ما إن أُسدِل الستار على الانتخابات البرلمانية العراقية وأُعلِنت نتائجها، حتى أعرب كثيرون عن عدم رضاهم. غير أن مَن حصد مقاعد تفوق 20 مقعدًا وجد هذه النتيجة مُرضية بشكل أو بآخر. علامة الرضا ظهرت على وجوه زعماء القوى التي بدت قنوعة رغم ضعف المشاركة، إذ لا تؤثر نسبة المشاركة الجماهيرية في شرعية الانتخابات.
لم يكن مفاجئًا للمراقب عن كثب أن يتصدر تحالف «سائرون» الذي يتزعمه مقتدى الصدر القوائم الفائزة بـ54 مقعدًا برلمانيًّا، لكن أكثر المتفاجئين كان رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي، الذي توقَّع أن تحصد قائمته الانتخابية أعلى الأصوات وبفارق مريح عن بقية الكتل.
ليس كل ما يتمنى المرء يدركه، فقد حلت قائمة العبادي في المرتبة الثالثة بـ43 مقعدًا برلمانيًّا، بعد تحالف «الفتح» القريب من الحشد الشعبي، والذي يتزعمه هادي العامري الطامح إلى منصب رئاسة الوزراء، والحاصل على 47 مقعدًا برلمانيًّا، غير أن العبادي والعامري وجدا نفسيهما أمام عقبة كبيرة اسمها مقتدى الصدر.
انتخابات العراق: تحالفات غير مؤكدة
في حي صغير من مدينة النجف يُدعى الحنانة، حيث يوجد منزله، أراد مقتدى الصدر أن يكون بيته قِبلة المتحالفين، لكن عقدة المركز والهامش لعبت لعبتها، إذ إن من يبحث عن الحكومة يجب أن يسكن قريبًا من القصر، لا أن يكون على بُعد 90 كيلومترًا عن العاصمة. وما هي إلا أيام حتى انتقل الصدر من النجف إلى بغداد ليخوض غمار لقاءات مكثفة.
الماكينة الإعلامية للصدر أرادت أن تُظهِره محورًا تسعى كل القوى التي أتت بعد قائمته في الترتيب الانتخابي إلى الاقتراب منه، غير أن اللعبة السياسية في العراق لا تعترف بالفائز الأول بسهولة، وإنما بمن يستطيع تشكيل الكتلة الأكبر في البرلمان العراقي لتحظى هذه الكتلة بتكليف رئيس الجمهورية لها لتطرح مرشحها لرئاسة الوزراء.
عند كل لقاء يجمع الصدر بزعيم كتلة سياسية، يُطرح اسم رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي كمرشح لولاية ثانية. وعلى الرغم من أن العبادي تزعَّم قائمة انتخابية منافسة للصدر، فإن إصرار الصدر على أن يكون العبادي مرشحه لرئاسة الوزراء أمر غريب، خصوصًا أن الوقت ما زال مبكرًا للخوض في هذه القضية، التي تأتي عادة بعد تشكيل التحالفات وظهور الكتلة الأكبر التي ستتولى ترشيح رئيس الوزراء.
ربما يكون تفسير ترشيح الصدر العبادي لرئاسة الوزراء أن الصدر لا يريد أن يكشف ورقته الحقيقية، وأنه بتقديمه للعبادي مرشحًا يجعله ورقته الأولى في المفاوضات، ليتخلى عنها باسم التوافق على اسم من يقود الحكومة المقبلة.
المالكي ليس وحيدًا
لا تقتصر محاولات الصدر على تشكيل الكتلة الأكبر فقط، بل يسعى كذلك لعزل كتلة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، الذي حصلت قائمته على 25 مقعدًا برلمانيًّا، فقد التقى الصدر بغالبية قادة الكُتَل الفائزة، واستثنى المالكي وكتلته من هذه اللقاء.
بالطبع لم يعجب هذا المالكي، الذي يظن أنه قادر على تكوين محور الكتلة الأكبر، وربما يكون قد سبق الصدر بإجراء حوارات ولقاءات مع كتل أخرى للانخراط في تحالف كبير، وحاولت ماكينته الإعلامية إرسال إشارات عن قرب إعلان هذا التحالف، غير أن السقوف الزمنية التي حددوها انتهت ولم يعلَن عن أي تحالف ناضج.
ما يدور في كواليس ائتلاف دولة القانون، بزعامة المالكي، يشير إلى وجود إشارات إيجابية من بعض القوى، كائتلاف «الوطنية» بزعامة إياد علاوي (21 مقعدًا)، وقائمة الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني (25 مقعدًا). لكن هذه المقاعد غير كافية إذا لم ينجح المالكي في إقناع حلفاء جدد يكون هادي العامري أولهم، وبعض الكتل الصغيرة، ليتمكن من تشكيل الكتلة الأكبر.
تيار الحكمة: «بيضة القبان»
أن تكون «بيضة قبان» (واسطة العقد) في معادلة متقاربة، يبدو صعبًا حين يعتمد على ما أحرزته من مقاعد تؤهلك للعب مثل هذا الدور، غير أن تيار الحكمة الذي يتزعمه عمار الحكيم، والحاصل على 19 مقعدًا برلمانيًّا، يحاول أن يلعب هذا الدور من خلال تحرك سياسي، فتارة يميل باتجاه «سائرون»، ويكاد يكون ملتصقًا به، وتارة يرسل إشارات إلى كتل أخرى بأنه مستعد للتحالف معها.
ينتهج تيار الحكمة منهجًا براغماتيًّا للحصول على المكاسب الكبيرة رغم حجم مقاعده القليل، فعين التيار لا تغمض عن منصب رئيس الحكومة، ويرى الحكيم أنه سيأخذ دور صانع الملوك، أو من يدفع بمرشح التسويد حين تشتعل نيران التنافس، وحرق الخصوم المرشحين.
بهذا النهج قد يفلح الحكيم في الحصول على دور في الحكومة المقبلة، أو صناعتها، لكن النهج نفسه قد يعود عليه بأضرار كبيرة بعد دخوله التحالف مع الصدر، كما حصل مع إياد علاوي في انتخابات 2006، وحصوله على نفس عدد مقاعد الحكيم، إذ أُبعِد عن المنافسة على رئاسة الوزراء، أو طرحه كمرشح تسوية وقتها.
دور إيراني
لم يعد الأمر سرًّا أن تنتشر أنباء عن لقاء الجنرال الإيراني قاسم سليماني بعدد من ساسة العراق لبحث تشكيل الحكومة، أو تحالف كبير تنبثق عنه الحكومة المرتقبة. حاولت بعض الأوساط العراقية الموالية لإيران تفنيد هذه الأنباء، لكنها فشلت في تغطية الحراك الإيراني.
ما زاد هذا الفشل إبلاغ مقتدى الصدر أنصاره بأنه قد تعرض للتهديد من جهة خارجية لإبعاده عن تشكيل الكتلة الأكبر وإعلان مرشحه لرئاسة الوزراء، الأمر الذي دفع بأنصاره إلى الإحاطة بمنزله بالنجف ورفع شعارات معادية لطهران، ما أجبر الخارجية الإيرانية على إصدار بيان تؤكد فيه العلاقة الطيبة مع الصدر. وبهذا نجح مقتدى، ولو مؤقتًا، في تخفيف الضغط الإيراني عليه، ورفع شعار «القرار عراقي»، في إشارة إلى إبعاد مفاوضات تشكيل الحكومة عن التأثيرات الخارجية التي يبدو إبعادها مستحيلًا.