في عام 1869، قرر أمريكي من أصول ألمانية ترك العمل بمجال صناعة الملابس والاتجاه إلى طريق مختلف تمامًا؛ المتاجرة في الديون.
كان «غولدمان ساكس» (Goldman Sachs) يسجل حساباته في بداية عمله على قصاصات صغيرة من الورق يضعها تحت قبعته، وبعد فترة قصيرة أنشأ أول مكتب في سرداب منزل على مسافة قصيرة من منطقة وول ستريت. وفي عام 1896، صارت الشركة مسجَّلة في سوق أسهم نيويورك باسمها الذي تُعرف به إلى اليوم: «غولدمان ساكس وشركاؤه».
واليوم نعثر على موظفي الشركة في كل مكانٍ تقريبًا: وزير المالية في حكومة بيل كلينتون كان من «غولدمان ساكس»، وكذلك وزير المالية في حكومة بوش الابن، وقدَّمت الشركة أكبر قدر من تبرعات القطاع الخاص في حملة باراك أوباما للرئاسة عام 2008، في حين تلقَّت هيلاري كلينتون انتقادًا عنيفًا من ترامب والرأي العام بسبب إلقائها ندوات سريَّة مدفوعة الأجر في «غولدمان ساكس».
منذ «روزفلت»، سعى كل رئيس أمريكي إلى استشارة مجلس الأعمال.
لكن المفارقة أن وزير المالية في حكومة ترامب من «غولدمان ساكس» كذلك، كما يلعب أحد موظفي الشركة السابقين دور كبير مستشاريه. وبالإضافة لهؤلاء، استقر الرئيس الأمريكي المثير للجدل على اختيار رئيس الشركة وقت دخوله البيت الأبيض لإدارة «المجلس الاقتصادي الوطني».
وتستكشف جريدة «واشنطن بوست» تاريخ الشركة وحضورها في سياسات المكتب البيضاوي، وهو حضور يبدو مستمرًا غير عابئ بأي تحول يلمس الإدارة الأمريكية أو المشهد السياسي عمومًا.
التاريخ: كيف دخل «غولدمان ساكس» البيت الأبيض؟
تبدأ قصة علاقة «غولدمان ساكس» بالسياسة الأمريكية منذ مطلع القرن العشرين.
كان «سيدني واينبرغ» (Sidney Weinberg) موظفًا متواضعًا في الشركة، لكنه ترقى بسرعة بسبب قدراته على التواصل وربط العلاقات. أصبح «واينبرغ» صديقًا شخصيًّا لحاكم نيويورك في ذلك الوقت؛ «فرانكلين روزفلت». بعد فترة قصيرة صار «روزفلت» رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية، واستعان بـ«واينبرغ» لإنشاء «مجلس استشارات الأعمال»؛ وهو قناة يستطيع رجال الأعمال التواصل من خلالها مع صُنَّاع القرار والتأثير عليهم وتوجيه سياساتهم.
بحكم عمله في «غولدمان ساكس»، أسهم «واينبرغ» بعد ذلك في تكثيف جهود القطاع الصناعي الخاص في الحرب العالمية الثانية والحرب الكورية، كما جمع التبرعات لحملة «أيزنهاور» (Dwight D. Eisenhower)، واختار بنفسه وزير المالية لحكومته، وهو ما يدلنا على حجم تأثير هذا الرجل منفردًا على السياسة الأمريكية.
لا يزال «مجلس استشارات الأعمال» قائمًا إلى اليوم على مسافة قصيرة من البيت الأبيض. ومع أن اسمه تغير بشكل طفيف ليصبح «مجلس الأعمال»، إلا أن حضوره السياسي لم يتغير تقريبًا، فقد دعا أوباما المجلس لاجتماع في البيت الأبيض خلال العام الأول من رئاسته، كما يلتقي المجلس مجددًا مع ترامب وصُنَّاع السياسة الحاليين في أول أعوامه داخل البيت الأبيض.
