«أجلس في شرفة مقهى بحي لازاري، أشرب قهوتي الصباحية وأدخن سيجارة مهربة من الجزائر». هكذا يبدأ يوم شاب من مدينة وجدة المغربية على الحدود مع الجزائر، إذ ترتبط كل لحظات يومك هنا بالضفة الأخرى من السياج الحدودي دومًا.
كثيرًا ما تتردد في معرض الكلام جملة «سقط جدار برلين ولم يسقط جدار بغلين»، للسخرية من واقع المنطقة التي تشمل شرق المغرب وغرب الجزائر. يسخر التاريخ بدوره من شقيقين حكَّما بينهما محتلًّا أبيض البشرة، زاحفًا من الشمال على دبابته، ففصل الأسرة الواحدة بأسلاك شائكة ومعبر حدودي أسماه «زوج بغال» (أي بغلان).
كل هذه النكات الأليمة، وأكثر، يمكن أن نستقيها هنا والآن من المنطقة السالف ذكرها، حيث يغدو الموضوع أكثر خصوصيةً وحميميةً لصاحبه، هو الذي يعيشه كل يوم وكل لحظة، ويعرف بعمق مدى وحدة الشعوب وطبيعتها، ويعرف جور الانقسامات التي تعيق رغبتها التاريخية الجامحة في الوصال وإرجاع الحالة الى سابق عهدها، ما قبل الحدود.
بعد التغيرات الجذرية الأخيرة في سياسات البلدين الحدودية، صار المواطن على الحدود من الجهتين يعيش أرقًا من ثِقل التفكير في قوت يومه. الحدود التي كانت دائمًا مورد رزقه الوحيد، ومصدر عيش مدن بأكملها، اليوم تعيش انغلاقًا تامًّا ورقابة قاسية، بداعي منع تسلل الإرهابيين من جهة المغرب، ومن التهريب من جهة الجزائر، وعلى الجانبين يكابد الشعب الواحد التمزق والتشرذم، بل ويُرمى به في كل حين إلى أفران تؤججها الحرب الإعلامية بين الدولتين.
ومع كل حرب لا يزيد ساكنو الحدود هؤلاء إلا مكابرة وحفاظًا على الرابط بين الشعبين في نظرهم، ممَّا يحدد خصوصيتهم ويعزلهم أكثر عن باقي مواطني الدولتين. والخصوصية هنا تاريخية وجغرافية واجتماعية، وسنتطرق إلى تبيانها من خلال قصة مدينة وجدة، التجسد الواضح لهذا الارتباط الذي يأبى أن ينقطع.
وجدة: مدينة الالتقاء
تعد وجدة، من يوم أن بُنيت على يد زيري بن عطية المغراوي قبل ما يزيد عن ألف عام فوق المرتفعات المطلة على سهل أنكاد، نقطة ارتباط بشرقها أكثر من غربها، وذلك يبرز من الغرض الاستراتيجي الذي بُنيت من أجله، كقاعدة عسكرية على الطريق الرابط بين تلمسان وفاس عاصمة ولاية المغرب الأقصى.
بعد أن ولَّاه أبو عامر المنصور حاجب الخلافة الأموية في الأندلس، عمد زيري بن عطية إلى قمع ثورات قبائل الأمازيغ ضد الحكم الأموي، فأسس وجدة لكبح حركات بني عمومته من قبائل «مغراوة» القادمة من الشرق.
هكذا كانت وجدة التي لم تسلم طَوَال تاريخها من الدَّكِّ المتكرر على رؤوس أصحابها، فموقعها كبوابة المغرب الأقصى جعلها هدفًا تاريخيًّا لفوهات العابرين شرقًا، وموقعها النائي عن مركز الدولة غربًا جعلها وجهة الهاربين والمغضوب عليهم من طرف فاس ومراكش والرباط، عواصم الدول التي توالت على حكم هذه الرقعة الجغرافية.
وفي ظل انعدام الاستقرار التاريخي الذي عاشته المنطقة، تربى في كنفها إحساس عميق بالتهديد لا يزال حيًّا حتى الآن بين أفراد شعبها، يسُمُّ حياتهم والتصرفات التي تطبِّع عيشهم اليومي.
