في الوقت الذي كانت فيه قوات النظام السوري تستعيد أجزاءً أكبر في مدينة حلب من أيدي مسلحي المعارضة وتنظيم الدولة الإسلامية «داعش» نهاية 2016، كان عدد من المسلحين يشنون هجومًا على مركز أمني للشرطة في الكرك جنوبي الأردن، أسفر عن سقوط عشرة قتلى بينهم سبعة من رجال الأمن وسائحة كندية.
لاحقًا، كشفت التحقيقات هُويَّات المتورطين في الحادثة، وتَبيَّن أن منهم مَن سافر إلى سوريا للقتال في صفوف داعش ثم عاد إلى الأردن، وآخرين حاولوا الانضمام إلى التنظيم فأُلقِي القبض عليهم ثم أُطلقَ سراحهم بعد مدة، وكان هذا قبل أن يعلن التنظيم مسؤوليته عن الحادثة.
تثير عودة مسلحي التنظيمات المعارضة في سوريا إلى بلادهم قلقًا لدى قطاع كبير من الدول العربية، إذ تبدو احتمالية تكرار أزمة الأفغان العرب في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين حاضرةً في الصورة، بخاصة مع بدء انحسار ظاهرة الدولة الإسلامية، مع استعادة القوات السورية والعراقية أجزاءً كبيرة من الأراضي التي سيطر عليها التنظيم منذ 2014.
ﻻ تسمحوا للـ«إرهابيين» بالعودة
حسب تقرير صدر عن الأمم المتحدة في أواخر عام 2016، فإن نحو 30% من المسلحين الأجانب في سوريا والعراق قد عادوا إلى بلادهم وصاروا يمثِّلون تهديدًا لأمنها القومي، كما أن «بعضهم مستعد لتنفيذ أعمال إرهابية، وهجمات باريس وبروكسل تدل على ذلك».
هذا التهديد هو ما دفع قرابة ألف تونسي إلى التظاهر مطلع عام 2017 رفضًا لعودة الجهاديين التونسيين من مناطق الصراعات والحروب. وقبل ذلك، في نهاية 2016، تَجمَّع مئات التونسيين أمام البرلمان للمطالبة بعدم السماح بعودة المسلحين الذين قاتلوا في صفوف جماعات إرهابية، حتى ولو أعلنوا توبتهم.
الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي سبق أن صرَّح بأنه يرفض العفو عن رعاياه الذين ذهبوا للقتال مع جماعات مسلحة في الخارج، لكنه في الوقت نفسه لا يستطيع أن يمنع عودتهم إلى تونس، غير أنه أكد في ما بعد أنه «لن يتساهل مع الإرهابيين».
وتؤكد لجنة الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب أن نحو 30 ألف «مقاتل إرهابي أجنبي» ينتشرون في العراق وسوريا، وتحذر من مخاطر إقدامهم على تنفيذ هجمات في بلدانهم الأصلية بشكل أوسع.
ويتشكل المقاتلون الأجانب في سوريا من جنسيات عدة، تشمل لبنان والعراق والأردن وفلسطين والكويت وتونس والجزائر ومصر والسعودية والسودان واليمن، إضافة إلى مسلمين من جنوب ووسط آسيا (أفغان وبنغال وباكستانيون) وغربيين (بلجيكيون وبريطانيون وفرنسيون وأمريكيون).
لماذا يغادرون «الدولة الإسلامية»؟
عشرات من عناصر وقيادات تنظيم داعش السوريين والعراقيين وعائلاتهم هربوا من الموصل في العراق إلى الرقة السورية، التي يسيطر عليها التنظيم، خلال عمليات تحرير المدينة العراقية نهاية 2016.
ومع تقدم القوات النظامية السورية على جبهات مختلفة في سوريا، كانت أُولاها استعادة حلب ثم الهجوم على الرقة، عاصمة «الخلافة الإسلامية»، يظل السؤال قائمًا حول مصير قيادات وعائلات التنظيم الذين سيسعون بلا شك للهرب من المدن التي تخرج عن سيطرتهم نحو مواقع أكثر أمنًا.
ويظلُّ مصير التنظيمات الأخرى غير المرتبطة بداعش غامضًا، مثل «جبهة النصرة» و«أحرار الشام» ولواء «فاستقم كما أُمرت»، الذين يتبنون الفكر الجهادي على حد سواء مع اختلافات صورية وتنظيمية، فأين ستكون المحطة التالية لهؤلاء؟ وهل يتكرر سيناريو الأفغان العرب؟
من هم الأفغان العرب؟
حسب دراسات نشْأت حامد عبد الماجد، أستاذ العلوم السياسية في جامعتي لندن والقاهرة، فقد بدأت ظاهرة الأفغان العرب عقب الانقلاب الشيوعي عام 1978، إذ تدخلت القوات السوفييتية لدعم الحكومة الجديدة في أفغانستان ضد الفصائل الإسلامية المتطرفة (المجاهدين)، التي قادت العمل المسلح ضد الحكومة الجديدة وقوات الاتحاد السوفييتي.
ساندت الولايات المتحدة مجموعات «المجاهدين» سياسيًّا وماديًّا، في إطار عملية استنزاف ضد الاتحاد السوفييتي، وأطلقت عليهم وسائل الإعلام الأمريكية لقب «المقاتلين من أجل الحرية».
بعض الحكومات العربية المقربة من الولايات المتحدة والتي تخشى «المد الشيوعي» وافقت على سفر كثير من المتطوعين من مواطنيها للمشاركة في تلك الحرب، وكانت أهم الدول التي قدمت دعمًا على المستويات السياسية واﻻقتصادية والعسكرية للـ«مجاهدين» الأفغان هي السعودية وباكستان ومصر والكويت.