ويبدو أن أوباما قد لخَّص هذه العلاقة الوثيقة بين الرئاسة والمجلس بقوله لأعضائه في اجتماعهم معه: «أهلًا بكم في البيت الأبيض. لقد سعى كل رئيس منذ (فرانكلين روزفلت) إلى استشارة مجلس الأعمال، كما سعى كل رئيس منذ (ليندون جونسون Lyndon B. Johnson) إلى التواصل معكم. ومع كون هذه الشراكة مهمة في فترات السلام والرخاء النسبيين، فإنها تصبح حاسمة في فترات الأزمة الاقتصادية».
كان هذا عام 2009 بعد إنقاذ الحكومة الأمريكية «غولدمان ساكس» من تبعات الأزمة الاقتصادية في 2008، وهو ما يشير إلى الجذور التاريخية العميقة للعلاقة بين «غولدمان ساكس» و«مجلس الأعمال» والحكومة الأمريكية.
ويمكن تصوُّر الحجم الحالي للعلاقات فقط بمعرفة التشابكات الواسعة بين هذه المؤسسات.
فعلى سبيل المثال؛ من بين أعضاء «مجلس الأعمال» حاليًا نجد «لويد بلانكفاين» (Lloyd Blankfein)، المدير التنفيذي لـ«غولدمان ساكس»، و«ركس تيلرسون» (Rex Tillerson)، المدير التنفيذي لعملاق البترول «إكسون موبيل» (ExxonMobil) الذي أصبح مؤخرًا وزيرًا للخارجية في حكومة ترامب، بالإضافة إلى «جيفري بيزوس» (Jeffrey Bezos)، مؤسس موقع «أمازون» وكذلك، للمفارقة، مالك جريدة «واشنطن بوست» التي نشرت هذا المقال.
لكن المسألة لا تقتصر على هؤلاء فقط؛ بل إنها أبعد من ذلك.
الجغرافيا: «غولدمان ساكس» دخل بيتك على الأرجح
في أواخر 2015، غرَّد السيناتور «بيرني ساندرز» (Bernie Sanders) عبر «تويتر» قائلًا: «في العام المقبل، سيأتي أربعة من أصل 12 من رؤساء البنوك الاتحادية الفيدرالية من مؤسسة واحدة: (غولدمان ساكس)». والبنوك الاتحادية الفيدرالية هي البنك المركزي لأمريكا، وهو مقسَّم إلى 12 بنكًا بحسب الإقليم.
في الواقع، يمكن العثور على رجال «غولدمان ساكس» وأموالها في كل مكان تقريبًا. كانت الشركة تعمل في استيراد الذهب وتصديره عبر المحيط الأطلنطي عام 1900، ثم أسهمت في تحويل شركة «فورد» إلى القطاع العام في الخمسينات، ومؤخرًا، استثمرت في شركتي «سبوتيفاي» (Spotify) و«أوبر» (Uber). هذا ليس فقط حضورًا تاريخيًّا، إنه حضور واسع وطاغٍ في كل المجالات.
ومن بين الموظفين السابقين للشركة، لحظة كتابة تقرير «واشنطن بوست»، يمكن العثور على رئيس لبنك اتحادي فيدرالي، ومذيعة كبيرة بقناة (CNN)، وزوجة مرشح رئاسي جمهوري، ورئيس وزراء لدولة كاملة.
ويُعلِّق رئيس «غولدمان ساكس» السابق على ذلك بقوله إن موظفي الشركة موجودون في كل سوق كبير: «انظر إلى حجم رأس المال وحجم ميزانيتنا وعدد موظفينا، شيء هائل»، وجاء تعليقه هذا مباشرة بعد تركه منصبه من أجل تولي رئاسة «المجلس الاقتصادي الوطني» بتكليف من دونالد ترامب.
اقرأ أيضًا: كيف أدت سياسات صندوق النقد لتفاقم الأزمات اﻻقتصادية في العالم؟
شك وريبة دون نتائج
يجتذب حضور «غولدمان ساكس» المكثف في عالمي المال والسياسة نظرات شك مستمرة من الرأي العام، وتلقَّى هذا الحضور هجومًا واسعًا في الانتخابات الأمريكية الأخيرة من قبل «بيرني ساندرز» وترامب على السواء، رغم أن الأخير لجأ للتعاون مع رجال الشركة فور توليه منصبه، فهل كان «ساندرز» ليسلك طريقًا مختلفًا، أم أن الأمر يتجاوز ببساطة حدود سلطة هذا وذاك؟
في «غولدمان ساكس»، إذا كان وجهك مُسمرًّا بتأثير الشمس، فهذا يعني أنك لا تعمل بجدية كافية.