تكالبت على وجدة كل القوى القادمة من الشرق، حاملةً معها مطامع السيادة على المغرب، فلعبت دورها التاريخي كصمام أمان يحول دون احتلال البلد. وكان لذلك الاحتلال أعراض جانبية، بربط أهل شرق المغرب حاليًّا بغرب الجزائر، وتوحيدهم في واقع مماثل، وجهود موحدة لدحر وجوده بينهم.
هذا الدور غير المقصود، الذي أسهم في إيجاده الإسبان والعثمانيون والفرنسيون، خلق روابط أقوى خلَّدها التاريخ في عدة نقاط وأحداث، كانت فيها وجدة القاعدة الخلفية للأمير عبد القادر، قائد النضال ضد الاحتلال الفرنسي في الجزائر، وبعده مجموعة «التحرير» الثورية الجزائرية، التي ضمت رجالات التحرير الوطني البارزين مثل بومدين وبوتفليقة، نهايةً بدعم قبائل الشرق المغربي المادي العسكري واللوجيستي للثورة في الجزائر الشقيقة.
كل هذه النقاط التاريخية أسست لاتصال وطيد لوجدة مع شرقها أكثر من غربها، وأسست لخصوصية تاريخية تهمها هي وحسب، عكس باقي جهات المغرب الأخرى.
اقرأ أيضًا: إلغاء الحدود بين الدول: لماذا يجب أن لا يستمر سجن العالم؟
الجزائر والمغرب: قطيعة سياسية وتاريخ مشترك
وجدة اليوم سيدة تبلغ من العمر أكثر من ألف عام، تنعى زماناتها الماضية، تحرمها من وصالها التاريخي سياسات الحدود وتعنت العاصمتين، وأمام هذا الواقع ترجع ذاكرتها إلى ما قبل اليوم، حين كانت الطريق سالكة لتأخذ وجبة غداء في مغنية أو تلمسان أو حتى وهران، وترجع في نهاية اليوم إلى مقهى الحي.
حتى دون تكبُّد عناء السفر، كانت موائد الجزائريين تزخر بمزروعات سهل ملوية، وكانت أسواق الشرق تتزين بمنتجات الجزائر، وعوائل تتزاوج مع بعضها وأنساب تختلط، بل ودور بُنيت على الشريط الحدودي غرفها بين الترابين، فتغدو غرفة النوم في المغرب والحمام في الجزائر أو العكس. أواصر إنسانية باتت الآن معلقة فوق وادي كيس في منطقة بين الجراف شمالي المدينة، حيث تلتقي العوائل من الجانبين لتناجي بعضها من بعيد تحت رقابة عسكر الحدود.
أسس الخلاف بين المغرب والجزائر هي عدم تمازج الأنظمة السياسية والصراع حول زعامة شمال إفريقيا ومشكلة ترسيم الحدود.
القطيعة بدأت بعد استقلال البلدين، المغرب عام 1956 والجزائر في 1962، فلم تترك فرنسا الحدود معلَّمة بينهما عدا في الجزء الشمالي. تصاعدت المطالبات المغربية بحل المشكلة، تلتها مناوشات إعلامية من الجانبين، لتتحول بعدها اللهجة الخطابية إلى حملة عسكرية أعلنها المغرب باسم «حرب الرمال» سنة 1963.
انتهت الحرب التي اندلعت بين الشقيقين، والتي سارعت القوى العالمية إلى الاصطفاف على جانبيها، بعد أيام معدودة بوساطة عربية إفريقية، مخلفةً قتلى وأسرى وجراحًا لم تندمل إلى الآن.
نفس القوى الخارجية أجَّجت بصراعها الأيديولوجي القطيعة بين الإخوة، عندما اصطفَّ المعسكر الشرقي بجانب الجزائر والغربي إلى جوار المغرب. تفجر الصتراع في عدة، مثل موقف النظام الجزائري من الوحدة الترابية المغربية، والتهجير القسري الذي طال المهاجرين المغاربة في الجزائر، الذين بلغ عددهم نحو 350 ألف شخص، حُملوا تعسُّفًا على ترك ديارهم وأهلهم في الجزائر في ما سُمِّي آنذاك «المسيرة الكحلاء».
في عام 1994 أُغلقت الحدود نهائيًّا من طرف الجزائر، ردًّا على فرض المغرب تأشيرة عبور على الجزائريين، إثر اتهام بضلوع جزائريين في أحداث فندق آسني في مراكش نفس العام.
