أسرة ومراهقون وحيوان أليف: الخلطة غير السحرية لكارتون الكبار
يُخبرني صديقي بأن ابنه ذا الأعوام السبعة غاضب منه، لأنه يرفض أحيانًا أن يدعه يشاهد معه مسلسلات الكارتون. يراني أتأهب لتوبيخه والتشكيك في أبوته، بل وفي إنسانيته ذاتها، فيسارع بإضافة أن الكارتون المقصود هو «Family Guy».
حسنٌ، فهمت.
للكارتون تاريخ طويل، والموجَّه منه إلى الكبار يعود إلى عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، فثَمة أفلام كارتون قصيرة لـ«ديزني» في تلك الحقبة تعرَّضت لموضوعات مثل الحرب العالمية الأولى وإدمان المخدِّرات وحظر الكحول في الولايات المتحدة، بالإضافة إلى أفلام ضمَّت عناصر جنسية، وإن لم يكن بشكل صريح. من الصعب للغاية العثور على تلك الأعمال الآن، وإن كان يمكن الاطلاع على تاريخها بالتفصيل في كتاب «Forbidden Animation» لـ«كارل كووِن»، الذي يحكي عن أفلام كارتون قصيرة كثيرة تعرَّضت وصانعوها إلى الرقابة والمنع.
من البداية إذًا لم يكن الكارتون مقتصرًا على الصغار فقط. خلال نهاية العشرينيات وبداية الثلاثينيات، قدمت سلسلة الأفلام القصيرة «Talkartoons» شخصية «بتي بوب»، التي كانت تعدُّ أيقونة جنسية في ذلك الحين، بملامحها اللعوب وثوبها القصير للغاية، وهي الشخصية التي كانت من أسباب إصدار «قانون هايز»، الذي بدأ فرض الرقابة على السينما في أمريكا.
القانون نفسه أدى إلى تبديل لون الطائر «تويتي» من الوردي إلى الأصفر كي لا يبدو كشخص عارٍ، وحذف فقرة من أحد أفلام «Mighty Mouse» لأن البطل بدا كأنه يشم كوكايين لا زهورًا، وجعل «Fritz the Cat» أول فيلم كارتون أمريكي يوضع تحت التصنيف X، لما احتوى عليه من عناصر جنسية قوية.
لكن بعيدًا عن تلك الأعمال، فإن تعريف «كارتون الكبار» في المسلسلات المعاصرة يمتُّ بصلة أكبر إلى الحبكات والمواقف التي تتعرَّض لها الأحداث وتكون أكبر من استيعاب الصغار، علاوةً على استخدام لغة أكثر تحرُّرًا في الحوار، وإلقاء نكات يفهمها المراهقون والكبار فيما لا يستوعبها الأطفال.
عادةً تُعرض مسلسلات كارتون الكبار مساءً في الوقت الذي يجلسون فيه لمشاهدة التلفزيون. لذا، حين تُستخدم كلمة «للكبار» في هذا السياق، فإنها ليست مرادفًا لـ«إباحي» أو «بورنوغرافي»، بل تعني الأعمال الموجهة كغيرها إلى الكبار فقط، مع فرق أنها في صورة كارتون.
قد يعجبك أيضًا: تاريخ تصنيف الأفلام عمريًّا
أرسَى «فلينستونز» و«جيتسونز» قالبًا حاكته الأعمال التي ظهرت لاحقًا: أسرة مكونة من أب وأم وأطفال، بالإضافة إلى حيوان أليف يتمتع بذكاء بشري.
على اختلافها، يشترك عدد كبير من مسلسلات كارتون الكبار في التركيز على الحياة الأسرية.
كانت البداية مع «The Flintstones» (عائلة فلينستون)، الذي بدأ عرضه في عام 1960. ومع أنه لم يكن موجَّهًا إلى فئة عمرية بعينها، فإنه أول كارتون يُعرض في فترة المساء والسهرة على التلفزيون الأمريكي. دارت الأحداث حول أسرة تعيش في حقبة ما قبل التاريخ، لكن حياتها تحاكي المجتمع الأمريكي في الستينيات. ويعدُّ الآن من الكلاسيكيات، وكذا خليفته «The Jetsons» (عائلة جيتسون)، الذي كانت بطلته أسرة أيضًا لكن في الفضاء، بما في الاثنين من مزيج من القصص والدعابات وجد صدى إيجابيًّا عند جميع الأعمار.
