لأسباب عقائدية وللصدفة: هشاشة الفن أمام الحياة
في خضم الحروب، وخلال الأحداث الجسام التي تضرب الدول، بل وحتى خلال فترات السلم، يبدو الفن هشًّا سهل الكسر، لا يحمل المدافعون عنه بنادق ولا يتمترسون خلف حواجز، سلاحهم غير ملموس، بل قابل فقط للتذوق، لذلك يخسرون ويضطرون كثيرًا إلى الانسحاب، وتبقى اللوحات والتماثيل والمباني القديمة، التي شاهدت مرور السنين، وحيدة في مواجهة من لا يعرفونها ولا يفهمون قيمتها.
أما في الزمن الهادئ، الذي تفتحه فيه المتاحف أبوابها لزائرين يقدِّرون ما هم على وشك رؤيته، لا تسلم الفنون من مخمور يعتقد أنه نبي، أو مجنون يعتقد أن نبيًّا يأمره، أو حتى سائح متهور يقترب أكثر من اللازم، وكل هذا عرضه تقرير على صحيفة «The New York Times».
لست سكرانًا، بل مدافع عن التاريخ
السبب وراء تحطيم لوحة «إيفان الرهيب» قد يكون أقل غرابة مقارنة بغيره من مهاويس العداء للأعمال الفنية.
تعد لوحة «إيفان الرهيب» واحدة من أشهر اللوحات في تاريخ الفن الروسي، والفن العالمي بشكل عام، ما أضفى أهمية كبيرة على واقعة تدميرها على يد رجل وُصِف بأنه مخمور، في أثناء عرضها بمعرض «تريتياكوف» بالعاصمة الروسية موسكو. وتُصوِّر اللوحة مشهد القيصر إيفان الرابع المعروف أيضًا بإيفان الرهيب، وهو يحتضن ابنه الذي يُحتضَر.
أفادت الشرطة الروسية بأن رجلًا يُدعى «إيغور بودبورين» (37 عامًا)، شرب الفودكا حتى الثمالة، ثم هاجم اللوحة بقضيب حديدي محطمًا إطارها الزجاجي، ما تسبب في تمزيق عدة مواضع منها. لكن المتهم نفى أمام هيئة المحكمة وقوعه تحت تأثير الخمر في أثناء ارتكابه تلك الجريمة، موضحًا أنه نفذ فعلته لأن اللوحة بها خطأ تاريخي، إذ تصور مشهد احتضان القيصر لابنه بين ذراعيه وهو مصدوم.
لوحة «إيفان الرهيب» صممها الرسام الروسي «إيليا ريبين» الذي ينتمي إلى المدرسة الواقعية، وذلك عام 1885. وتعد اللوحة محل جدل تاريخي لأن المشهد الذي تصوره يحكي رأيًا يفيد بأن القيصر إيفان الذي حكم روسيا في الفترة من مارس 1881 إلى نوفمبر 1894، هو نفسه من قتل ولده، وهو ما يراه القوميون الروس نظرة مزيفة ومشوهة للتاريخ، لذلك أزيلت اللوحة من معرض تريتياكوف، ولم تعد إلى المعرض ذاته إلا في عام 2013.
شهدت روسيا في العصر الحديث محاولات متكررة لتحسين صورة القيصر إيفان الرهيب أمام الرأي العام المحلي، من بينها إقامة معرض فني جماهيري عام 2015 في العاصمة موسكو حمل رسالة مفادها أن إيفان الرهيب ليس شخصًا سيئًا كما صوَّرته بعض الأعمال الفنية والتاريخية، إضافة إلى أن الرئيس الروسي دافع عنه بنفسه عام 2017. لكن يبدو أن الطرق التقليدية لم تُجدِ نفعًا، فلجأ المدعو إيغور إلى العنف ظنًّا منه أنه بذلك سيغير هذا الخطأ التاريخي من وجهة نظره.
نجد أن تدمير عمل فني بهذا الثقل لم يكن بدعة ابتدعها إيغور بودبورين، بل إن السبب وراء تحطيم هذا العمل الفني قد يكون أقل غرابة مقارنة بغيره من مهاويس العداء للأعمال الفنية، سواء التماثيل أو اللوحات فنية، إذ نجد أن تاريخ الفن حافل بحوادث خسر العالم فيها لمسات الذوق الرفيع لأسباب أقل ما توصف به أنها غير منطقية.
في 2015 حطم سائحان تمثال «هرقل» الذي كان يجسد نموذجَيْن مجتمعين من البطل الأسطوري اليوناني، وعُرِضَ في مدينة كريمونا الإيطالية. الغريب أن تحطيم التمثال لم يحدث بأي دافع عدائي، بل على العكس، فقد كان حب السائحين له هو الدافع الوحيد، إذ تحطم التمثال البالغ عمره أكثر من 300 عام في أثناء محاولتهما التقاط صورة «سيلفي» معه، بحسب موقع «Mentalfloss».
