دانييل بارنبويم: الحرية والثورية في موسيقى بيتهوفن
في مجال الموسيقى، من المثير دائمًا، والمهم أحيانًا، أن نكون على دراية بحياة المؤلف، لكن هذا ليس ضروريًّا لفهم مؤلفاته الموسيقية. فعلى سبيل المثال، كان بيتهوفن يعتزم الانتحار في نفس السنة التي ألف فيها سيمفونيته الثانية المتميزة بطابعها المتفائل، أي عام 1802، لذا ينبغي أن نفصل بين موسيقى المؤلف وسيرته الشخصية، رغم قدرة الواحدة على إضاءة الأخرى في أحيان كثيرة.
في مقال كتبه لجريدة «التليغراف»، يطلعنا الموسيقار والناقد «دانييل بارنبويم» على بعض جوانب حياة بيتهوفن وموسيقاه، ويشير إلى الجمال الخالد لأعمال الموسيقار الأشهر في التاريخ.
الجرأة والثورية أول مفاتيح فهم بيتهوفن
حين نحاول التعبير عن الموسيقى بالكلمات، ليس بوسعنا إلا وصف تفاعلنا معها وردود أفعالنا تجاهها، لا إدراك حقيقة الموسيقى ذاتها.
لم يقصد بارنبويم من مقاله تقديم دراسة نفسية مفصلة عن بيتهوفن الرجل، بتحليل أعماله الموسيقية أو العكس، لأنه لا يرى شرح طبيعة أو مغزى الموسيقى عن طريق الكلمات ممكنًا، لأنها تعني أمورًا مختلفة لأناس مختلفين، وأحيانًا أمورًا مختلفة لنفس الشخص في لحظات مختلفة من حياته.
ربما تكون الموسيقى شاعرية، أو فلسفية، أو حسيَّة، أو رياضية، ولكنها في أي حال يجب أن تكون على اتصال بروح الإنسان، ولذلك فهي دائمًا غيبية أو ميتافيزيقية، رغم أن وسيلة التعبير عنها فيزيائية بحتة: الصوت.
يظن بارنبويم أن الموسيقى تستمد قوتها من هذا التعاون بين المغزى الغيبي والوسيلة الفيزيائية، ولهذا السبب أيضًا، حين نحاول التعبير عن الموسيقى بالكلمات، لا يكون بوسعنا سوى وصف تفاعلنا معها وردود أفعالنا تجاهها، لا إدراك حقيقة الموسيقى ذاتها.
تتجلى أهمية بيتهوفن الموسيقية بحسب بارنبويم في الطبيعة الثورية لمؤلفاته، فقد حرر الموسيقى من التراكيب والتناغمات اللحنية السائدة في وقته، واستمر أثر تحريره هذا إلى اليوم، ويمكننا أن نستشعر في مؤلفاته الأخيرة رغبةً في كسر كل علامات الاستمرارية، لذا خرجت موسيقاه فجائية ومتقطعة، كما في سوناتا البيانو الأخيرة.
قد يهمك أيضًا: كيف تتحول من مستمع للموسيقى إلى «مستمتع» بها؟
لم يتقيد بيتهوفن في تعبيره الموسيقي بأساليب التأليف المتعارف عليها في عصره، بل كان حرًّا وجريئًا، ويرى بارنبويم أن الجرأة خصلة مهمة لفهم أعماله، وعزفها كذلك، إذ تتطلب مقطوعات بيتهوفن من عازفها أن يكون جريئًا، خصوصًا في ديناميكيتها (علو مستوى الصوت وانخافضه).
اعتاد بيتهوفن أن يرفع مستوى الصوت تدريجيًّا لجملة موسيقية ما حتى تبلغ مستوًى عاليًا من الشدة، ومن ثَمَّ يهبط فجأةً بمستوى الصوت مبتدئًا جملة موسيقية هادئة تتبعها، وقلَّما اتبع هذا الأسلوب مَن سبقه مِن المؤلفين، وكأن بيتهوفن أراد الدفع بالعازف إلى أن يكون جريئًا ولا يخشى حافة الجرف.
بحث دائم عن الحرية
يشير بارنبويم كذلك إلى أن بيتهوفن كان رجلًا سياسيًّا بالمعنى العام للكلمة، فرغم أنه لم يكن مهتمًّا بتفاصيل ومستجدات الحياة السياسية اليومية، كان شديد الاهتمام بالجانب الأخلاقي منها، مثل اهتمامه بمسائل الخطأ والصواب التي تعني المجتمع ككل.
حازت مسألة الحرية اهتمامه خصوصًا، وكانت ترتبط عنده بحقوق الفرد ومسؤولياته، لذا شجع على حرية الفكر والتعبير الشخصي، ولم يكن ليتعاطف أبدًا مع ما انتهت إليه اليوم من حرية اقتصادية أساسًا، من النوع الضروري للعاملين في السوق.