الأب «فريد فلينستون» صاحب العبارة الشهيرة «يابا دابا دو» هو رب أسرة محدود الذكاء سريع الغضب (غالبًا بسبب أمور تافهة)، لكنه محب جدًّا لزوجته وابنته. والأم «ويلما» أذكى وأعقل من زوجها، وإن كانت تعاني مشكلة الإسراف في الإنفاق. «بَبِلز» هي ابنتهما الرضيعة التي تولد في نهاية الموسم الثالث، و«داينو» ديناصورهم الأليف الذي يتصرف كالكلاب، فكلما عاد فريد إلى المنزل يثب عليه ويُسقطه أرضًا ويلعق وجهه.
كلا المسلسلين أرسَى قالبًا حاكته الأعمال التي ظهرت في العقود التالية، قالب الأسرة المكونة من أب وأم وعدد من الأطفال يتراوح بين واحد وثلاثة، بالإضافة إلى حيوان أليف هو جزء من الأسرة أيضًا ويتمتع بذكاء بشري.
نجاح المسلسلين أثبت قدرة كارتون الكبار على منافسة البرامج الأخرى في فترة المساء والسهرة، وهو ما فتح الباب أمام الأعمال التي تتصدر الشاشات اليوم.
صعب جدًّا الكلام عن مسلسلات كارتون الكبار دون ذِكر «The Simpsons» (عائلة سيمبسون)، الذي بدأ كسلسلة من الأفلام القصيرة عُرضت في برنامج «The Tracey Ullman Show»، قبل أن يتحول إلى المسلسل الكوميدي الأنجح والأطول عرضًا والأكثر فوزًا بالجوائز في تاريخ التلفزيون، وما زال مستمرًّا إلى الآن.
بيتر غريفين هو هومر سيمبسون، رب الأسرة الأبله عديم المسؤولية، بينما لويس هي مارج، الزوجة الصبور الأكثر ذكاءً وتحملًا للمسؤولية.
في بداية عرضه كان المسلسل مخاطرة من شبكة «Fox»، لكنه سرعان ما حقق نجاحًا مدويًا على المستويين النقدي والجماهيري، لنقده المجتمع الأمريكي ومؤسسات الدولة، وتعرضه إلى الفساد في المنظومات التعليمية والدينية والسياسية بشكل ساخر.
هل يعدُّ «The Simpsons» للكبار فقط إذًا؟ من نواحٍ عدة، الإجابة نعم، ففيه مئات من الدعابات والإحالات التي لن يستوعبها الأطفال على الإطلاق، بالإضافة إلى اللغة والمواقف التي لا تصلح لأن يشاهدها الصغار.
طيلة فترة عرضه، علَّق المسلسل على كل شيء يحدث في المجتمع الأمريكي تقريبًا، لكنه في الأساس مسلسل عن الأسرة الأمريكية. وعلى الرغم من أن أبطاله أكثر أسرة تلفزيونية محبوبة على الإطلاق، فإنها بعيدة كل البعد عن التصور المثالي للأسرة، وهذا في حد ذاته تعليق على المسلسلات الجادة التي تقدم الأسرة الأمريكية بصورة تقليدية. صحيح أنه يجنح كثيرًا إلى توكيد قيم وأسلوب حياة الطبقة الوسطى الأمريكية، لكن حبكة كل حلقة تتخذ عدة منحنيات قبل الوصول إلى هذه النتيجة.
في إحدى الحلقات، يستقيل «هومر سيمبسون» من وظيفته في محطة الطاقة النووية ليحقق حلمه بالعمل في نادٍ للبولينغ، وهو العمل الذي يجد فيه قدرًا وافرًا من الرضا والسعادة، لكن سرعان ما تُنجب زوجته «مارج» طفلتهما الثالثة «ماغي»، فتضطرُّ التكاليف الإضافية هومر إلى العودة لوظيفته الأولى التي تسبِّب له التعاسة. وفي حلقة أخرى، يلتحق هومر بسيرك متجول ويشتهر ويحقق نجاحًا كبيرًا، بل ويلقى احترام ابنه «بارت» أيضًا، وفي النهاية يعود إلى الوظيفة القديمة نفسها، قائلًا إن الأسرة أهم من الشهرة، وهذا على الرغم من التفكك الواضح في أواصر هذه الأسرة. قِس على هذا حلقات كثيرة تصل إلى النهاية نفسها بمختلف الطرق.
استمرَّ نمط الأسرة الأمريكية المفككة على الشاشة مع بدء عرض «Family Guy» عام 1998.
«بيتر غريفين»، مثله مثل هومر، مثله مثل فريد فلينستون، هو رب الأسرة الأبله الذي لا يتحمل المسؤولية، وكثيرًا ما يقع بسبب حماقاته ويوقع أسرته معه في مختلف المشكلات. و«لويس غريفين» هي مارج، هي ويلما فلينستون، الزوجة الصبور الأكثر ذكاءً وتحملًا للمسؤولية من زوجها. وبين الأب والأم نجد الأطفال و«الكلب» بمختلف شخصياتهم ومغامراتهم في كل حلقة.
