوهمية، التي تساعد المُشاهد على الهروب من مشاكله اليومية، وتجعله يتخيل ولو لمرة واحدة في حياته أنه بطل قادر على تغيير الكون وإنقاذه من الهلاك.
رأس المال وصناعة السينما
ظل «تشارلي كوفمان» دون عمل لمدة سبع سنوات كاملة قبل أن يصدر فيلمه الأخير «Anomalisa»، وقال خلال مؤتمر صحفي إن سقوط فيلمه «نيويورك، مجازًا» في شباك التذاكر جعله يخسر مبلغًا كبيرًا.
عُرض «نيويورك، مجازًا» وقت صدوره في 119 دار عرض فقط، وتكلّف إنتاجه 21 مليون دولار، في حين أن الشركة الموزعة (سوني) عرضت فيلمها الآخر «هانكوك» من إخراج «بيتر بيرغ» في أكثر من أربعة آلاف دار، وتكلّف إنتاجه 150 مليون دولار. كسب الفيلم 172 ألف دولار في أسبوعه الأول، فيما حصد «هانكوك» 62 مليونًا في المدة ذاتها.
يبدو الأمر واضحًا، فيلم تقبّله المشاهدين وأحبُّوه، وفيلم بدا مملًّا وكئيبًا وسوداويًّا وأعرض عنه المشاهدون، لكن الأمر ليس كذلك، إذ سقطت نسبة بيع التذاكر «هانكوك» 50% في أسبوعه الثالث، فيما ارتفعت نسبة إيرادات «نيويورك، مجازًا» في الأسابيع الثالث والرابع والخامس، ولم يشهد سقوطًا واضحًا سوى في أسبوعه التاسع، مما يعني أن الناس أرادوا مشاهدته، ويمكننا أن نقول (بالنسب والأرقام) أن الإصدار المحدود تسببت في خفض نسبة مشاهدته، لأن أقرب سينما تعرضه يمكن أن تكون على بُعد مئة كيلومتر عن المُشاهد الأمريكي.
حتى بعد تبيان أن سبب الإيرادات المنخفضة هو التوزيع المحدود، يمكن أن يقول بعض المنتجين إن الأفلام الفنية (الآرت هاوس) لا يتقبلها المشاهدون عادةً لأنها غير ممتعة. السبب الحقيقي بالنسبة إليهم، ببساطة، أنها أفلام سيئة، لكن المنتجين أصحاب رأس المال المهتمون بالمكاسب لا يعرفون الفارق بين الفيلم الجيد والسيئ، لذا لا يقامرون بتوزيع الأفلام الفنية على كثير من دور العرض، ويكتفون بأفلام الأبطال الخارقين لأنها حتى وإن خسرت في شباك التذاكر، ستُدِر عليهم أموالًا من بيعها لقنوات العرض المدفوع مسبقًا مثل «Netflix»، وطبع صور أبطالها على الملابس والأكواب وغيرها.
اقرأ أيضًا: كيف تجني أفلام هوليوود أرباحها؟
قائمة الأفلام الأكثر حصدًا للإيرادات في 2017 توضح تأثير رأس المال في صناعة السينما، واتجاه هوليوود منذ عام 2008 إلى إنتاج وتوزيع أفلام «سهلة الهضم»: مبهرة على مستوى الخدع البصرية، لكنها فارغة تمامًا من المضمون ولا تقدم شيئًا مؤثرًا في الوجدان، ووصفها سبيلبرغ بأنها يمكن تلخيصها في 25 كلمة أو أقل.
مثلًا، حصد فيلم «Beauty and the Beast» المُعاد إنتاجه بنسخة بشرية (اتجاه ديزني الجديد) أكثر من 500 مليون دولار، فيما لم يحصد فيلمًا مثل «Wind River» إلا 33 مليونًا فقط.
يبدو أن المستقبل، القريب على الأقل، أصبح لأفلام العوالِم، عالم «دي سي»، وعالم «مارفل»، وسلاسل أفلامها ذات تواريخ العرض المحددة سلفًا حتى 2020. وفي المقابل، يحتاج من هم مثل تشارلي كوفمان، أحد مبدعي هوليوود، إلى حملات تبرُّع حتى يتمكنوا من إنتاج أفلامهم الملهمة، والمشتبكة مع أفكارنا ومخاوفنا وأحلامنا، والتي قد تساعدنا أيضًا على رؤية هزائمنا ومحاولة التغلُّب عليها، وتُخبرنا شيئًا عن أنفسنا، وتجعلنا نتعاطف مع شخصياتها الحية.
لكن مشكلة تلك الأفلام، بالنسبة إلى المنتجين ذوي العقول المادية، أنها لا تملك ما يمكن أن يُطلق عليه «خدمات ما بعد العرض»، بمعنى أنها لا تتحول إلى ألعاب فيديو تُدِر الملايين، ولا إلى ألعاب بلاستيكية صغيرة تُباع مع وجبات الأكل السريع. لا يهتم أحد، على الأغلب، بشراء ملابس مطبوع عليها صور شخصيات أفلام أصلية، ببساطة لأنها لا تتحول إلى سلع استهلاكية يمكن تسويقها بسهولة، مما يعني أن معظم أفلام هوليوود أصبحت مثل الوجبات السريعة، لا تُشبِع.
أحمد حسين