هل من الممكن أن تتحول المتعة إلى فيلم رعب؟
نعم، يمكن، فعندما تملك عقلًا ناقدًا يرى ما هو أبعد من الظاهر، قد ترعبك المتعة التي ترى الآخرين منغمسين فيها، للأسف. وليس هذا شعورًا جيدًا، لكن وجود ذلك الصوت المزعج بداخلنا أمر ضروري؛ فهو دليل على عدم اقتناعنا بالواقع ورغبتنا في تغييره.
ذلك الصوت يعلو ليزعجني مع احتفالات الكويت بإحدى المناسبات الوطنية، وبالتحديد احتفال الدولة والتليفزيون والجماهير بالعيد الوطني. لا يغيب عن بالي أحد مشاهد فيلم «1984»، المقتبس عن قصة «جورج أورويل» الشهيرة التي تحمل الاسم ذاته.
لا أودُّ هنا أن أقدم مراجعة لرواية «أورويل»، لكني سأشير إلى مدى التطابق المخيف الذي لاحظته بين «الدستوبيا» الكئيبة التي قُدِّمت لنا من خلال الرواية وواقع مجتمعنا.
لا، ليست دعوة للتشاؤم، بل هي واحدة من وظائف القراءة النقدية لأي عمل أدبي أو فني؛ محاولة تفكيكه وإعادة فهمه حسب معطيات الواقع. بمعنًى آخر، أن نمرر رواية «أورويل» عبر فلتر ثقافتنا، ونحلل ما يعبر من خلال ثقوبها الدقيقة. فما الذي مرَّ من خلال هذا الفلتر وأصابني بالرعب؟
هل نعادي من نعادي حقًّا؟
في رواية «1984» هناك حرب قائمة بين دولة «أوشينيا»، التي ينتمي إليها بطل القصة وتدور الأحداث فيها، ودولة «إستيشيا» العدوة. تتحالف «أوشينيا» في هذه الحرب مع دولة «يوريشيا»، وتدور رحى المعركة غير المنتهية بين تلك الدول العظمى الشمولية الثلاث، والتي تكونت بعد حرب نووية قلبت موازين القوى في العالم.
بالتأكيد ﻻ تنفك الدعاية الإعلامية في «أوشينيا» تهاجم عدوتها «إستيشيا» بكل ضراوة وتحرض الناس عليها، وتتخذ هذه الحرب وسيلة لجمع المواطنين وتوحيدهم ضد أعدائها الخارجيين والداخليين أيضًا.
في أحد مشاهد الفيلم، نرى جمهورًا غفيرًا من شعب «أوشينيا» يشاهد فيلمًا دعائيًّا عن إنجازات بلاده وبطولاتها، ويدعو الأوشيانيين للتوحد والالتفاف حول قيادتهم الرشيدة لتفويت الفرصة على الأعداء والمندسين ممن يحاولون خلق فتنة بين الجماهير، فتعلو أصوات الجماهير المتسمِّرة أمام الشاشات بالهتاف والابتهاج بهذه المشاهد والكلمات المدغدغة للمشاعر، بغض النظر عما إذا كان هذا الابتهاج حقيقيًّا أم مصطنعًا.
أي تحرك يفعله بطل الفيلم لاستنهاض ذاكرة الشعب بشأن القضية سيحوله لـ«مجرم فِكر».
بطل القصة، الذي يعمل في وزارة الحقيقة (ما يعادل وزارات الإعلام والتعليم والثقافة)، يتذكر تدريجيًّا أن «إستيشيا» العدوة كانت قبل سنوات قليلة حليفة لهم، بينما «يوريشيا»، الحليفة الحالية، هي من كانت تحاربهم، لكن السيطرة الإعلامية والفكرية والأمنية لحكام «أوشينيا» غسلت أدمغة الشعب، وتمكنت بسيطرتها التامة على التعليم والإعلام المدعومين بالقمع العسكري الشديد من تغيير «التاريخ»؛ لتستبدل العدو بالصديق والصديق بالعدو.
حتى البطل لم يكن ليستطيع التصريح بالمعلومة التي تذكَّرها (بفضل عمله الحساس) لأي أحد، إذ كان من المستحيل عليه مخالفة رأي الحكومة وتاريخها، ولأنه لم يكن ليستطيع إثبات كلامه؛ بعد أن حُرِّفت كل الأدلة المكتوبة والمسجلة في «أوشينيا» لتشير إلى أن البلد كانت دائمًا في حرب مع «إستيشيا».
ومن ناحية أخرى، فإن أي تحرك يفعله بطل الفيلم والرواية لاستنهاض ذاكرة الشعب بشأن القضية سيجعل منه «مجرم فِكر»، وهي جريمة لها عقوبات وخيمة جدًّا ولا يتهاون معها أعضاء وزارة الحب (ما يعادل وزارة الداخلية والأمن الداخلي)، الذين يراقبون ويلاحظون ويسجلون كل صغيرة وكبيرة يقوم بها الناس، ويترصدون لكل من يشُكُّون في مخالفته الأعراف والقوانين، ويردعون ويقمعون بكل حزم وصرامة.
عندما يُضبط البطل لاحقًا بجريمة الفِكر، ويُحقق معه ويُعذَّب، كان يُرغَم على ترديد عبارة واحدة كي يقتنع بها: «لقد كنا دومًا في حرب مع (إستيشيا)».
اقرأ أيضًا: الدوخة: كيف يفتح الوعي بوابة الرعب
هل غسلت عقلك اليوم؟
صاحب السلطة، سواءً كان حاكمًا أو معلمًا أو مؤسسة اجتماعية أو أبًا أو أخًا أكبر، هو من يفرض ذاكرته وتاريخه على رعيته.
