تنبأ الاقتصادي البريطاني «جون ماينارد كينز» في عام 1930 بأن نمو الاقتصاد في الألفية الثانية سيجعل العمال في غنى عن العمل لساعات طويلة.
بدا الأمر كما لو كان كينز محقًّا في افتراضه، ففي عام 1930 كان متوسط عدد ساعات العمل الأسبوعية في الولايات المتحدة الأمريكية 47 ساعة، وبحلول عام 1970 انخفض ذلك العدد إلى نحو 39 ساعة، ثم حدث أمر ما، فبدلًا من أن تستمر ساعات العمل في الهبوط، ظل متوسط ساعات العمل الأسبوعية ثابتًا عند 40 ساعة لما يقرب من خمسة عقود.
ما الذي حدث كي تظل ساعات العمل اليومية مثل ما كانت عليه عام 1970؟ هذا هو التساؤل الذي يسعى مقال منشور على موقع «ذي أتلانتيك» إلى الإجابة عنه.
ثلاثة احتمالات: لماذا زاد الإنتاج ولم تطُل أوقات الفراغ؟
ربما كان عدم تحقق ما تكهَّن به كينز مفهومًا لو أن تقديراته بخصوص زيادة إنتاجية الاقتصاد كانت خاطئة، فقد رأى أن نمو الاقتصاد سيرفع مستوى المعيشة بين أربعة إلى ثمانية أضعاف ما كانت عليه في عصره، وكان محقًّا، إذ رفعت التكنولوجيا إنتاجية الاقتصاد بدرجة كبيرة فعلًا بحسب المقال.
بحسب عالم الاقتصاد «بنجامين فريدمان»، فإن الاقتصاد الأمريكي في طريقه للوصول إلى ثمانية أضعاف حجمه بحلول عام 2029، أي بعد مرور مئة عام على البيانات التي استخدمها كينز في حساباته.
يشير المقال إلى محاولة فريدمان في ورقة بحثية جديدة أن يصل إلى الأسباب التي لم تجعل زيادة الإنتاجية تخلق أوقات فراغ أطول، وربما يكون السبب هو الطمع في كسب مزيد من المال لاقتناء أشياء جديدة، والفشل في وصول الناس إلى حالة من الرضا عن وضعهم المالي مهما تحسن، لكن هذه الحجة واهية في رأيه، فإذا كان الأمر كذلك، لِمَ تقلصت ساعات العمل أول الأمر؟
يختبر فريدمان فرضية جديدة يرى فيها أننا صرنا في عصر تتضاءل فيه فرص إقامة علاقات اجتماعية، ممَّا يجعل الأشخاص يعوِّلون على تواصلهم الإنساني مع زملائهم في أماكن العمل، لكنه يعود ويشكك في هذه الاحتمالية التي لا تعززها أدلة متسقة من وجهة نظره، إضافةً إلى أن تأثير تلك الفرضية على عدد ساعات العمل الأسبوعية في فترة السبعينيات ليس متحققًا على الإطلاق، حسب المقال.
قد يهمك أيضًا: التجهم في وجه زملاء العمل قد يفيد صحتنا النفسية
تبدو الاحتمالية الثالثة أكثر إقناعًا من وجهة نظر فريدمان، الذي يقول إن انعدام المساواة في المجتمع الأمريكي يعني أن المكاسب المتحصلة من زيادة الإنتاجية لا تتوزع بصورة عادلة على الجميع، أو بقول آخر: ما زال معظم الأمريكيين فقراء إلى الحد الذي لا يجعلهم قادرين على تخفيض ساعات عملهم.
على عكس التفسيرين السابقين، يرى فريدمان أن هذا التفسير يعززه التطور الزمني لظاهرة انعدام المساواة، فقد تضاءلت مظاهر انعدام المساواة في الولايات المتحدة بعد حرب فيتنام، ومعها انخفضت ساعات العمل، بينما عادت معدلاتها للارتفاع بصورة كبيرة في أوائل السبعينيات، وفق المقال.
