أكثر من أميرة غامضة: البحث عن ميراث أسمهان الغنائي
تحتفظ الذاكرة العربية بصورة أسطورية عن المطربة أسمهان (1917 - 1944)، حكاية مقدسة عن صوت شجي حمل رنين الفضة، وسيرة أميرة تمردت، فامتلأت حياتها الخاطفة بالحب والسياسة، وانتهت بهاجس الموت ونهاية الماء.
هكذا حفظ تاريخ الغناء سيرة أسمهان من محور أحادي البعد، دون أن يلقي بالًا لأثرها الفني وأهمية صوتها في مسيرة الفن العربي.
كان لظهور أسمهان أثر حاسم في تغير معايير الطرب. فقد فتح صوتها آفاق التطور أمام الملحنين، وأسهمت أغانيها المعدودة في توجيه أصوات جيلها نحو مسارات بعيدة عن المغامرة الغنائية.
قبل كل هذا، أفسحت المجال أمام أخيها الناشئ فريد الأطرش ليصبح من أهم الملحنين في القرن العشرين. لكن سيرة الأميرة الحرة الغامضة غلبت سيرة المطربة العظيمة، ورغم أن أغانيها تظل مسموعة بشكل واسع، فإن الكثيرين اهتموا بسيرتها أكثر مما اهتموا بتراثها الأكبر: صوتها العظيم.
البحث عن ميراث أسمهان
في كتابها «صوت مصر»، تحلل الكاتبة «فيرجينيا دانلسون» تطور شخصية أم كلثوم الفنية، وتؤكد ضرورة تقسيم ميراث الفنان إلى مراحل من المفترَض أنها تعكس المناخ الفني لعصره.
على هذا الأساس تكشف قراءة تجربة أسمهان الغنائية من خلال تطورها التاريخي، عن خطاب غنائي تَشكَّل عبر مرحلتين مختلفتين من حياتها الشخصية: الأولى قبل زواجها من الأمير حسن الأطرش، وهي ممتدة منذ وصولها إلى القاهرة عام 1923 حتى زواجها من ابن عمها عام 1933، ورحيلها إلى جبل العرب في سوريا. المرحلة الثانية بعد عودتها إلى القاهرة عام 1937 حتى وفاتها في السابعة والعشرين من عمرها عام 1944.
بين تلك المرحلتين غياب تام سقط فيها كل دور فني لأسمهان، وغاب صوتها تمامًا عن الساحة الغنائية.
كانت تجارب أسمهان الأولى مرتبطة بصيغة الغناء الكلاسيكي، ودفع محمد القصبجي حنجرتها نحو صيغة موسيقية أخرى.
كانت المرحلة الأولى لصوت أسمهان (1923 - 1933) مرحلة تدريب واستعداد وتأصيل، عبر إنتاج ألحان غلب عليها التأثر بأداء أم كلثوم الغنائي. ففي مطلع الثلاثينيات، دخلت أسمهان عالم الفن من الباب الواسع حين تبنَّتها شركة الأسطوانات «كولومبيا»، وأنتجت لها سلسلة من الأغاني لحنها كوكبة من كبار الملحنين، وهي لا تزال في الرابعة عشرة.
من هذه الأغاني: مونولوغ «عاهدني يا قلبي» لزكريا أحمد عام 1931، و«يا نار فؤادي» لفريد غصن 1932، و«ياللي بحبك بنيت الأماني» لمحمد القصبجي عام 1932.
من يستمع لهذه الأغنيات، وبخاصة لحن زكريا أحمد «عاهدني يا قلبي»، يجد أن أسمهان قدمت نموذجًا غنائيًّا كلاسيكيًّا، لكن في صيغة عصرية. فأداؤها الغنائي في ذلك المونولوغ اعتمد، مثل معظم مطربات نهايات القرن التاسع عشر، على الصوت النحيل الحاد الذي تمتلكه رجفة عند أداء بعض الجمل الغنائية، مستغلة بذلك صوتها الذي لم يكن قد نضج بعد إذا ما قورن بصوتها الذي عرفه الناس لاحقًا.
إذا كانت تجارب أسمهان الأولى بدت مرتبطة بصيغة الغناء الكلاسيكي، فدخول محمد القصبجي بخبراته الموسيقية عالم أسمهان، دفع بحنجرتها نحو صيغة موسيقية أخرى، وهي المونولوغ الرومانسي الذي عمل عليه القصبجي منذ 1925، في تجارب متعددة ومتتالية لعدد من المطربات، أهمهن أم كلثوم.
