يبدو هذا المشهد متكررًا حد التطابق: تعاني دولة ما من أزمة مالية، فتتجه للاقتراض من المؤسسات المالية الدولية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي. يمكن بسهولة ودون أن تقرأ حرفًا واحدًا تخمين النصائح الثابتة التي سيقدمها الصندوق لهذه الدولة وأي دولة أخرى مأزومة اقتصاديًا: تقشف، وخصخصة، وتحرير الاقتصاد، ويمكن كذلك تخمين نتائجها، وفقًا للتجارب السابقة، من ارتفاع معدلات الفقر والبطالة والاضطرابات الاجتماعية.
المنتصر يحصد الغنائم
في يوليو عام 1944 ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية بانتصار الحلفاء، انعقد المؤتمر النقدي والمالي للأمم المتحدة، في بريتون وودز (Bretton Woods) بولاية نيوهامبشاير الأمريكية، ونتج عن المؤتمر اتفاقية بريتون وودز، التي نصت على إنشاء البنك الدولي؛ لتشجيع الاستثمار والتنمية على المدى الطويل، وصندوق النقد الدولي؛ لضمان استقرار النظام النقدي والمالي الدولي في المدى القريب. تسمى المؤسستان مؤسسات بريتون وودز، وتتقاسم أمريكا وأوروبا الغربية السيطرة عليهما؛ فقد جرى العُرف أن يكون رئيس البنك الدولي أمريكيًا، بينما يكون رئيس صندوق النقد الدولي من أوروبا الغربية.
ترتبط القوة التصويتية للدولة بحصتها في الصندوق، ولذلك تهيمن الولايات المتحدة.
ويسعى الصندوق لتحقيق أهدافه باستخدام عدد من الآليات، أبرزها الإشراف العملي على النظام النقدي الدولي، وتقديم التدريب والنصائح والخبرات والاستشارات والمشاركة في صياغة القوانين والتشريعات المالية والاقتصادية للدول الأعضاء؛ إذ تُلزم اتفاقية بريتون وودز الأعضاء بالتعاون مع الصندوق، كما يقوم الصندوق بإقراض أعضائه عند تعثرهم ماليًا، وهي وسيلة صندوق النقد الأقوى لممارسة سلطاته؛ فعادة ما ترتبط هذه القروض بشروط ينبغي على الدول تنفيذها.
ونظريًا تملك كل الدول الأعضاء حق التصويت والمشاركة في اتخاذ القرارات داخل الصندوق، لكن ذلك لا يحدث على أرض الواقع؛ إذ ترتبط القوة التصويتية للدولة بحصتها في الصندوق، ولذلك تهيمن الولايات المتحدة، صاحبة الحصة الأكبر، على 16.7% من الأصوات، ما يجعلها الدولة الوحيدة في العالم التي تملك حق الفيتو ضد القرارات المهمة في الصندوق؛ لأن مثل هذه القرارات تتطلب موافقة 85% من حصص الأعضاء. وبالإجمال تسيطر الدول الصناعية على 60% من أصوات الصندوق، بينما تملك الدول النامية، الأكثر عددًا، 40% فقط من الأصوات، ما يمنعها من إجراء أي تغيير في سياسات الصندوق، التي تتخذ بتصويت الأغلبية.
من الكينزية إلى النيوليبرالية
المرادف اللغوي لكلمة ليبرالية هو كلمة حرية، وفي التطبيق السياسي تتبنى الليبرالية مبدأ الحرية المطلقة للأفراد، وينعكس ذلك على سلوكها الاقتصادي، إذ تنبني «الليبرالية الكلاسيكية» على اقتصاد السوق الحر، أو ما يسمى بـ«اقتصاد عدم التدخل»، الذي يعني عدم تدخل الدولة في الأنشطة الاقتصادية، وتنحصر مهمتها في تطبيق القانون، ويمارس القطاع الخاص (رأس المال) كل الأنشطة الاقتصادية، ويُترك السوق ليضبط نفسه بنفسه عبر آليات العرض والطلب، حسب المبدأ الشهير «دعه يعمل، دعه يمر» (Laissez faire, laissez passer).
لكن هذه الآليات أدت إلى الكساد الكبير مطلع الثلاثينات، حين انهار السوق تمامًا، ما أدى للجوء الدول إلى نظريات العالِم البريطاني جون كينز (John Maynard Keynes) في الاقتصاد؛ الذي رأى أن السوق لا يمكن أن يضبط نفسه بنفسه، وأنه ينبغي للدولة أن تتدخل في السوق، وألا يُترك تمامًا للقطاع الخاص، بل يجب أن يشاركه قطاع عام تملكه الحكومة، التي عليها أن تقود سياسات لدعم الطلب عبر دعم الاستهلاك، وتدعم العرض عبر دعم الاستثمار.