العامل الأمريكي المتوسط لم يجنِ ثمار الإنتاجية
كان توقع كينز قائمًا على افتراض أن مستوى المعيشة سيظل يرتفع للجميع، ولكن فريدمان يرى أن هذا لم يحدث، فرغم أن إنتاجية الاقتصاد ككل تضاعفت ثماني مرات، فإن هذا لم يستفد منه العامل الأمريكي المتوسط، إذ بالنسبة لهؤلاء العمال ستكون الإنتاجية فقط نحو 3.5 ضعف ما كانت عليه في عصر كينز بحلول عام 2029، أي أقل قليلًا من حدود الأربعة إلى ثمانية أضعاف التي تنبأ بها كينز.
القلق الأساسي للعمال هو اضطرارهم إلى العمل لساعات أقل، مدفوعين بالاحتياج إلى المال.
يشرح فريدمان بالأرقام أنه بين عامي 1947 و1973 تضاعف متوسط الأجر عن ساعة العمل في مجال الصناعات الخاصة (عدا الزراعة) من 12,27 دولار إلى 21,23 دولار، لكن بحلول عام 2013 كان متوسط الأجر عن ساعة العمل 20,13 دولار، أي أنه انخفض 5% عن مستواه في عام 1973.
يمكن القول إذًا إن زيادة الإنتاجية لم يعد لها مفعول السحر منذ عام 1973، فقد كان على العمال الاستمرار في العمل نفس عدد الساعات للحفاظ على مستوى المعيشة ذاته.
قد يعجبك أيضًا: هل ينبغي أن يكون العمل الغاية الأساسية من حياتنا؟
نصف نبوءة: الواقع أسوأ من توقعات كينز
سيظل انعدام المساواه في المجتمع وسوء توزيع الثمار الاقتصادية يطحن الفئات الأفقر مهما نما الاقتصاد.
ما تصوره كينز للمستقبل بحسب المقال هو الشكل الأكثر تفاؤلًا لما يسميه الاقتصاديون «البطالة التكنولوجية»، وهي الاعتقاد بأن استخدام الآلات سوف يطيح بكثير من العمال، وكان تقدير كينز أن تلك البطالة ستتوزع بالتساوي النسبي بين أفراد المجتمع، حتى يتمتع الجميع بأوقات فراغ أطول.
لكن فريدمان يرى أن الواقع يعطينا صورة أسوأ للبطالة التكنولوجية، فما يعانيه المجتمع ليس البطالة كما نعرفها، بل وجود سوق عمالة يائسة يبحث فيها ملايين الأشخاص عن أي فرصة مهما كانت قليلة الأجر، وهذا ما يؤكده استطلاع للرأي وجد أن القلق الأساسي لنصف العمال الذين يتقاضون أجرهم بالساعة ليس ساعات العمل الطويلة، ولكن اضطرارهم إلى العمل لساعات أقل ممَّا يرغبون، وليست هذه الرغبة في العمل مدفوعةً بالحب، بل بالاحتياج إلى المال.
اقرأ أيضًا: مستقبل البطالة: كيف سنجد معنًى لحياتنا في عالم دون عمل؟
لماذا يعمل الأثرياء ساعات طويلة؟
نبقى أمام سؤال مهم: إذا كان الأثرياء، أو العمال الذين جَنَوا مكاسب فوق المتوسطة من تلك الرفاهة الاقتصادية يستطيعون أن يعملوا أوقاتًا أقصر، فلماذا لا يفعلون ذلك؟
يرجع السبب في رأي فريدمان إلى حبهم للعمل، فهؤلاء يشتغلون في مهن تعني لهم شيئًا، ولا يعتبرون ساعات العمل الأطول عبئًا، بل ربما متعة، ويشكل عملهم جزءًا مهمًّا من كيانهم، وهم بالطبع يتقاضون أجورًا مجزية تجعل تلك المهام تستحق ما يستهلكونه من وقت فيها.
تحققت الرفاهة التي تنبأ بها كينز، فقد نما الاقتصاد الأمريكي بصورة أضخم حتى من تصوره، لكن معظم المواطنين لم يستفيدوا من ذلك النمو وما زالوا يعملون ساعات طويلة، وربما يكون الأمر نفسه صحيحًا خارج الولايات المتحدة كذلك، فانعدام المساواة في المجتمع وسوء توزيع الثمار الاقتصادية سيظل يطحن الفئات الأفقر مهما نما الاقتصاد.