قد يهمك أيضا: فرقة أم كلثوم: من أين تأتي كل تلك الموسيقى؟
في عام 1932، وقبل انقطاع أسمهان المؤقت عن الغناء، قدم لها القصبجي مونولوغ «كنت الأماني» من كلمات الشاعر يوسف بدروس. يتميز المونولوغ بتلك التوليفة الموسيقية التي تجمع بين أسلوب المدرسة التقليدية القديمة وطريقة القصبجي المستحدَثة في تلحين المونولوغ، والتي ظهرت في أداء أسمهان حين تشابكت الرجفة التقليدية في صوتها بالطريقة التعبيرية عند أداء المقاطع الأخيرة من الأغنية ذاتها.
حملت المرحلة الثانية في حياة أسمهان الفنية (1937 - 1944) نزعة جديدة، سواء في أدائها الغنائي أو في نمط الأغاني التي قدمتها. فقد تسبب غيابها المؤقت عن الساحة الغنائية في نضج صوتها وإكسابها ثقافة موسيقية مزدوجة (مصرية - شامية) أدت مع تدريباتها الصوتية وميولها الشخصية إلى منحها لهجة خاصة في الأداء الغنائي.
لكن أسمهان امتلكت عددًا من القدرات الفطرية التي جعلتها قادرة على تحويل الغناء السائد إلى غناء متطور. فخلال سبع سنوات، وعبر تجارب موسيقية عدة، عبَرت أسمهان المرحلة التقليدية إلى تطعيم الغناء العربي بقواعد الغناء الأوروبي، ما جعل غناءها بمثابة الخروج من معبد الطرب العربي. لكنه كان خروجًا آمنًا، وتحت إشراف فرسان المعبد ذاته.
أسمهان وفرسان المعبد الثلاث
بعودة أسمهان إلى القاهرة، فُتِح باب التنافس بين فرسان التلحين المصري على صوتها. فمنذ بدايتها لاحظ المتابعون أن مساحة صوت أسمهان تصل، من حيث التصنيفات الأوروبية، إلى فئة «السوبرانو»، وهي فئة غنائية تمتاز بمداها الواسع في مختلف ألوان الانفعالات والعواطف، وتعد أساس الغناء الأوبرالي، أي الغناء الخارج من الرأس، والذي أثبتت التجارب أن أسمهان تؤديه بدقة وتعبير فني واضح دون أي نبرة صراخ.
إضافة إلى ذلك، فإن التعبير الأدائي يسيطر معظم الوقت على غنائها. فهي تنتقل من شعور إلى آخر وفق اللحن والكلمات، فتضفي على الموسيقى حسًّا دراميًّا وحرارة إنسانية قَلَّ مثيلها.
كل هذا شكَّل، في نظر فرسان التجديد الموسيقي في مصر، فرصة لانطلاقة جديدة للغناء العربي، وإن كان لم يُقدِّر تلك الفرصة إلا محمد القصبجي صاحب المدرسة التجديدية الكبرى، ورياض السنباطي ذو النزعة الكلاسيكية، ومدحت عاصم الطامح في غناء عربي عالمي.
قد يهمك أيضًا: رياض السنباطي: العبقري يعيش مرتين
استثمر القصبجي إمكانيات أسمهان الصوتية في توسيع دائرة تجاربه الموسيقية، بحثًا عن سبل تطوير الأداء العربي.
كانت البداية الحقيقة لأسمهان بعد عودتها إلى القاهرة عام 1938، عندما سجلت موالًا من التراث الشامي هو «جمالًا محمله» من مقام «البياتي»، ولحن أصولي كبير لمحمد القصبجي هو «ليت للبراق عينًا» وهو لحن سبق وغناه المطرب إبراهيم حمودة، ثم المطربة حياة محمد في فيلم «ليلى بنت الصحراء» عام 1937.
رغم الجدل الذي دار حول نسبة لحن تلك القصيدة إلى أسماء أخرى غير القصبجي، مثل الممثلة والمنتجة المصرية بهيجة حافظ والملحن أحمد عبد القادر الذي نسب اللحن لنفسه عبر مقابلة إذاعية، تثبت جميع المراجع التاريخية، إضافة إلى أرشيف «جمعية المؤلفين والملحنين» في باريس، نسبة اللحن إلى القصبجي، الذي تظهر روحه الموسيقية واضحة في بنيان القصيدة اللحني، وفي جُمَل العود السريعة التي احتوتها المقدمة الموسيقية للقصيدة.
جاء لحن «ليت للبراق عينًا» متماشيًا مع حالة المناجاة الذاتية في القصيدة، فاختار القصبجي مقام «الراست»، وبدأ الغناء بآهات جميلة وبمساحة تعبيرية واضحة، استندت إلى أداء معجز من أسمهان.