كان صندوق النقد حين إنشائه يستلهم مبادئ من الاقتصاد الكينزي، إذ كان جون كينز نفسه يرأس الوفد البريطاني في مفاوضات إنشاء الصندوق، لكن الأزمة المالية في السبعينات أدت إلى انتصار اليمين المحافظ في بريطانيا بزعامة مارغريت تاتشر (Margaret Thatcher) (1979)، وفي أمريكا بزعامة رونالد ريغان (Ronald Reagan) (1981)، وتم التخلي عن الكينزية وعادت الليبرالية من جديد إلى الواجهة (النيوليبرالية)، وبالتبعية تغيرت توجهات صندوق النقد الدولي إلى النيوليبرالية، وصار أكثر ارتباطًا بمصالح الشركات الرأسمالية الكبرى، فأصدر دليل شروط جديدًا سنة 1979، يحدد سلطاته بشكل أكثر دقة وصرامة، واشترط للاستفادة من قروض الصندوق تطبيق سياساته وبرامجه الهيكلية بعيدة المدى.
وابتداءً من الثمانينات، روج صندوق النقد الدولي لنموذج اقتصادي مبني على الركائز الثلاث التي ما زالت مستمرة إلى اليوم: تحرير أو لبرلة الاقتصاد، وتقليص القطاع العام لصالح القطاع الخاص (الخصخصة)، وتخفيض النفقات الحكومية وإلغاء الدعم (التقشف). وهي السياسة التي حددها الاقتصادي الأمريكي جون وليامسون (John Williamson) في عشر نقاط عُرفت بـ«توافق واشنطن»، والتي حوت بنودًا إضافية مثل الاستثمار في قطاعات تفيد الفقراء الأكثر تعرضًا للضرر أثناء فترة انتقال الدولة إلى اقتصاد السوق، لكن صندوق النقد والمؤسسات المالية الدولية تجاهلت هذا البند، وركزت على الجوانب الداعية إلى تقليص دور الدولة في الاقتصاد حتى يتلاشى تمامًا، بحسب وليامسون نفسه.
اجتهادات خاطئة.. أم تدمير ممنهج؟
تضم قائمة الضحايا كل الدول التي تعاملت مع صندوق النقد تقريبًا.
الليبرالية يُفترض أن تكون منهجًا أوسع من مجرد حرية السوق وتقليص دور الدولة في الاقتصاد، فلها آثار أوسع على الحريات الفردية للمواطنين، وتفترض الليبرالية أن تقليص دور الدولة في الاقتصاد سيقلص وصايتها واستبدادها على المواطنين؛ إذ سينزع منها أهم آليات السيطرة عليهم، وهو ما تحقق بالفعل مع صعود الليبرالية؛ فقد نجحت في إنهاء الاستبداد وبناء الديمقراطية بثورات مثل أمريكا وفرنسا، أو بشكل تدريجي مثل بريطانيا.
لكن النيوليبرالية التي يطبقها صندوق النقد الدولي هي ليبرالية اقتصادية فقط؛ إذ ينصب تركيز الصندوق على مصالح المستثمرين ورؤوس الأموال، مع تجاهل الجانب الاجتماعي والسياسي وما يرتبط به من مساواة وعدالة وديمقراطية وحريات وحكم رشيد، بالإضافة إلى تجاهل المواطنين الذين تدمرهم سياسات الصندوق، وهذا المنهج يؤدي في النهاية إلى فشل الدول التي تتحصل على قروض الصندوق.
وتضم قائمة الضحايا كل الدول التي تعاملت مع صندوق النقد تقريبًا، وفتحت بابها لسياساته النيوليبرالية، ومنها دول جنوب شرق آسيا مثل تايلاند وإندونيسيا، التي نصحها صندوق النقد بتحرير أسواقها المالية للاستفادة من رؤوس الأموال الخارجية وهو ما أدى لانهيارها حين سحب المستثمرون أموالهم للخارج، وتضاعفت الكارثة بعد اقتراضها من صندوق النقد بشروط من بينها تعويم العملة، ونجت ماليزيا التي رفضت الانصياع لشروط الصندوق.