غالبًا ما تبدأ الحلقة بمصيبة يرتكبها الزوج هومر، وفي النهاية يعتذر وتقبل الزوجة مارج اعتذاره، ثم تبدأ الدائرة من جديد في الحلقة التالية. بالطبع يُسهم كون المسلسل كارتونًا في تقبُّل المشاهد للمواقف الجنونية الجارية على الشاشة، أكثر مما لو كان يرى ممثلين حقيقيين أمامه، وهذا أحد أسباب النجاح المستمر لكارتون الكبار، علاوةً على المساحة الأكثر رحابة لتقديم الأفكار المختلفة، والتكلفة الأقل للإنتاج.
ستجد تشابهًا بين ليسا وبارت في سيمبسونز، ومِغ وكريس في فاميلي غاي، وهايلي وستيف في أميركان داد، وسمر ومورتي في ريك آند مورتي.
يمكنك أيضًا أن تجد استمرارًا لهذا النمط الأسري في المسلسلات الأحدث. ففي «Rick and Morty» مثلًا، يتكرر قالب الأم الذكية قوية الشخصية في «بث»، والأب الأحمق الفاشل في «جيري». الفارق أن في هذا المسلسل تتطور الشخصيات إلى حدٍّ ما بمرور الوقت، ويُضاف المزيد من العمق إليها، وهو ما يتضح إذا قارنت بين ما كانت عليه في الحلقات الأولى وما صارت إليه الآن.
يرجع هذا إلى طبيعة المسلسل نفسه، واختلافه عن غيره في أن ما يحدث في كل حلقة يؤثر على ما يأتي بعده في الحلقات التالية. أما أغلب مسلسلات الكارتون الأخرى، فكل شيء يعود إلى ما كان عليه مع نهاية دقائق العرض العشرين، وهو ما يدركه صناع تلك المسلسلات أنفسهم ويعلقون عليه أكثر من مرة في الأحداث نفسها، كما في افتتاحية الموسم الـ16 من «Family Guy» على سبيل المثال.
بدأ «Family Guy» أيضًا بالتركيز على الأسرة الأمريكية في الطبقة الوسطى، وكانت غالبية القصص في المواسم الأولى تدور حول العلاقة بين بيتر ولويس وأطفالهما والكلب برايان. ومثل «The Simpsons»، تعرَّض لشتى أنواع القضايا وسخر من كل شيء، لكن منذ ابتعاد المسلسل عن طابعه الأسري القديم فقد بعضًا من جاذبيته، حتى إن أكثر الحلقات التي علقت مع المشاهد في السنوات الأخيرة لم تكن لها علاقة بالأسرة على الإطلاق، وإنما المغامرات التي يخوضها ستيوي وبرايان، وتحمل طابع الخيال العلمي والمغامرة.
القالب نفسه موجود في مسلسل آخر لـ«سِث مكفارلين» صانع «Family Guy»، هو «American Dad»، لدرجة أن المواقف التي تتعرض لها أسرتا «غريفين» و«ستان سميث» تتشابه كثيرًا وأحيانًا تتطابق، مع فرق أن الحيوان الأليف في أسرة سميث كائن فضائي هارب من المخابرات الأمريكية.
لدرجةٍ ما، ثَمة تكرار في شخصيات الأولاد أيضًا، فغالبًا ما يكونون في سن المراهقة، لِما تحتوي عليه هذه المرحلة من مادة ثرية للحكايات، بخلاف التربة الخصبة للمواقف الكوميدية.
لذا ستجد تشابهًا بين ليسا وبارت في «The Simpsons»، مع مِغ وكريس في «Family Guy»، وهايلي وستيف في «American Dad»، وسمر ومورتي في «Rick and Morty». بين تلك الشخصيات فروق بالطبع، لكنها ليست كبيرة لدرجة أن نقول إنها لا تنتمي إلى قالب واحد. ربما أكون متحيزًا هنا، لكن للأسباب سالفة الذكر فالمسلسل الوحيد الذي تشهد شخصياته المراهِقة تطورًا هو «Rick and Morty». وللإنصاف يمكن إضافة ستيوي غريفين أيضًا، الذي بدأت قصته كطفل شرير يرغب في السيطرة على العالم وقتل أمِّه، لكن هذا الخط الدرامي غاب عن المسلسل منذ زمن طويل، ولم تعد تلك هي الصفة الوحيدة التي تميز ستيوي عن بقية أسرته.
يختلف «ساوث بارك» عن النمط الأسري، فهناك السادي واليهودي والحساس، وكلهم أطفال.