المغزى مما مضى أن مَن يملك زمام القوة والسيطرة ويجيد أصول غسيل الأدمغة يمكنه أن يغيِّر قناعات الناس، بل وحتى تاريخهم وذاكرتهم، وسيجد أن الناس لا يملكون سوى أن ينصاعوا له ويصدقوه مهما ألقى على مسامعهم من حقائق أو أكاذيب.
فكرة «أورويل» تلك حقيقية تمامًا وتُطبَّق علينا جميعًا بدرجات متفاوتة دون أن ندري؛ عقولنا تُغسل وتاريخنا يُتلاعب به دون أن نشعر، لا أحد منا محصن من ذلك. وعندما أقول «علينا»، فلا أقصد شعوب العالم المضطهَد والمغلوب على أمره فقط كما يصوِّر لنا «أورويل»، بل حتى الشعوب المتقدمة والديمقراطية والليبرالية والمتعلمة.
التحريف والنسيان طبيعة بشرية؛ فكتابة التاريخ صنعة، وكذلك قراءته، مَن يتقنها ويقدر عليها هو من يُخرج ذلك التاريخ أقرب لما يريد. صاحب السلطة (الراعي)، سواءً كان حاكمًا أو معلمًا أو مؤسسة اجتماعية أو أبًا أو أخًا أكبر، هو من يفرض ذاكرته وتاريخه على رعيته.
قد يعجبك أيضًا: «غولدمان ساكس»: الإمبراطورية المالية التي تحكم العالم
كيف تقاوم غسيل الدماغ؟
نعم، يمكننا أن نقاوم محاولات التلاعب بعقولنا وذاكرتنا، لكن ذلك يحتاج منا لوعي وجهد كبيرين، لا تقوى عليهما جماعة «ما لي خلق»، ولا جماعة «هذا ما وجدنا عليه آباءنا»، ولا جماعة «أعطِ العيش لخبَّازه»؛ فإدراك «الحقيقة» يحتاج تحريرًا للعقل وكسرًا للجمود وتحديًا للواقع، كما يحتاج روحًا مغامرة ومجازفة عالية وصبرًا على ويلات محتملة قد يواجهها المرء في سعيه وقدرة، واستعدادًا لتغيير نفسه وتبديل أفكاره مهما كان مصدرها السابق.
الآن عليك أن تسأل نفسك السؤال الافتراضي: هل حربُنا مع «إستاشيا» أم مع «يوريشيا»؟
في المرة المقبلة التي تتصفح فيها الجريدة أو تستمع للأخبار، ستجد كمًّا هائلًا من المعلومات «الرسمية» التي تقدَّم لك كحقائق لها مصدر «مسؤول»، أو آراء لخبراء ومختصين وعلماء وقياديين وشخصيات «بارزة»، فهل ستأخذ هذه الحقائق والآراء كما هي؟
ماذا لو بعد فترة، تطول أو تقصر، رأيت المصدر ذاته، الخبير المسؤول، يحاول إقناعك بحقائق تخالف الحقائق الأولية أو تعدلها، وتبرر تلك المخالفة بشتى الطرق، المقنعة غالبًا، فهل سترضخ لتلك التغييرات وتبدل قناعتك وتقول إننا كنا دائما في حرب مع «إستيشيا»؟
بمعنًى آخر، و«على بلاطة»: هل الدولة «س» هي عدوتنا اللعينة، أم أن شعبها طيب لكن حكامها هم من خانونا؟ أو العكس: هل النظام «ش» صديقنا وحليفنا الذي وقف معنا وقت الشدة، أم أنه نظام ديكتاتوري ظالم؟ هل الحزب «ص» بطل مجاهد يدافع عن قضايا الأمة، أم أنه حزب مجرم إرهابي؟
لنخفف الوتيرة قليلًا ونسأل: هل لدينا عجز في الميزانية وعلينا أن نسلِّم جيوبنا لنشارك الوطن في محنته الاقتصادية؟ أم يجب ألَّا نبالي بذلك ونبتهج ونتنفس ونشعل الألعاب النارية ونقيم الحفلات فرحًا، ولا بأس بصرف ملايين الدولارات على خلق «تجربة وطنية» تجمع الناس بالفرحة على قلب واحد؟
إذا تعاملت مع الأسئلة السابقة بوضع علامة «صح» أمام الإجابة الصحيحة، فأنت لم تفهم كلامي، اقرأه مرة أخرى لو سمحت.
الجواب الصحيح أن تؤمن بعدم وجود جواب واحد صحيح. تسليمك بأن الحل يكمن في الاستسلام لرأي دون الآخر هزيمة لفكرك، تعادل هزيمة بطل «1984». المغزى من كل ما كتبت هو فقط أن تكون واعيًا لكل ما يقدَّم إليك، لا تشرب الـ«Kool Aid» كما يُقال، لا تتجرع السم المقدَّم إليك مخلوطًا بالعسل، فقط لأنك تثق أو تحب أو تحترم أو تخاف ممن يقدمه لك، أو لأن الجميع ممن حولك يتجرعون من الكأس نفسها.
نعم، مقاومة هذا المشروب البارد المنعش أمر صعب، خصوصًا إن كنت قد نشأت على حب ما «ينعش» من مشروبات ولا تطيق شُرب مُرِّها، مهما كان ذلك المر مفيدًا. شُرب المر المفيد هو ما سيسبب لك شعور الرعب غير المريح، لكنك مع التعود على مرارته ستستلذ بها، وعندها ستدرك مدى ضحالة مَن يتمتعون بشرب السموم.