في المشهد الأول من القصيدة، يعبر اللحن في تصاعده عن روح الشكوى التي تحيط بالكلمات، فتغني أسمهان واصفة ما جرى لها: «غللوني.. قيدوني»، في تصاعد لحني واضح وامتداد نغمي للتعبير عن طول المدة التي قضتها في الأسر، بينما عندما تُعاد جملة: «غللوني.. قيدوني»، تتحول لهجة الموسيقى، وتخاطب آسريها بلحن سريع يعبر عن استهزاء، ليصل اللحن إلي مقطع الذروة عند جملة: «وافعلوا كل ما شئتم»، في تصاعد لحني وترابط متكامل.
عمَّقت تجربة «ليت للبراق عينًا» العلاقة الفنية بين صوت أسمهان والقصبجي، الذي أعطاها بعد ذلك طائفة أخرى من أجمل أغانيها، تراوحت بين القصيدة المعقدة نغميًّا، مثل قصيدة بشارة الخوري «اسقنيها» عام 1940، وقصيدة أحمد شوقي «هل تيم البان فؤاد الحمام» 1942، والأغنيات الزجلية الخفيفة التي أكسبت أسمهان شهرة كاسحة، مثل طقطوقة «فرَّق ما بينا ليه الزمان» التي هي امتزاج ناجح للقديم بالجديد، برز فيه اعتماد القصبجي على المفردات الواضحة والتوالي اللحني الممتع، وأغنية «أنا اللي أستاهل» و«إمتى حتعرف» 1944، والأخيرتان من فيلم «غرام وانتقام» الذي غرقت أسمهان دون أن تكمل مشاهده الأخيرة.
كان دور القصبجي مهمًّا وحاسمًا في مسيرة أسمهان الغنائية. فقد استثمر إمكاناتها الصوتية في توسيع دائرة تجاربه الموسيقية، بحثًا عن سبل تطوير الأداء العربي، وتحقيق الامتزاج الأمثل بين نمط الغناء الأوبرالي وطبيعية الغناء الطربي، ما فتح باب التطوير أمام الملحن مدحت عاصم الذي شغل لفترة منصب «مدير الشؤون الموسيقية في الإذاعة المصرية» بعدما لفت نظره طبيعة صوت أسمهان وقدرتها على دمج عناصر التطريب بالحداثة الغنائية.
رفع مونولوغ «دخلت مرة في جنينة» أسمهان، ليكرسها على قمةٍ منافِسة للسيدة أم كلثوم.
حاول عاصم استخدام صوتها كما استخدم صوت أخيها فريد الأطرش، ولحَّن له أغنيتين لم ينالا حظًّا من الشهرة، على إيقاع «التانغو»: هما «من يوم ما حبك فؤادي» و«كرهت حبك» في تلك المرحلة نفسها.
قدم عاصم إلى أسمهان لحن «يا حبيبي تعالى الحقني»، وهو تركي مُعرَّب، سبق وغنته الممثلة اللبنانية ماري كويني في فيلم «زوجة بالنيابة» عام 1936. رغم سرعة اللحن وإيقاعه الراقص، فإن أداء أسمهان كان مليئًا بالحزن، ولم يناسبها اللحن، وهو ما تداركه عاصم بعد ذلك حين فهم طبيعة صوت أسمهان، وقدرتها على أداء المقامات الغربية بقفزاتها الكبرى دون جهد غنائي، فأعطاها مونولوغ «دخلت مرة في جنينة» من كلمات عبد العزيز سلام، وهو من أهم نماذج التطور في مسيرة أسمهان، بدايةً من اختيار مقام «النهاوند» لتصوير حزن الأغنية، مرورًا باستخدام أسمهان مدى صوتها المنخفض، وطبيعة أداء البيانو، حتى نهايات الأغنية حين يضفي استخدام الطبقات العليا من البيانو تسبيحًا بالغ الإثارة على بنيان اللحن.
لذلك يمكن اعتبار مونولوغ «دخلت مرة في جنينة» انطلاقة جديدة للأغنية العربية إيقاعًا ولحنًا. فقد استطاع هذا المونولوغ أن يرفع أسمهان لأول مرة، ليكرسها على قمةٍ منافِسة للسيدة أم كلثوم. نفدت الأسطوانة من السوق في سرعة غير معهودة، الأمر الذي جعل القصبجي يحاول تكرار التجربة ذاتها مع أسمهان في أغنية «يا طيور»، لكن في لحن أكثر عمقًا وتعقيدًا في البناء الموسيقي.
