لما بدا يتثنى: حكاية الرقص الشرقي من شارع الهرم إلى هوليوود وأوروبا
الرقص، كلمة تُستخدم عادة في سبيل الذم، ويُنظر إلى مُمتهناتها على أنهن لا يختلفن كثيرًا عن بائعات الهوى. وربما علينا أن نعترف أن الرقص عمومًا والرقص الشرقي خصوصًا، وإن كنا نعلم أنه فن، فهو شيء مستهجَن عند عموم الناس، يأخذ شكلًا من أشكال الإثارة والشهوانية لدى المجتمعات الشرقية المعاصرة، لكن لماذا؟
هل الرقص محرَّم في الأديان أو الأعراف؟ وإن كان كذلك، فلماذا إذًا كان الرقص الشرقي حاضرًا وبشكل واضح ومزدهرًا خلال الحضارة الإسلامية، وكان الصُّنَّاع المسلمون يتفننون في تفصيل بدلات الرقص ذات الطُّرُز والألوان الجميلة، ألم يكُن هؤلاء مسلمين؟
لكن دعونا نفتش هنا عن أصل «الرقص الشرقي» لنرى كيف نشأ، وهل كانت له حقًّا جذور أصيلة أم إنه يهدف إلى الإثارة كما يدَّعي البعض، كرقص التعرِّي الذي نراه في حانات اللهو الغربية.
البداية
لماذا يقتصر الرقص الشرقي على الفتيات؟ السبب يعود إلى الفراعنة
منذ ما يقرب من ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد على أرض مصر، ازدهرت إحدى أهمِّ وأبرز الحضارات الإنسانية في العالم القديم، فكان طبيعيًّا أن يكون المصريون من أوائل البشر الذين احترفوا صناعة البهجة وأعطوها قيمة حقيقية كما أبدعوا في باقي الفنون والعلوم.
من البهجة بمفهومها الواسع ظهر فن الرقص الشرقي متزامنًا مع ظهور الآلات الموسيقية التي استخدمها المصريون كالناي والقيثارة، ولكن اهتمام المصريين بالرقص الشرقي لم يكُن مجرد شيء ترفيهي، بل كان يُستخدم في الطقوس الدينية للتقرب إلى الإله، كما اتضح من خلال الرسوم الجدارية في المقابر والمعابد الفرعونية لفتيات يؤدِّين رقصات.
لكن علينا أن نُرضِي فضولنا ونسأل: لماذا يقتصر الرقص الشرقي على الفتيات، ولا نرى رجالًا يرقصون للجماهير؟
يرجع ذلك أيضًا إلى فلسفة المصريين القدامى، إذ كانت تلك الرقصة في الأصل تُؤدَّى للتقرُّب من الآلهة أو «النتيرو» (Neteru)، كدعاء لطلب المطر أو المحصول الجيد، وبالتالي كان من المنطقي أن تؤدي الرقصة نساء، لأنهن رمز الخصوبة والنماء.
من الطبيعي بعد كل ذلك أن يحظى الرقص الشرقي باحترام كبير من المصريين القدماء، ولكن ذلك أيام الحضارة وزهو الماضي، حين كانت فلسفة المصري عن الحياة تتَّسم بكل ما هو حيوي وإنمائي.
المهنة
أصبح الرقص الشرقي مهنة كما هو متعارَف عليه الآن في القرون الوسطى، حينما كانت الغجريات يهاجرن من أوروبا إلى بلاد الشرق، وفي أثناء مرورهن على مصر تَعلَّمن الرقص الشرقي وبدأن في الرقص لجنود وملوك بلاد الشرق كنوع من المتعة وإدخال السرور، ولكن بمقابل مادِّي.