قد يهمك أيضًا: كيف حاول الاتحاد السوفييتي التضييق على الإسلام فأخرج جيلًا من المتطرفين؟
بعد انتهاء الحرب الأفغانية، بحث الأفغان العرب عن ساحات قتال جديدة، فانتقل بعضهم إلى المناطق الإسلامية الساخنة في الاتحاد السوفييتي السابق، بخاصة طاجيكستان والشيشان وكشمير، ثم كانت البوسنة أبرز محطات وصولهم خلال الفترة من 1992 حتى 1995، إذ دخلتها مجموعات منهم تحت غطاء لجان الإغاثة التي يديرها مسلمون من أمريكا وأوروبا.
الدول العربية في مواجهة الدواعش
تعتقد فئة من الخبراء أن بعض هؤلاء «الدواعش العائدين» رجعوا بهدف شن هجمات إرهابية، وأن عددهم يتراوح بين 27 إلى 32 ألفًا ممَّن سافروا إلى سوريا والعراق للانضمام إلى تنظيم الدولة الإسلامية والجماعات المتطرفة الأخرى في المنطقة، حسب تقرير مجموعة «صوفان غروب» الأمريكية للدراسات والأمن اﻻستراتيجي.
ويشارك في صفوف التنظيمات المسلحة في سوريا عدد كبير من الجنسيات العربية، أكثرها من تونس ودول الخليج. ويشير عدد من الإحصاءات الغربية إلى أن السعوديين هم الأكثر عددًا في صفوف التنظيم، وكان من بين هؤلاء مَن تَوعَّد بلاده بأعمال إرهابية في مناسبات متعددة، هذا إن تغاضينا عن الأعمال الإرهابية التي نفذها مجندون تابعون لداعش في دول الخليج.
ويعمل عدد من الدول العربية على وضع استراتيجيات لمواجهة عودة المسلحين من بؤر الصراع، منها الجزائر وتونس، والأخيرة انضم من شبابها أكثر من 5500 شخص تتراوح أعمار معظمهم بين 18 و35 عامًا إلى تنظيمات جهادية في سوريا والعراق وليبيا، حسب تقرير نشره في 2015 «فريق عمل الأمم المتحدة حول استخدام المرتزقة».
وأقرت تونس خطة عمل شاملة لمحاربة التطرف تعتمد على أربعة محاور: الوقاية والحماية والملاحقات القضائية والاستجابة، أما الجزائر فوضعت خطة لمواجهة خطر عودة الدواعش لتنفيذ أعمال إرهابية، تتضمن تشديد الرقابة على الحدود، والتواصل مع أُسَرِ المقاتلين لإقناعهم بتسليم أنفسهم أو التأكد من مقتلهم، وفرض رقابة مشددة على شبكات التواصل الاجتماعي.
وتنتشر في السعودية مراكز المُناصحة، التي تهدف إلى رعاية وإعادة تأهيل الجهاديين عبر دورة من البرامج العلمية تتبنى 12 خطوة، تعمل على علاج مشكلة التطرف من جذورها وإعادة إدماج الجهاديين في المجتمع مرة أخرى.
لكن على الرغم من ذلك تتهم تقارير صحفية هذه المراكز بتجنيد الإرهابيين والجهاديين للمشاركة في النزاعات التي تتورط فيها المملكة في سوريا واليمن، وتؤكد، على لسان عدد من الجهاديين المحبوسين خارج المملكة الذين اختبروا التعامل مع هذه المراكز، أن أفرادًا من العائلة المالكة متورطون في تجنيد مقاتلين عبر مراكز التأهيل، وإرسالِهم للحرب في أماكن أخرى.
إدماج أم إبعاد: ماذا نفعل مع المقاتلين العائدين؟
من ضمن الأمثلة التي تتعامل مع أزمة المسلحين العائدين ما طرحه المدير التنفيذي للمديرية التنفيذية لِلَجنة مكافحة الإرهاب في مجلس الأمن، «جان بول لابورد»، الذي حثَّ الدول الأعضاء على استخدام نظام «API» الذي تطبقه حاليًّا 56 دولة، ويعمل على جمع البيانات التي تتعلق بالراكب قبل سفره.
وأكد منسق الاتحاد الأوروبي لمكافحة الإرهاب، جيل دي كيرشوف، في تصريحات سابقة، ضرورة معالجة عنصرين رئيسيَّين: لمِّ الشمل بين العائدين المعزولين وعائلاتهم وأصدقائهم ومجتمعهم، وإبطال الأفكار العقائديَّة المتطرفة التي غُرست في عقولهم، موضحًا أن أوروبا تحتاج إلى سياسة مشتركة بشأن العائدين، فالسياسات الحالية تتفاوت بين ما تنتهجه الدنمارك بالتركيز على إعادة الاندماج، وما تفعله بريطانيا بمنع عودة المقاتلين.
اقرأ أيضًا: كيف تستخدم الدنمارك علم النفس في مواجهة داعش؟
مع انحسار الوجود الميداني لتنظيم داعش، الذي باتت دولة خلافته على شفا الانهيار، يبقى التساؤل حول مصير «المجاهدين» أكثر إلحاحًا من أي وقت سابق، إذ ستواجه التدابير التي وضعتها الدول لمواجهة المقاتلين العائدين أكبرَ تحدياتها في الشهور المقبلة، فهل تكون على قدر التحمل، أم سينتج عن اختفاء داعش ميادين قتال جديدة تستقطب «المجاهدين»؟