شكلت التجربة الغنائية بين السنباطي وأسمهان نقطة جديدة في التقاء الحداثة بالأصالة الموسيقية في مسيرة أسمهان. فحداثة السنباطي تكمن في لغته الموسيقية، لا في المدرسة التي ينتمي إليها، وفي قدرته على تطوير تقنياته وأساليبه الموسيقية، وفي إيحاءاته النغمية وقدرتها على الربط بين الدلالة اللفظية والصورة الموسيقية.
في عام 1941، بدأ تعامل أسمهان مع السنباطي بقصيدة الشاعر أحمد فتحي «حديث عينين»، التي سبق أن رفضتها أم كلثوم بسبب نمطها المتطور. جاءت القصيدة في نسخة إذاعية مطولة، من مقام «الجهاركاه» ذي الجذور التركية. ولا يمكن استبعاد أن السنباطي وقع في تحدٍّ مع نفسه أولًا، ومع أم كلثوم ثانيًا، عندما أسس مقدمة القصيدة الطويلة نسبيًّا بصورة أوركسترالية يليها عزف منفرد على العود يؤديه السنباطي بنفسه، فكانت المقدمة مهمة في هذه الفترة التي كان التأليف الموسيقي في طور التشكيل.
منذ بدايتها، حملت القصيدة دلالات موسيقية متطورة. ففي البيت الأول تتقاطع الموسيقى بين كلمات البيت الواحد مكونة بناءً غنائيًّا قائمًا على الحوار اللحني بين الصوت الغنائي والآلات الموسيقية، ثم يتكرر البيت بلحن مختلف ولوازم موسيقية متقاطعة أيضًا مع الكلمات، وهو ما لم يكن مألوفًا قبل ذلك في غناء القصائد.
أسمهان أكثر مطربة تعلمت من أساليب عبد الوهاب في تجديد فنون الغناء العربي، لكنها لم تغنِّ من ألحانه سوى مرتين.
نجحت القصيدة رغم أنها طويلة ومعقدة، ولم تعتمد على التطريب وحده، بل على التعبيرية أيضًا. ونجحت أسمهان في أدائها، ما شجع السنباطي على أن يكرر تجربة الغناء الشعري مع أسمهان، فقدم لها في فيلم «غرام وانتقام» قصيدتين من كلمات أحمد رامي: «نشيد الأسرة العلوية» الذي حظرته ثورة يوليو بعد عام 1952، وقصيدة «أيها النائم»، التي جاءت على لحن مرسَل لجميع أبيات القصيدة، مجسِّدة محاولة السنباطي دمج التقليدية الغنائية بالتعبيرية الحديثة غير الملتزمة بإيقاع محدد.
على الرغم من أن أسمهان أكثر مطربة تعلمت من أساليب محمد عبد الوهاب في تجديدها فنون الغناء العربي وأصوله، فإنها لم تغن من ألحانه سوى أغنيتين ظهرتا في فيلم «يوم سعيد» عام 1940: «محلاها عيشة الفلاح» التي أعاد عبد الوهاب غناءها بصوته لاحقًا، و«أوبريت قيس وليلى» الذي يراه النقاد العرب ذروة الفن الموسيقي والغناء العربي دون منازع.
اقرأ أيضًا: «تاني والنبي يا ست ده أنا جايلك من طنطا»: عن تفاعلنا مع الموسيقى
في تلك الحقبة من حياة أسمهان الغنائية، ضاعت بعض التسجيلات الخاصة بها. من هذه الأعمال المفقودة، ثلاثة ألحان لزكريا أحمد: قصيدة «غير مُجدٍ في أُمَّتي» من شعر أبي العلاء المعري، و«هديتك قلبي» من كلمات أحمد رامي، و«عذابي في هواك أرضاه» من كلمات أحمد رشدي، ولحنان للسنباطي: «قرطبة الغراء» من شعر ابن زيدون، و«الدنيا في إيدي» من كلمات سعيد عبده، والتي حفظتها المطربة أحلام والمطربة عصمت عبد العليم حين أعادتا غناءها في مطلع الخمسينيات.
رغم ثراء الأشكال والقوالب الموسيقية في تجربة أسمهان الفنية، وتعدد بصمات الملحنين في سنواتها السبع الأخيرة، يظل تعاملها مع أخيها فريد الأطرش نقطة أخرى في حياتها ومرحلة مهمة في فهم خصوصية صوتها، الذي انطلق مع فريد إلى أفاق جديدة وبعيدة عن أي تجارب غنائية أخرى في حياتها القصيرة، لكن لهذا حديث آخر.
كريم جمال