يقارن بارنبويم مفهوم بيتهوفن عن الحرية بالمفهوم الاقتصادي الحديث في صورته التي عبَّر عنها جورج بوش الابن، عندما قال في وثيقة أصدرها يوم 17 سبتمبر 2002 إن الهدف من أمريكا كأقوى دولة على الأرض أن «تتوسع بفوائد الحرية لتشمل العالم كله (...) فإن كان بمقدورك صنع شيء ذي قيمة، فمن حقك أن تقدر على بيعه، وإن كان بمقدور غيرك صنع شيء ذي قيمة لك، فمن حقك أن تقدر على شرائه، وهذه هي الحرية الحقيقية، أي حرية الشخص، أو الأمة، في كسب الرزق».
كان بيتهوفن قادرًا على تحقيق الاتزان المثالي من تناغم لحني وسرعة ونبرات ونغمات، وكانت مسألة قطبية المشاعر والاتزان بينها شغله الشاغل.
ينظر الناس عادةً إلى موسيقى بيتهوفن على أنها عمل درامي يعبِّر عن صراع هائل، مثل ما يُستشَف من سيمفونيتيه الثالثة (البطولية) والخامسة مثلًا، إلا أن هذا جانب واحد فقط من أعماله، فلا يجب أن ننسى سيمفونيته السادسة (الريفية) على الجانب الآخر.
يمكن لموسيقى بيتهوفن إذًا أن تتميز بالانطوائية والانفتاح معًا، أما الصفة الإنسانية الوحيدة التي لا تراها في موسيقاه فهي السطحية، ولا يمكن وصف موسيقى بيتهوفن كذلك بأنها خجولة أو لطيفة بسذاجة، بل على العكس، وحتى عندما تكون موسيقاه شديدة الشخصية مثل كونشرتو البيانو الرابع والسيمفونية الريفية، تجد فيها بوضوح عنصرًا من العظمة والفخامة، ومهما بلغت عظمتها تظل شخصية، مثل السيمفونية التاسعة.
موسيقى بيتهوفن فلسفة متكاملة
يرى بارنبويم أن بيتهوفن كان قادرًا على تحقيق الاتزان المثالي في موسيقاه بين جميع العناصر الموسيقية، من تناغم لحني وسرعة ونبرات ونغمات، وهو ما يعطي حِسًّا بالصرامة مع حِسٍّ أكبر بالحرية والمرونة، ويبدو أن مسألة قطبية المشاعر والاتزان بينها كانت شغله الشاغل.
عندما وضع بيتهوفن المسيرة الجنائزية في منتصف السيمفونية الثالثة لم يكن هذا عبثًا، بل لأنه لم يرد للمعاناة أن تملك الكلمة الأخيرة.
يمكن الإشارة إلى أوبرا «فيديليو» كمثال لهذا الانشغال، إذ تحتوي المقطوعة على حركة دائمة بين قطبين متضادين، من الضوء إلى الظلام، ومن السلبية إلى الإيجابية، وتتحرك بين أحداث تقع فوق السطح، وعلى السطح، وأسفل السطح. لم يكن بيتهوفن قادرًا، بحسب بارنبويم، على تأليف موسيقى سطحية أو جميلة بسذاجة، ولم يكن قادرًا كذلك على تأليف أي عمل يرمز إلى الشر على وجه الحصر، فحتى شخصية مثل «بيزارو»، مدير سجن فيديليو، ربما ترمز إلى الفساد والقمع، لا الشر.
اقرأ أيضًا: كيف يجعلنا الأدب والفن أكثر تعاطفًا مع اﻵخرين؟
تميل موسيقى بيتهوفن إلى الانتقال من الفوضى للنظام (مقدمة السيمفونية الرابعة)، وكأن النظام صفة ليس بمقدور الوجود الإنساني أن يستغني عنها، فبالنسبة إليه، لا يَنتج النظام عن نسيان وتجاهل الفوضى التي تشوب وجودنا، بل النظام تطور ضروري وتحسُّن مستمر.
عندما وضع بيتهوفن المسيرة الجنائزية في منتصف السيمفونية الثالثة عوضًا عن خاتمتها، لم يكن هذا في رأي بارنبويم صدفة أوعبثًا، بل كان لأنه لم يرد للمعاناة أن تملك الكلمة الأخيرة.
هكذا، يمكن للمرء حين يعيد صياغة أعمال بيتهوفن أن يقول بأن المعاناة حتمية، لكن الشجاعة في مواجهتها هو ما يجعل الحياة تستحق أن تُعاش.
أحمد الشمالي