بعد أن انتشر الرقص كمهنة أصبحت الراقصات الغجريات يُسمَّين «غوازي»، ومن الغوازي ظهرت جماعة أخرى تُسمَّى «العوالم»، وهؤلاء يختلفن عن الغوازي في معرفتهن القوية بالآلات الموسيقية والألحان والعزف على العود، بسبب استقرارهن في الشرق الإسلامي في أثناء ازدهار الفنون والعلوم، وقد تَعلَّمن الموسيقى وفنون الشعر والإلقاء بشكل أكثر منهجية، كما أن لهن طريقة مختلفة في أداء الرقصة.
قد يعجبك أيضًا: كيف تتحول من مستمع للموسيقى إلى «مستمتع» بها؟
الإيقاع
في تاريخ الرقص الشرقي كان الإيقاع أحد أهم عوامل الحفاظ على حركة الجسم البشري مع الموسيقى، لذلك كان لكل حضارة استخدامها للآلات مع الرقص الشرقي، فقد استعمل المصريون الناي والقيثارة، واستخدم الأفارقة الطبول، أما في تركيا فكانت الوتريات.
البدلة
ربما ذلك الركن من الرقص الشرقي هو الأخطر على الإطلاق، فقد اقترنت بدلة الرقص حديثًا في أذهان الناس بالإثارة، على الرغم من أن عديدًا من أزياء الرقص يتسم بالجمال والأناقة ويتيح للراقصة التحرك بانسيابية على أنغام الموسيقى.
على مر التاريخ لم يأخذ الرقص الشرقي طابعًا مثيرًا للمشاعر الحسية الغريزية، بل على العكس كان يُفترض أنه يأخذ الروح والجسد إلى عالم روحاني كما استخدمه المصريون، وهو أبعد ما يكون عن الشهوة. وبالنظر إلى الحركات والتناغم الذي تحاول الراقصة تحقيقه باعتباره ترجمة لما يدور في داخل جسد كل منا، تصبح بدلة الرقص التي ترتديها أداة تخدم طريقة التعبير.
لكن من أين أتت فكرة بدلة الرقص الشرقي؟
يرى المؤرخون أن تلك البدلة ترجع إلى زمن المصريين القدماء، ثم أخذها العرب من بعدهم، وكانت تتكون في أثناء الحضارة الإسلامية من قطعة تغطي الصدر مع بنطلون فضفاض ومفتوح من الجانبين لسهولة الحركة، كما أخذت البدلة عمومًا كثيرًا من التطريز بالخرز والسلاسل المعدنية المتدلية.
تطور شكل البدلة وأخذت من ملابس الراقصات الهنديات من قبائل البنجارا اللاتي كُنَّ يرتدين قطعة تغطي الصدر وتنُّورة، أما في أثناء العصر الذهبي للرقص الشرقي في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، ومع انتشاره في المسارح والصالات، أصبحت البدلة تتكون من جلابية مع ربط الخصر بحزام.
أصبحت الدولة المصرية تُلزم الراقصات بقواعد وأصول للبدلة، وتغيرت هذه القواعد من فترة إلى أخرى، وهي قطعة تغطي الصدر مصنوعة من الساتان اللامع ومطرَّزة، وتنورة طويلة مصنوعة من الجُبير أو الدانتيل ومفتوحة من الجانبين لسهولة الحركة، ثم بدأت الراقصات بإضافة الزينة الخاصة والمتنوعة التي تلائم نمط كل بدلة، مثل النجمة على السُّرة والأسورة المطرَّزة اللامعة والصاجات والشال الحرير والشمعدان.
في فترة السبعينيات ومع ظهور اليمين في المشهد السياسي، اضطُرَّت الدولة إلى تعديل شكل البدلة بحيث تغطي البطن فشاهدنا الراقصة سهير زكي تغطي بطنها بقماش شفاف، حتى تغيَّر ذلك القانون وعاد شكل البدلة القديم كما هي الآن، لكن مع دخول راقصات جديدات من دول أوروبية تَغيَّر شكل البدلة الجمالي وأصبحت تشبه الفستان، كما أن بعضهن يرتديها بشكل مبتذل تجاريًّا.