تسلق السائحان تمثال هرقل الكائن في قصر «لوغيا دي ميلتي» الذي يعود تاريخ إنشائه إلى عام 1700، وتعلقا بتاج أحد التمثالين، ما أسفر عن انفصال الجزء العلوي، وبالتالي سقوطه وتهشمه. ووجهت السلطات وقتها تهمة التخريب المتعمَّد إلى المسؤولَيْن عن تلك الجريمة.
في الولايات المتحدة، وتحديدًا في ولاية فيرجينيا، انتقل الجدل حول ما تمثله الأعمال الفنية إلى مرحلة جديدة وصلت إلى حد أعمال العنف والقتل، إذ شهدت مدينة شارلوتسفيل في أغسطس 2017، مقتل امرأة وإصابة 19 آخرين إثر احتجاجات من القوميين البيض على قرار السلطات في المدينة بإزالة الآثار والنصب التذكارية الكونفدرالية منها، وبحسب شبكة «VOX» الأمريكية، فإن أعمال العنف هذه لم تغير من موقف عمدة شارلوتسفيل، بل إنها شجعت ولاية كنتاكي على اتخاذ قرار مماثل، ما زاد من حدة الاحتقان.
تكمن خطورة وجود التماثيل والنصب الكونفدرالية في أنها تمثل رموزًا لعصر العبودية في الولايات المتحدة الأمريكية، ما يراه الأمريكيون من ذوي الأصول الإفريقية «وصمة عار» في التاريخ الأمريكي يجب محوها، أو على الأقل إخفاؤها، لا الاحتفاء بها في الميادين العامة، في حين يرى القوميون البيض أن مثل هذه التماثيل جزء من الهوية الأمريكية، وإزالتها تعني تشويه تلك الهوية.
قد يعجبك أيضًا: 3 أعمال فنية تخلِّد الوجود الإنساني
أنا المسيح الذي قام من بين الأموات
لم يكن الرسام العالمي «بابلو بيكاسو» يتوقع أن تلقى لوحته «الممثل» التي أتمها عام 1904، هذا المصير. ففي أثناء عرض اللوحة في متحف «ميتروبوليتان» بمدينة نيويورك عام 2010، فقدت إحدى زائرات المتحف توازنها، وتعثرت في اللوحة البالغ طولها نحو مترين، ما أدى إلى إحداث قطع طولي في اللوحة بنحو 15 سنتيمترًا.
أجرى المسؤولون عن المتحف عمليات الإصلاح اللازمة، والتي تضمنت إعادة الرسم على القماش، وتأمين وضع الطلاء القديم على اللوحة باستخدام مادة لاصقة، واستخدام شرائح من جلد الأرنب كدعامات للقطع. وبعد أن استغرق إصلاح اللوحة شهورًا أعيدت إلى العرض في المتحف، لكن هذه المرة استوعب المسؤولون الدرس، فوضعوها داخل حافظة زجاجية.
راح تمثال «بييتا»، أو «الرحمة»، الذي يجسد السيدة مريم العذراء وهي تحمل جسد المسيح عليه السلام بعد صلبه، ضحية عالِم جيولوجي عام 1972، اذ انقض «لازلو توث» على التمثال الموجود في كاتدرائية «القديس بطرس» بالعاصمة روما، ممسكًا بمطرقة ليُلحِق أضرارًا به.
بحسب موقع «Mic»، فقد قفز توث على المذبح الذي يوجد التمثال عليه، وتشبث به صائحًا: «أنا المسيح الذي قام من بين الأموات». وأسفر هجومه عن كسر أنف تمثال السيدة العذراء، وتطاير نحو 100 شظية. أما توث، فقد تقرر إرساله إلى مصحة نفسية أودع فيها لمدة عامين.
أثير جدل كبير حول ما إذا كان الهجوم سيترك آثارًا واضحة على التمثال حتى بعد عملية الإصلاح، وحُسِمَ هذا الجدل بعودة التمثال إلى موضعه بعد نحو 10 أشهر من الاعتداء عليه، ولتجنب حوادث مماثلة في المستقبل تقرر وضع التمثال خلف زجاج مضاد للرصاص.
أراد «إيمانويل لويتز» أن تُبرز لوحة «واشنطن يعبر ديلاوير» أمجاد بطولات الحرب، لكنها دُمِّرت بفعل لامبالاة المحاربين.
تختلف لوحة «واشنطن يعبر ديلاوير» عن حالات تدمير الأعمال الفنية السابقة في أن مصممها الفنان الألماني «إيمانويل لويتز» أنتج منها نسختين، إضافة إلى النسخة الأصلية التي نجت بأعجوبة من حريق اندلع في مكتب «لويتز» عام 1850، وانتُزِعَت اللوحة من إطارها بهدف إنقاذها، ما تسبب في تمزق أجزاء منها.
