بسبب عشقه للتماثيل وهوسه بالإسكندر الأكبر، أمر «نيكولا غرويفسكي»، رئيس وزراء مقدونيا الأسبق الذي تقلد المنصب من 2006 إلى 2016، ببناء أكبر تمثال للملك المقدوني المحارب في العالم، ليستقر وسط الميدان الرئيسي وسط العاصمة المقدونية إسكوبية.
بتكلفة تزيد عن 500 مليون يورو، نُحِت التمثال في 2011. لم يكتف غرويفسكي بإرضاء شغفه عند هذا الحد، بل خلال فترة حكمه، امتلأت عاصمة بلاده بالجسور الفخمة وأقواس النصر العملاقة والمسارح الشاهقة وقاعات الحفلات الموسيقية المتلألئة، ومبانٍ حكومية جديدة وأعمال فنية على الطراز اليوناني القديم. في 2014، افتتح متحفًا أثريًّا جديدًا مخصصًا لعرض الأعمال الفنية الخاصة بالملكة «أوليمبياس» والملك «فيليب الثاني المقدوني»، آباء الإسكندر الأكبر.
تغيرت ملامح المدينة بكل تلك المعروضات الفنية التي قال عنها غرويفسكي إنها «قيِّمة لا تقدر بثمن، وجزء أصيل من تراث البلاد الثقافي، وتساعد على رفع معنويات المواطنين».
الهدف المعلن النبيل لغرويفسكي في رفع معنويات أبناء شعبه، لا يمكن التيقن منه في ظل الوضع الاقتصادي المتدهور لمقدونيا، باعتبارها أفقر شعوب أوروبا، إضافة إلى ارتفاع معدلات البطالة التي تزيد عن 30%، ويعيش أكثر من ثلث الشعب المقدوني تحت خط الفقر.
لكن اليونان لا تستطيع فهم ملامح المدينة الجديدة، إلا في إطار كسب نقاط في المعركة الدائرة طويلة الأمد حول اختيار جمهورية مقدونيا الحالية، نفس اسم المنطقة التي تقع شمال اليونان، بعد تفكك جمهورية يوغوسلافيا الاشتراكية الاتحادية عام 1992. إثر ذلك، اتهمت اليونان جمهورية مقدونيا بأنها اختارت تلك التسمية عمدًا، واستخدمت الرموز الخاصة بها، من أجل أطماع جيوسياسية إقليمية، أو بنيتها المستقبلية في المطالبة بضم الجزء الشمالي لليونان المسمى أيضًا، بمقدونيا.
من يمتلك الإسكندر الأكبر؟
ظهرت الرغبة في تغيير اسم مقدونيا إلى «مقدونيا الشمالية» كمساومة مع اليونان على التهدئة وللإشارة إلى كونها منطقة أخرى غير مقدونيا التي توجد في اليونان.
الجدال المشتعل ليس وليد هذه اللحظة التي بدا أن غرويفسكي من أطلق شرارتها، بل يعود الاحتدام إلى قبل ذلك بنحو ربع قرن، بعد أن تفككت جمهورية يوغسلافيا الاشتراكية الاتحادية، ونالت مقدونيا استقلالها.
كلٌّ له مبرره في امتلاك إرث الإسكندر الأكبر: من حق أثينا الاستئثار به لأنه ولد على أراضيها، وهذا دليلها الدامغ. أما إسكوبية، وهي عاصمة مقدونيا، فلها كل الحق في مشاركتها إرثه، لأن الإسكندر بالنسبة إليها الزعيم المبجل الذي ضم البلاد ضمن امبراطوريته التي امتدت حتى الهند، ولذلك هو جزء أصيل من الهوية المحلية. إثر ذلك، توترت العلاقات بين البلدين لدرجة أن أثينا فرضت حظرًا تجاريًّا على جارتها لأنها تشكل خطرًا حقيقيًّا على اليونان.
شعر اليونانيون بالإهانة والسخط تجاه ما يمارسه غرويفسكي من فن هابط يفوح منه الذوق السيئ، وسياسة لعوب لا تصدر إلا من إنسان ذي ميول قومية أصولية، لأن معادلته كانت بناء أكبر تمثال للإسكندر، في ظل فقر مدقع يعاني منه شعبه. لكن في الجانب الآخر، سخط أثينا من قضية التمثال لا يخلو من تسييس، لأن التمثال الذي تمتلكه اليونان ما زال المسؤولين يتنازعون على المكان الذي يجب أن يستقر فيه منذ عقدين.
منذ ذلك الحين، ظهرت الرغبة في تغيير اسم مقدونيا إلى «مقدونيا الشمالية»، كأحد الحلول المطروحة من جانب اليونان كمساومة على التهدئة بينهما. بذلك يشير تغيير الاسم إلى أنهما منطقتان منفصلتان تنتميان إلى دولتين مختلفتين. وأحد الأسماء التي كانت تُطلق على الإسكندر الأكبر هو الإسكندر المقدوني. لذلك كان اختيار اسم «مقدونيا» لدولة أخرى، بعد أن كانت تستأثر بها اليونان، مثيرًا للحفيظة القومية لدى اليونانيين.
