«لا أعرف ماذا يجري الآن، ولا أستطيع رؤية المستقبل، لكننا نعيش لحظة تاريخية. هذه حركة حقوق مدنية جديدة للأمريكيين الأصليين جرى الإعداد لها طويلًا. يجتمع الناس لبناء شبكة جديدة وقوية؛ إنها عائلة حديثة نكتشفها كل لحظة».
كانت هذه كلمات «طوني سورسي» (Tony Sorci)، أحد أفراد قبيلة «نافاهو» (Navajo) الأمريكية الأصلية (أو الهنود الحُمر كما يُطلق عليهم خطأً)، والتي نقلها عنه موقع (Upworthy).
يشارك «سورسي» في الاحتجاجات ضد مشروع خط أنابيب «داكوتا»، وهو خط لنقل البترول الخام من الآبار في ولاية داكوتا الشمالية إلى معامل التكرير في ولاية إلينوي.
أثار المشروع قدرًا كبيرًا من الجدل لسببين؛ إذ زعم أفراد تعود أصولهم إلى قبيلة «سيوكس» (Sioux) أنه يشكل تهديدًا بيئيًّا للمنطقة ويؤدي إلى تلوُّث مياه الشرب، كما سيخرِّب مدافن مقدسة للأمريكيين الأصليين. ونظَّم المعترضون احتجاجات ضده، وانضم إليهم مؤيدون ومتعاطفون من الأمريكيين ذوي الأصول الأوروبية (البيض).
وافق دونالد ترامب، بعد أيام قليلة من توليه رئاسة الولايات المتحدة، على استكمال أعمال خط الأنابيب، وينقل موقع (Upworthy) قصة المشروع كما يرويها أحد الأمريكيين الأصليين المشاركين في الاحتجاجات عند «ستاندنغ روك» (Standing Rock)، وهي منطقة مقدَّسة بالنسبة إليهم.
الصلاة في مواجهة المال
يعلو صوت هتافات المتظاهرين على أحد ضفتي نهر «ميزوري»، بينما يقف عمال الحراسة على الجانب الآخر.
«أنزل إلى الماء في العاشرة صباح كل يوم؛ لأصلي». يُدرك «سورسي» جيدًا أن الصلاة وحدها لن تُوقف مشروعًا سيُدرُّ الكثير من المال على المستفيدين منه، لكنه تعلَّم ذلك في طفولته؛ أن ينزل إلى مياه نهر «ميزوري» (Missouri) للصلاة، وعندها تتحول مظاهر الروحانية التقليدية إلى شكل من أشكال الاحتجاج.
وينحدر «سورسي» من عائلة لها تاريخ نضالي؛ إذ كانت جدته ناشطة ضد ترحيل الأمريكيين الأصليين من أراضيهم، وبالتالي يعتقد أن نشاطه السياسي اليوم دينٌ عليه لأرضها المقدسة. تبدو هذه قضية حساسة بوجه خاص لرجل من قبيلة «نافاهو»، وهي قبيلة «أمومية»؛ أي يرتكز نظامها حول الأمهات وليس الآباء.
يعلو صوت هتافات المتظاهرين على أحد ضفتي نهر «ميزوري»، بينما يقف عمال الحراسة على الجانب الآخر لحماية معدات المشروع من أي تخريب. في هذه المواجهة، يُدرك «سورسي» جيدًا دوافع خصومه المرتبطة بحاجتهم للمال.
وبدلًا من الاعتماد فقط على الصلاة، تسعى المظاهرات للضغط على المشروع ماديًّا عن طريق الاعتصام السلمي: «نُحاول أخذ نحو عشر مبادرات بشكل يومي. يذهب البعض للاحتجاج في بيسمارك (عاصمة الولاية)، ويبقى بعضنا للاعتصام، بينما يتظاهر آخرون على الجسر. مهمتي هي التجديف في النهر لتشتيت العمال ورجال الشرطة، ويؤدي البعض مهامَ أرهف؛ إذ يجمعون معلومات عن قناصة الشرطة، كما يتسلل عمال الأنابيب للاعتصام كمتظاهرين».