الرقص الشرقي في مصر
رغم ريادة مصر في مجال الرقص الشرقي فإن الدولة لم توفر معاهد أو نقابة للعاملين بهذا الحقل، وبقي الأمر متوارَثًا بين الأجيال ككثير من الحرف اليدوية التي ورثناها عن الأجداد.
ومن المعلوم في مصر أنه لا يخلو بيت أو عرس من الفتيات اللاتي يرقصن بجمال وتناسق لا يقلُّ عن المحترفات في بعض الأحيان. وحتى وقت ليس ببعيد، لم يكُن يخلو زفاف مصري من راقصة، بخاصة في الزفة، ودائما كانت تُسَمَّى «عالمة»، وكانت تضع الشمعدان فوق رأسها وترقص به في اتزان وثبات يدعو إلى الدهشة.
كانت صالات العرض الراقية تستقطب أبناء الطبقات الأرستقراطية في القاهرة بغرض البهجة والتنزه، وسُميت هذه الصالات حسب النطق الشائع آنذاك «الأوبِرج»، ومن الأوبرج ظهرت الأسماء اللامعة في عالم الرقص مثل تحية كاريوكا وسامية جمال وأخريات، وهناك صالات معروفة بالاسم حتى الآن مثل «كازينو بديعة» و«صحاري سيتي» و«أوبرج الأهرام».
أين تذهب لمشاهدة الرقص الشرقي؟
عندما نتحدث عن الرقص الشرقي في مصر لا يمكننا أن ننسى بأي حال شارع محمد علي، المعروف في أذهان المصريين جميعًا بخصوصيته واحتوائه على أكبر تجمع للراقصات المحترفات والعوالم والآلات الموسيقية، فكان صاحب الاحتفال يذهب إلى الشارع للاتفاق مع العالمة وفرقتها التي ستُحيِي حفل الزفاف.
لكن للأسف أصبح الشارع الآن مجرد إرث تاريخي ولم تعُد الحركة الفنية فيه مزدهرة كما كان الحال، في ما عدا بعض المحلات المتفرقة لبيع الآلات الموسيقية.
ومَن مِنَّا لم ير أو يسمع بشارع الهرم الذي تحدثت عنه أفلام كثيرة، ذلك الشارع الذي اشتهر بالملاهي الليلية متفاوتة الدرجات، فمنها الراقي الذي تُحيِي لياليه راقصات الدرجة الأولى ويمتاز بالمحتوى الفني الجيد، ومنها الرديء؟ لكن أهمية الشارع تكمن في أنه كان مزارًا سياحيًّا مهمًّا يُدخِل للدولة كثيرًا من العملة الصعبة.
قصة شارع الهرم مليئة بالمغامرات، ولعل أبرزها ما حدث بعد ثورة 25 يناير من محاولات لإغلاق الكازينوهات، فقد حاول بعض رجال الأعمال الإسلاميين شراء بعض الكازينوهات بأسعار خيالية وتحويلها إلى محلات تجارية.
من هذه الأماكن كازينو «الجندول» الذي كان متخصصًا في تقديم الرقصات والعروض الشرقية، وكان ملكًا للسيدة صفية حلمي، وبعد وفاتها ورثه ابنها شريف عبد العظيم الذي نصحه الداعية السلفي عادل شعبان ببيعه واستغلال الأرض في إقامة مشروع تجاري كبير، وبالفعل هُدِم الكازينو.
هو عيب لما بنت خالتك تبقى رقاصة؟
اقتصر الرقص الآن على مشاهد من أفلام رديئة وأصبح يميل إلى الإثارة ﻻ الإبداع.
رغم كل ما حدث لأماكن ازدهار الرقص فإن رموز هذه الأماكن لا يمكن أن تُمحى من ذاكرة الشارع العربي، فالكثيرون تَربُّوا على رقصات سامية جمال التي أدخلت قوالب جديدة على الرقص الشرقي ومزجته مع الحركات الغربية في تجانس لم يسبق له مثيل، وسبقتها تحية كاريوكا التي تميزت بأناقة بدلاتها وأدائها التمثيلي الجيد وروحها الثورية.