«عدم تمازج النظامين السياسيين، الجمهورية الاشتراكية التقدمية والملكية الليبرالية المحسوبة على الغرب، بالإضافة إلى الصراع الجيوسياسي حول زعامة شمال إفريقيا، وأخيرًا مشكلة ترسيم حدود الصحراء الشرقية ومناجم الزويرات»، هكذا يوضح الكاتب المغربي مراد الضفري أُسُس الخلاف السياسي بين البلدين.
هذه البغضاء التي دامت أكثر من نصف قرن بين بلدين تجمعهما أكثر من أواصر الأُخُوَّة والجوار، ولَّدت لدى الشعوب شرقي وغربي الحدود حِسًّا متملصًا من إملاءات السُّلطة المركزية، يقيم دائمًا وصالًا عابرًا للسياج والأسلاك الشائكة ورقابة العساكر، يحافط على أسلوب حياة مشترك، يحافظ حتى على حق الناس في التنقل بين البلدين ولو بشكل غير قانوني.
في السنتين الأخيرتين، أطبق النظامان قبضتهما على الحدود، حفر الجانب الجزائري خنادق وثبت الأمن المغربي كاميرات للمراقبة، فصار من العسير على الشعوب ممارسة نشاطهم عبر هذا الخط الفاصل، بَيْد أن التشبث بمطلب فتح الحدود بات أكثر إلحاحًا واستعجالًا.
الوحدة المغاربية أولًا
من أشكال التواصل بين شرق المغرب وغرب الجزائر، الارتباط الوثيق بموسيقى الراي لدرجة اعتبارها جزءًا منهم.
في عام 1989، وُلد اتحاد مات رضيعًا هو اتحاد المغرب العربي، ومع ميلاده أَمَلت شعوب المنطقة خيرًا بوأد النزاعات والخلافات بين أطراف هذا المجال الجغرافي من شمال إفريقيا، وإرجاع الزمن إلى أيام حرية التنقل بين أقطار هذا الوطن الفسيح، الوطن الذي ضمهم منذ القدم، قبل المحتل وقبل الأنظمة وقبل ترسيم الدول.
قد يهمك أيضًا: من يحفظ تاريخ المغرب المسكوت عنه؟
حافظ شعب شرق المغرب وغرب الجزائر على مقومات ثقافية موحدة في كل مناحي حياتهم، من المطبخ إلى الشِّعر العامي، اللكنة الدارجة في ذلك الحيز الجغرافي، إلى درجة يلحظها مَن لا يعيش نفس الواقع.
يؤكد هذا لـ«منشور» زكرياء لعري، الشاب المهتم بالشأن الثقافي في مدينة وجدة: «التقارب الجغرافي وتلاقح الأنساب والوعي التاريخي المشترك، كلها أُسُس لوحدة اجتماعية بين الشعوب على الجهتين من الحدود».
من أشكال هذه الوحدة، على سبيل المثال، الارتباط الوثيق لكل مكونات سكان وجدة، والشرق المغربي على العموم، بموسيقى الراي لدرجة اعتبارها جزءًا منهم. تلك الموسيقى، التي عُرفت نشأتها في غرب الجزائر، لم تكن أبدًا خارج النطاق الشعبي للشرق مغربي، باعتبارها متفرعة من نفس الموسيقى الفلكلورية في المنطقة، موسيقى شيوخ القصبة، التي تحكي معيشهم اليومي بلكنتهم الشعبية العصية على الفهم في غرب المملكة.
كل هذه المؤثرات، وغيرها، حركت وتحرك جهودًا حثيثة وأملًا في عودة حلم الوحدة المغاربية إلى السطح، ومطالبات تتصاعد بفتح الحدود، مطالبات تلقى آذانًا صماء حتى الآن، آذانًا ترفض أن تصغي إلى صوت التاريخ والجغرافيا والتقارب الثقافي لشعوب المنطقة، ترفض الإصغاء حتى إلى مغريات الانفتاح على الجانبين، في وقت تظل الوحدة المغاربية بين البلدان السبيل الأمثل لتنمية شاملة، وسبيلًا وحيدًا لتنمية ولايات شرق المغرب وغرب الجزائر.