أجريت عمليات إصلاح اللوحة، وبيعت للقاعة الفنية في مدينة «بريمن» الألمانية عام 1863، وظلت في المدينة ذاتها حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية، وفي سبتمبر 1942 دُمِّرت اللوحة بالكامل في غارة شنتها قوات الحلفاء، بحسب موقع «Artsy».
تصور اللوحة جورج واشنطن، أول رئيس للولايات المتحدة الأمريكية، وهو يقود طاقم قارب يعبر المياه شبه المتجمدة لنهر ديلاوير في الصباح الباكر لمعركة ترينتون. المفارقة هنا أن لويتز أراد للوحته إبراز أمجاد البطولات التي تظهر خلال الحرب، لكن اللوحة ذاتها دُمِّرت بفعل اللامبالاة التي يتمتع بها المحاربون.
صدر التمثال عورة
في أواخر 2017 أقدم ملتحٍ على تشويه تمثال «عين الفوارة» في الجزائر، مستخدمًا إزميلًا ومطرقة، واستهدف بالتشويه منطقتي الصدر والوجه بالتحديد.
إذا كنا في أيامنا هذه غير قادرين على استيعاب كيف أمكن للجهل والتهور والحرب تدمير أثمن الأعمال الفنية في الماضي، فربما يعطينا ما ارتكبه تنظيم داعش من جرائم في حق آثار إحدى أقدم الحضارات مثالًا حيًّا معاصرًا على هذه الجرائم التي ربما إن أعاد مرتكبوها التفكير قليلًا لتبين لهم مدى الظلام الفكري الذي وقعوا فيه.
أعلنت الحكومة العراقية في مارس 2015 أن تنظيم داعش الإرهابي نفذ اعتداءً غير مسبوق على مدينة النمرود الأثرية التي تُعرَف أيضًا باسم مدينة «كالح»، والتي كانت عاصمة الدولة الآشورية في القرن التاسع قبل الميلاد، إذ عمد عناصر التنظيم الإرهابي إلى تجريف المدينة الأثرية وهدم جداريات وتماثيل لا تقدر قيمتها بثمن، بحسب شبكة «سكاي نيوز».
من أهم التماثيل التي دمرها داعش في المدينة التي تقع على مسافة 30 كيلومترًا إلى الجنوب من الموصل: الثيران المجنحة التي لها وجوه آدمية، ويطلق عليها اسم «لاماسو»، وتقع عند مداخل قصر «آشور ناصر بال الثاني»، ملك الإمبراطورية الآشورية في القرن التاسع قبل الميلاد.
من المحزن أنه قبل سيطرة داعش على المنطقة في 2014 كانت مدينة «نمرود» من المواقع الأثرية المرشحة للإدراج على لائحة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «يونسكو»، إلا أن ذلك كله ذهب أدراج الرياح بسبب عصابات اتخذت من راية الإسلام ذريعة لها لمحاربة الحضارة.
قد يهمك أيضًا: هكذا صارت الآثار العراقية في متناول الجميع
في أواخر 2017 أقدم ملتحٍ في مدينة سطيف الجزائرية على تشويه معالم تمثال «عين الفوارة» الذي تشتهر به المدينة، ويعد أحد أشهر معالمها، إذ أخفى الرجل أدوات معدنية في جلبابه، ثم فاجأ المارة بهجومه على التمثال مستخدمًا إزميلًا ومطرقة، واستهدف بالتشويه منطقتي الصدر والوجه بالتحديد.
تمثال «عين الفوارة» صممه النحات الفرنسي «فرانسيس سان فيدال» في باريس سنة 1898، بعد 68 سنة من الاحتلال الفرنسي للجزائر، ونُقِلَ التمثال إلى مدينة سطيف عام 1899، ويجسد امرأة عارية، ما أثار حفيظة المتشددين الإسلاميين الذين حاولوا تحطيمه من قبل في عام 1997 عن طريق تفجيره، إلا أن السلطات تمكنت من إصلاح التلفيات التي لحقت بالتمثال نتيجة التفجير.
تثبت مثل هذه الوقائع أن الأعمال الفنية من لوحات وتماثيل لا تهم فقط المثقفين ولا المؤرخين ولا حتى تجار الآثار من خلال أنشطتهم غير المشروعة، بل إن المدلول السياسي لمثل هذه الأعمال قد يفوق غيره، بخاصة بعد أن تحولت من ساحة جدال فكري إلى ساحة صراع سياسي وأيديولوجي وتاريخي.
وإن كانت الحكومات تخشى على إرثها الثقافي من الإهمال والأفكار المتطرفة، فعليها أن تعيد النظر في الصراعات الطائفية التي تشبه نارًا تحت رماد تنتظر أن يشعل شرارتها من جديد لوحة أو تمثال يفتح جرح العنصرية القديم المسكوت عنه، والذي كاد حتى أصحابه ينسونه.
أيمن محمود