من الراقصات اللامعات كذلك زينات علوي، صاحبة أشهر جملة عن الرقص في السينما العربية: «هو عيب لما بنت خالتك تبقى رقاصة؟» في فيلم «الزوجة 13». وقد قررت زينات وهي في ذروة مجدها أن تعتزل احتجاجًا على الظلم والاضطهاد الذي تتعرض له الراقصات بسبب الخلط بين الرقص الشرقي والدعارة، وطالبت هي وزميلاتها بنقابة تحمي الراقصات من تلك التهمة، ولكن الدولة لم تُعِرهن اهتمامًا، مما أحبط زينات حتى توُفِّيَت وحيدة في منزلها.
في ما بعد ظهر جيل أحدث تمتَّع بنوع من الأصالة، مثل سهير زكي التي كانت تعتمد على حركات الخصر بشكل دقيق وواضح، ثم نجوى فؤاد وفيفي عبده، أما الآن فقد أصبح الرقص مقتصرًا على مشاهد من أفلام رديئة لمؤديات يملن إلى الإثارة أكثر من الإبداع.
الموسيقار أيضًا يحب الرقص
عادة ما يكون للرقص الشرقي موسيقاه الخاصة والتي تحمل بداخل ألحانها سحر الحضارة المصرية، وقد أبدع فيها موسيقيون كبار مثل بليغ حمدي في مقطوعاته الشهيرة «دندش» و«قصة حب»، والموسيقى الأشهر «عزيزة» لمحمد عبد الوهاب، لأن الزفاف المصري لا يصحُّ دون موسيقى الرقص الشرقي على أي حال.
اقرأ أيضًا: حكايات ذاتية جدًّا: عمار الشريعي.. وآخرون
من مصر إلى العالمية
وفقًا لكتاب «Sisters of Salome»، انتقل الرقص الشرقي إلى الغرب في القرن التاسع عشر الميلادي وبدأ يشتهر باسم «رقص سالومي»، كما أسهمت الراقصة الهولندية «ماتا هاري» (Mata Hari) في انتشاره في أوروبا.
في تسعينيات القرن العشرين بدأت إقامة مهرجانات فنية للرقص الشرقي كنوع من المنافسة والتكريم، لكن المشاركات ظهرن بشكل واحد للبدلة هو جلابية وحزام على الخصر، وفي نهايات القرن التاسع عشر أدخلت هوليوود الرقص الشرقي في أفلامها. أما في أستراليا، فبعض المطاعم والأماكن العامة تعرض فقرات للرقص الشرقي، بسبب إعجاب المواطن الغربي بالبهجة التي تُحدِثها الرقصات.
انتكاسة الرقص الشرقي
في الوقت الحالي ينظر كثير من العرب إلى الرقص باعتباره إغواءً من المرأة، لما يحمله في أذهانهم من دلالات حسية صريحة، وكثيرًا ما يرددون أن دور الراقصة «إمتاع الزبون» ليس إلا.
حظيت تلك الأصوات بشعبية كبيرة عند أهل مصر متناسين فلسفتهم الأصلية عن صناعة البهجة. وانتقلت النظرة إلى المناسبات والأفراح التي لم تكُن تخلو من راقصة، وأصبح بعض الأفراح يقتصر على تقديم الطعام، في حين يرقص معظم المدعوين مثل الراقصات وأكثر.
الأخطر من ذلك أن الرقص الشرقي أصبح مزدهرًا للغاية في الغرب الآن في حين يُحارَب في بلده، وتلك النظرة السلبية أسهمت في قتل كثير من المواهب المصرية الأصيلة خوفًا من العار الذي ستجلبه الراقصة لنفسها ولعائلتها إذا فكرت أن تمتهن الرقص.
هل يصبح الرقص الشرقي مجرد تراث ونستورد فننا من الخارج بملامح لا تشبهنا، فقط لأننا لا نزال ممزَّقين بين ثقافتنا الأصيلة وما لا ننتمي إليه؟
رضوى شلبي