تحاول «غولدمان ساكس» المشاركة في أنشطة خيرية أوسع لمحو الصورة السلبية التي اقترنت بها في الوعي السياسي الأمريكي، ويأتي هذا الاتجاه خصوصًا بعد اتهامها بالتزوير عام 2010، إثر لجوئها للمضاربة في سوق العقارات للتربُّح من الأزمة الاقتصادية عام 2008، لكن يبدو أنها تحولت بالفعل إلى رمز للجشع والشر في الولايات المتحدة؛ نتيجةً لكل هذه العوامل مضافةً إلى النبرة المتصاعدة ضد المال السياسي.
وفي تسريبات للمراسلات الداخلية للشركة عام 2012، استخدم موظفو «غولدمان ساكس» لفظ «الدُّمَى» للإشارة إلى المستثمرين غير الفاهمين لحركة السوق، كما ظهر اسم الشركة في حركة «احتلال وول ستريت» وحملة «بيرني ساندرز» الانتخابية.
لكن يبدو أن سوء السمعة قليل التأثير أمام تشابك هذه الإمبراطورية المالية مع النظام السياسي. وفي المطاف الأخير، عندما يضطرب الاقتصاد، تسارع الحكومة إلى إنقاذ تلك المؤسسات على حساب المواطن العادي.
قد يهمك أيضًا: كيف يُعيد المال تشكيل معتقداتنا؟
الثقافة: كيف أصبحت «غولدمان ساكس» ما هي عليه؟
يعتمد نشاط «غولدمان ساكس» على نشاط موظفي الشركة، ويعتمد نشاط هؤلاء على ثقافة مهووسة بالعمل، يجد الموظفون الجدد أنفسهم خاضعين لها منذ دخولهم إلى المؤسسة، ويتم التخلُّص بسرعة من أولئك الذين لا يُظهرون طموحًا خارقًا مصحوبًا بالتزام تام تجاه العمل والفريق.
ويأتي كل ما هو شخصي تاليًا لمصلحة الشركة، وهذا يشمل المشاعر الفردية والطموح الشخصي، إذ يكتسب موظف «غولدمان ساكس» تميُّزه من تميُّز المؤسسة التي يعمل بها فقط.
أدت هذه الثقافة إلى نشأة نوع من الهوس بين صحفيي ومدوني الأعمال عن طبيعة العمل في «غولدمان ساكس». لا تضع النساء هناك أي مساحيق للزينة بسبب ضيق الوقت، وإذا كان وجهك مُسمَرًّا بتأثير الشمس، فهذا يعني أنك لا تعمل بجدية كافية. وتبحث الشركة باستمرار عن موظفين حاملين لهذه الثقافة قبل أي شيء آخر؛ كي يستطيعوا التعامل مع العملاء بالطريقة التي تحفظ سمعة «غولدمان ساكس».
هذه السمعة هي التي جعلت المؤسسة في النهاية مصدرًا دائمًا لرجال السياسة ووزراء المالية ورؤساء البنوك المركزية.
وارتفعت قيمة أسهم «غولدمان ساكس» منذ الانتخابات الأمريكية في نوفمبر 2016 بنسبة 30%، وهذا حدث رغم أن مهاجمة سلطة أمثال هذه المؤسسات وسطوتها على صُنَّاع القرار كان من النقاط المهمة لحملة ترامب الانتخابية.
لكن، كما جرت العادة، يتغير الرؤساء وتظل «غولدمان ساكس» كما هي.
ومع أن هذا يضعنا مباشرةً في مواجهة سؤال عمَّن يحكم الولايات المتحدة (وربما العالم؟) حكمًا فعليًّا، فإنه يضعنا كذلك في مواجهة أسئلة أصعب عن مدى الاختلاف الحقيقي بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، بالإضافة إلى أسئلة أكثر صعوبة عن طبيعة النظام الديمقراطي والتمثيل الانتخابي.
لأنه لو كان لـ«غولدمان ساكس» كل هذه السطوة السياسية في بلد «ديمقراطي»؛ فمن انتخب «غولدمان ساكس»؟