اقرأ أيضًا: من هم ذوو الروحين الذين أرادت أوروبا محوهم من التاريخ؟
زِيُّ الصلاة: أقنعة الغاز
تتطور الأمور عند «ستاندنغ روك» إلى اشتباكات أحيانًا، لكن «سورسي» لا يخشاها طالما لم تستخدم الشرطة أسلحة قاتلة. يرى أن الاشتباكات طبيعية ومُتوقَّعة لأن الأمور ليست دائمًا منظمة، والأخطاء قد تقع من طرف المتظاهرين الشُّبَّان الذين يودون إثبات شجاعتهم.
يحكي أن رجلًا أبيض سار مرة إلى خيمة الاتصالات وهو على أُهبة الاستعداد. كان يرتدي سترة منتفخة فوق قميصين شتويين، ويتعثر في حمل حقيبته التي تدلت حتى مؤخرته. ضحك «سورسي» عليه وتساءل: «هل كان حِمل هذا الرجل أكبر مما يستطيع تقديمه؟».
يحتسي البعض قهوتهم بينما يرتدون أقنعة الغاز بالفعل، مرتقبين اشتباكًا قد يشتعل في أي لحظة.
وفي يوم آخر، عند أحد المدافن المقدسة التي يسمونها (جبل السلحفاة) (Turtle Mountain)، قفز رجل أبيض آخر من المحتجِّين في المياه صارخًا: «هيا بنا، اتبعوني جميعًا، سأقودكم»، لكن لم يتبعه أحد كما يروي «سورسي»، الذي يضيف: «قلنا له أن يبقى في مكانه لأن المياه باردة، لكنه عبر إلى الجانب الآخر وصافح العمال ورجال الشرطة. لم يعتقله أحد، وظلَّ الرجل على الجانب الآخر ولم يعد».
يبدو أن «البيض» لا يستطيعون دائمًا تقديم الدعم الحقيقي لقضية الأمريكيين الأصليين في رأي «سورسي»، لكنه يعترف مع ذلك بأن بعضهم قد يكون مفيدًا جدًّا للمتظاهرين، وهو يحتفي عمومًا، كما يحتفي آخرون، بالتنوع الثقافي عند «ستاندنغ روك».
يدعو المتظاهرون الناس إلى زيارة الاعتصام أو المشاركة فيه، ويتعاون الجميع في إعداد الطعام والتنظيف وجلب الماء للشرب، كما يجتمع المنظمون كل صباح لتوزيع المهام والنقاش بشأن الخطوات المقبلة. يحتسي البعض قهوتهم بينما يرتدون أقنعة الغاز بالفعل، مرتقبين اشتباكًا قد يشتعل في أي لحظة.
قد يعجبك أيضًا: لسَّاها ثورة يناير: تركة ست سنوات من الخِذلان
«ستاندنغ روك» الآن وغدًا
يجتمع المحتجُّون حول نار يحترق فيها نبات «المريمية»؛ العُشب الذي استخدمه الأمريكيون الأصليون تقليديًّا في طقوسهم، بينما تقف ترسانة من معدات الحفر والمهندسين والعمال ورجال الأمن لمتابعة تطورات المشروع، ومع قرار ترامب الأخير، رجحت كفَّة البترول ولو مؤقتًا.
تضعنا «ستاندنغ روك» أمام اختبار هام؛ بإعادتها طرح ذلك السؤال حول العلاقة بين الثقافة والإنتاج: هل يجب الاصطفاف حول أحدهما إذا تعارضا؟ أم أن علينا البحث عن طريقة لحل الإشكال من أساسه؟ هل نوجد سعرًا للثقافة في معادلات السوق؟ هل نحدد قيمةً للإنتاج من منظور الثقافة؟
حتى تُحلُّ هذه الأسئلة الفلسفية؛ يؤمن «طوني سيرسي» بأهمية الاعتصام كمقدمة لمزيد من النشاط لصالح حقوق الأمريكيين الأصليين. وبصرف النظر عن تحقيقه أهدافه العاجلة، فإن الاعتصام يمثل بالأساس «مركزًا للتواصل، ذا طابع روحي، نحمله جميعًا معنا. سينتشر هذا الاعتصام من هنا إلى كل مكان، لكن بأي سرعة يحدث هذا الانتشار؟ لا أعرف؛ الوقت وحده يستطيع الإجابة، وأنا أفعل كل ما في وسعي لتعجيل العملية».