كانت التسعينيات حقبة ذهبية، بدأ فيها عرض عدد كبير من مسلسلات كارتون الكبار، ومنها ما هو مستمر حتى الآن. وليس كلها معنيًّا بالأسرة الأمريكية تحديدًا، من حيث الشخصيات الأساسية على الأقل، بل تشعبت الموضوعات التي تنقد أمريكا وتنتقدها، من ناحية ثقافة الاستهلاك، والحروب غير الضرورية، والإرهاب، وتفضيل البيض على السود، وغيرها من القضايا.
من أبرز هذه المسلسلات «King of the Hill»، الذي يقدم محاكاة ساخرة للحياة في ولاية تكساس، و«Beavis and Butt-Head»، الذي يدور حول صديقيْن مراهقيْن يقترفان أفعالًا حمقاء طوال الوقت لمجرد إحساسهما بالملل.
ظهر في التسعينيات أيضًا مسلسل «South Park»، الشهير بموضوعاته المثيرة للجدل، الذي تسبب في بداية عرضه في صدمة لكثير من المشاهدين، الذين تعاملوا معه كمجرد كارتون آخر للأطفال، وهو ما دفع قناة «Comedy Central» إلى وضع تنبيه في بداية كل حلقة إلى احتواء المسلسل على ألفاظ بذيئة وعدم مناسبته للأطفال.
الاختلاف في «South Park» عن النمط الأسري المعتاد يكمن في الشخصيات الأساسية، فهناك العنصري السادي المزعج، واليهودي المتدين الذي يعاني السخرية، والهادئ الحساس الواقع في حب فتاة جذابة من طرف واحد، وكلهم أطفال.
ما يجعل «South Park» أكثر تفوقًا على غيره في المحاكاة الساخرة للأحداث الجارية سرعة إنتاج حلقاته، فبينما يستغرق الفروغ من الحلقة الواحدة من «The Simpsons» أو «Family Guy» عامًا كاملًا (يتعامل المنتجون على الحلقات كخط إنتاج، فيعملون على عدة حلقات في نفس الوقت)، يستغرق إنتاج حلقة «South Park» فترة أقل من هذا كثيرًا، مثل الحلقة التي سارعوا بعرضها بعد أحداث 11 سبتمبر بأقل من شهرين، وسخروا فيها بشدة من أسامة بن لادن وكذا فعلوا مع تبعات «الحرب على الإرهاب» والقبض على صدام حسين وانتخاب أوباما وترامب.
العامل المشترك بين جميع هذه المسلسلات هو الكوميديا. لاحظ أنه في البداية لم تكن شبكات التلفزيون واثقة في قدرة كارتون الكبار على الاستمرار إلا لو كان كوميديًّا بالأساس. ومع أن الكوميديا لا تزال جزءًا من تركيب الحمض النووي لهذه المسلسلات، فبعد فترة ظهرت أعمال أخرى تحتوي على قدر لا بأس به من الدراما أيضًا، وتطرح أسئلة وجودية وفلسفية مهمة، وتناقش موضوعات أكبر من الأحداث الجارية أو المحاكاة الساخرة لأشهر أعمال هوليوود.
على شبكة «Adult Swim» تحديدًا تشكيلة كبيرة من هذه الأعمال المختلفة والأكثر نضجًا، مثل «Aqua Teen Hunger Force»، و«Robot Chicken» (ولو أنه لا ينتمي إلى فئة الكارتون، وإنما إلى التحريك بأسلوب «ستوب موشن»)، وبالطبع «Rick and Morty» الذي أصبح الظاهرة الأبرز والأحب في الكارتون، خصوصًا مع ميل المسلسلات سالفة الذكر إلى التكرار وإعادة تدوير حبكاتها القديمة. لا يمكن بالطبع إغفال النجاح الكبير لـ«BoJack Horseman» على «نتفليكس» و«Archer» على «FX»، وكلها أعمال لا تصلح بكل تأكيد للأطفال.
في «Rick and Morty» و«BoJack Horseman» تحديدًا، يحتاج الكبار أنفسهم إلى أكثر من مشاهدة لإدراك واستيعاب الأفكار والتيمات المركبة التي يقدِّمها هذان المسلسلان، والتي تطرح أسئلة حول الغاية من الوجود أصلًا.
بشكل عام، ليس من الضروري أن يعني كون العمل كارتونًا أنه للأطفال فحسب. الكارتون وسيط مؤثر ومحبوب لحكاية قصص للكبار فقط، وله شعبية كبيرة حتى خارج المجتمع الأمريكي، سواء أكان معروضًا على شبكة كبيرة أم قناة صغيرة.
هشام فهمي