الاسم مقابل الاتحاد الأوروبي
لم ينشغل بال مقدونيا بمقترح أثينا، حتى التقى رئيس الوزراء المقدوني «زوران زائيف»، رئيس وزراء اليونان «أليكسيس تسيبراس»، في يونيو 2018 لتوقيع اتفاق رسمي من أجل إنهاء أكثر النزاعات في منطقة البلقان جدلًا، وتدشين عهد جديد من السلام بين البلدين، بمقتضاه يتغير اسم مقدونيا إلى «مقدونيا الشمالية»، مقابل تمهيد الطريق لها بعضويتها في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، التي طالما رغبت مقدونيا في الحصول عليها منذ ديسمبر 2005، وكانت اليونان تقف لها بالمرصاد.
سيطر التفاؤل على زائيف، لأنها خطوة جيدة على طريق التطور الاقتصادي بالانضمام للاتحاد الأوروبي، وخصوصًا أن مقدونيا تعاني أزمة اقتصادية حادة. إذ يبلغ متوسط الرواتب فيها ما يقرب من 400 دولار شهريًّا. بدأ ينحسر ذلك التفاؤل سريعًا، لأنه كان يجب عليه أولًا أخذ الموافقة من البرلمان المقدوني بعد إجراء استفتاء شعبي، وكان عليه أن يتجاوز شعور شعبه بالفخر باسم الدولة.
كانت نسبة الإقبال على استفتاء تغيير اسم مقدونيا ضعيفة بسبب اعتبار بعض المواطنين ما أقدمت عليه الحكومة من تنازلات، خيانة كبرى.
ربما تفاؤل زائيف وفخره لا يمنعان من تحديات حتمية لا بد من أن يواجهها مع معارضي الداخل. فمثلا رئيس جمهورية مقدونيا «جورجي إيفانوف» بإمكانه الاعتراض، لكن موافقته قد تكون إجبارية ما لم يعترض البرلمان على تغيير الاسم. ربما يكون اعتراض الرئيس إيفانوف العقبة الأقل وطأة، فقد شن «الحزب الديمقراطي للوحدة الوطنية المقدونية»، وهو القوة المعارضة الأكبر في البلاد، حملة موسعة من أجل مقاطعة الاستفتاء الذي حُدد موعده نهاية سبتمبر 2018، بشأن تغيير الاسم.
النجاح الشكلي للاستفتاء
قاطع الشعب المقدوني الاستفتاء. فبالرغم من النجاح الشكلي للتصويت بتغيير الاسم الذي وصل إلى 91.5%، فإنه يظل نجاحًا لا يُعتد به، بسبب ضعف الإقبال الذي وصل إلى نسبة 36%. إذ تنازل أكثر من نصف تعداد المواطنين عن الإدلاء بأصواتهم، ولا يمكن الاعتداد بالاستفتاء إلا إذا تجاوزت نسبة المشاركة 50% ممن لهم حق التصويت.
ربما لا يمثل إلحاح الحزب الديمقراطي على المقاطعة السبب الوحيد لنسبة الإقبال. فمن ضمن الأسباب قد يكون عقاب الشعب المقدوني لرئيس وزرائهم لأنه لم يفِ بوعوده الانتخابية بشأن تقليل معدل البطالة، وأن الحكومة لم تتخذ أي إجراءات حقيقية للوصول إلى الأهداف المنشودة. وأيضًا اعتبار بعض المواطنين ما أقدمت عليه الحكومة من تنازلات، أي تغيير اسم الدولة، «خيانة كبرى».
التحديات التي يواجهها زائيف تتشابه مع تلك التي يواجهها نظيره اليوناني «تسيبراس»، الذي نجا من سحب الثقة من حكومته اليسارية على يد الحزب المعارض المُحافِظ الذي يقف ضد الاتفاق مع مقدونيا. ولم يسلم تسيبراس من معارضة «حزب اليونانيين المستقلين القومي» شريكه في الحكومة الحالية، حينما رفض التصديق على المعاهدة. وأشار استفتاء رأي عام في اليونان إلى أن 68% من الشعب يرفضون الاتفاق من أساسه.
لذلك، فإنه في الوقت الذي يصرح فيه المسؤولون على الجانبين، بأنه لا عودة إلى الوراء، تؤكد كل المؤشرات أن الطريق ما زال مليئا بالحفر. قد تظل إجابة سؤال «مَن المستفيد من عرقلة السلام بين البلدين؟» مجهولًا، إلا أن آثار معركة توازن القوى والتأثير الجيوسياسي بين روسيا والغرب تبدو واضحة في كل هذه المعركة.
التوازن بين روسيا والغرب
طُرد دبلوماسيين روس، ومُنع اثنان آخران من دخول الأراضي اليونانية، بعدما كشفت الأدلة محاولاتهم إثارة البلبلة عن طريق تقديم رشاوى للمعارضين من أجل الوقوف ضد الصفقة التاريخية، بين مقدونيا واليونان، لعرقلة دخول الأولى في أحضان العائلة الأوروبية.
روَّجت وسائل الإعلام الروسية أفكار «حزب اليونانيين المستقلين القومي» في مقاطعة الاستفتاء. وأكد دبلوماسيون غربيون أن أكثر من 40 منشورًا جديدًا يظهر يوميًّا على فيسبوك، للتشجيع على مقاطعة الاستفتاء، وهو اتهام ضمني لروسيا بالوقوف وراء تلك الحملة، بشكل يشبه اتهامات الحزب الديمقراطي الأمريكي لروسيا بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2016.
اتهم رئيس الوزراء المقدوني زائيف، روسيا بشكل مباشر، بأنها كانت وراء بعض الاحتجاجات خارج البرلمان المقدوني المعارضة للاستفتاء. مضيفًا أن روسيا دفعت نحو 21 ألف دولار إلى مجموعات يمينية قومية، بهدف ارتكاب أعمال شغب.
لكن اتهام زائيف لروسيا كان حذِرًا. فقد عبَّر عن أن بلاده لا تفضِّل الصدامات، وتحاول بناء صداقات مع جميع الأطراف. لم ترد روسيا على تصريحات رئيس وزراء مقدونيا، واكتفت بإنكار تدخلها، وردت باتخاذ خطوات مماثلة ضد الدبلوماسيين اليونانيين في موسكو.
قبيل الطرد المتبادَل للدبلوماسيين، كانت علاقات دافئة تجمع اليونان وروسيا، لدرجة أن أثينا رفضت طلب لندن بطرد دبلوماسيين روس إثر مزاعم حول محاولة روسيا تسميم الجاسوس الروسي المزدوج «سيرغي سكريبال» في بريطانيا.
وسط كل تلك الاتهامات لم يجد وزير الدفاع الأمريكي، «جيمس ماتيس»، بُدًّا من مد يد العون، وطار إلى العاصمة إسكوبية ليؤكد أن روسيا حولت أموالًا إلى مقدونيا بهدف تمويل حملات للتأثير في مسار الاستفتاء، وربط بين ما وجده من أساليب حيكت لإثارة القلقلة في الاستفتاء، بما حدث في الانتخابات الأمريكية 2016، مشيرًا إلى أن موسكو تحاول جاهدة عرقلة عملية الديمقراطية في المنطقة.
لكن ماتيس، في الوقت نفسه، دعم مقدونيا بمبلغ ثمانية ملايين دولار تمويلًا من الكونغرس الأمريكي، واستكمل بزيارات إلى مقدونيا من شخصيات غربية بارزة، مثل المستشارة الألمانية، «أنغيلا ميركل»، والمستشار النمساوي، «سيباستيان كورتس»، والأمين العام لحلف الناتو، «ينس ستولتنبرغ»، والممثل الأعلى لسياسة الأمن والشؤون الخارجية في الإتحاد الأوروبي، «فيديريكا موغيريني». ولم تبخل وزارة الخارجية البريطانية أيضًا بتمويل الاستفتاء.
من ناحية، أموال تُضخ واتفاقيات تُقدَّم بهدف تسهيل طريق دخول مقدونيا إلى الاتحاد الأووبي، ومن ناحية أخرى تُضخ أموال وتُحاك مخططات بهدف دحر التقدم الغربي في أوروبا.
قد يُعتقد أن مصلحة مقدونيا في الارتباط بالاتحاد الأوروبي من أجل انتشالها من الاقتصاد المتداعي، وأن روسيا لا تغفل عن التخطيط لمناطحة الغرب، إلا أن فرضية تطور مقدونيا اقتصاديًّا بمجرد دخولها الكتلة الأوروبية يشوبها الشك، لأن عددًا من بلدان أوروبا الشرقية المنضمة للاتحاد الأوروبي ما زالت تعاني من تأخر اقتصادي. أي إن الفرضية الأقوى هي حرب توازن بين قوى دولية تطحن دولًا صغيرة تحت أقدام الأوهام.
وإذا كانت الأموال الروسية تُدفع من أجل إثارة البلبلة عن طريق ارتكاب أعمال عنف، فالأموال الغربية من واشنطن وبروكسل تُدفع أيضًا من أجل ترجيح كفة الإدلاء بـ«نعم» في الاستفتاء.
على الرغم من فشل الاستفتاء، فإن رئيس الوزراء المقدوني سيذهب إلى البرلمان من أجل المضي قدمًا في الخطوات القادمة، تزامنًا مع دعوة الغرب، الشعب المقدوني إلى اقتناص الفرصة التاريخية. الإصرار الرسمي في مقدونيا والدعوات الغربية، تؤكد أن المعركة لم تنته بمجرد الفشل القانوني للاستفتاء، وأن معارك روسيا والغرب حول حدود نفوذهم ستظل مستمرة على الأمد القريب على الأقل.