وفي إفريقيا عانت دول مثل غانا التي أزالت التعريفة الجمركية على وارداتها الغذائية طبقًا لتعليمات الصندوق، وكانت النتيجة إغراق أسواقها بالمنتجات الأوروبية وضرر بالغ أصاب المزارعين، كما رضخت زامبيا كذلك لشروط الصندوق وأزالت التعريفة على وارداتها من الملابس، التي كانت تعمل بها حوالي 140 شركة محلية للملابس، وخلال فترة قصيرة لم يتبقَّ من هذه الشركات المحلية سوى 8 شركات فقط.
تضم القائمة أيضًا معظم دول أمريكا اللاتينية، بدءًا من تشيلي مع انقلاب حكومة بينوشيه، المدعوم أمريكيًا، ثم المكسيك التي أعلنت إفلاسها عام 1982 بعد أن طبقت تعليمات الصندوق، والأزمات الحادة في الأرجنتين التي انهارت بعدما استجابت لتعليمات الصندوق بتعويم عملتها، وكوستاريكا والبرازيل وفنزويلا وبيرو، وقد أدت سياسات صندوق النقد والبنك الدوليين إلى دخول أمريكا اللاتينية في فترة ركود وانهيار اقتصادي عرفت باسم «العقد الضائع» الذي امتد من 1980 إلى 1989.
ومع أن البنك قد عدَّل نصائحه للدول لتتخذ سياسات ذات طابع كينزي يشجع الحكومات على التدخل في الأسواق، إثر الأزمة المالية عام 2008، لكنه سرعان ما عاد إلى نصائحه وشروطه النيوليبرالية مرة أخرى، مشددًا على تقليص النفقات الحكومية وخصخصة القطاع العام، وتحرير الأسواق وفتحها على مصراعيها للاستثمار الأجنبي، وتعويم العملة الوطنية وتخفيض قيمتها.
لنوقف هذا الجنون
لطالما اشتكت الدول النامية من إجراءات الصندوق المجحفة، ويوجه المفكرون اليساريون هجومًا عنيفًا على سياسات صندوق النقد، مثل الأمريكي نعوم تشومسكي (Noam Chomsky)، الذي وصف الصندوق بأنه ما هو إلا فرع من وزارة المالية الأمريكية، وأداة الولايات المتحدة لاحتلال الدول اقتصاديًا بدلاً من احتلالها عسكريًا.
كما تعرض الصندوق لانتقادات مسؤولين وخبراء اقتصاديين سبق لهم العمل في المؤسسات الدولية الكبرى، أبرزهم جوزيف ستيغليتز (Joseph Stiglitz) النائب الأسبق للبنك الدولي والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، الذي رأى في كتابه «العولمة ومساوئها» (Globalization and Its Discontents)، أن القروض التي يقدمها صندوق النقد للدول النامية تضرها أكثر مما تفيدها.
مسؤولو الصندوق أكدوا أنهم ماضون في سياساتهم، ولن يغيروها.
لكن النقد الأهم جاء مؤخرًا من داخل صندوق النقد الدولي نفسه؛ ففي عدد يونيو 2016 من مجلة التمويل والتنمية التي يصدرها الصندوق، نُشر تقرير أعده ثلاثة من كبار الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي، رأوا فيه أن ثمة أشياء حققتها النيوليبرالية تستحق الاحتفاء، منها زيادة حجم التجارة العالمية الذي أسهم في إنقاذ الملايين من الأشخاص من الفقر، والاستثمارات الأجنبية المباشرة التي ساعدت في نقل التكنولوجيا والمعرفة إلى اقتصادات البلدان النامية، لكنهم أشاروا إلى أن الإجراءات النيوليبرالية مثل حرية حركة رؤوس الأموال عبر الحدود، والتقشف، أسهمت في إعاقة النمو، وكذلك في انعدام المساواة والعدالة، الذي أضر بدوره بمستوى النمو واستدامته.
ورغم هذه الانتقادات، إلا أن مسؤولي الصندوق أكدوا أنهم ماضون في سياساتهم، ولن يغيروها، وهو ما تجلى بشكل عملي في القرض الضخم الذي نالت مصر الموافقة عليه في 11 نوفمبر 2016، والبالغ قيمته 12 مليار دولار، بذات الشروط المدمرة من تعويم الجنيه وإلغاء الدعم وتقليص حصة العدالة الاجتماعية في الموازنة العامة وزيادة الضرائب، دون الإشارة إلى ضرورة القيام بإصلاحات ديمقراطية في دولة يسيطر عليها الجيش وتتقلص فيها مساحات الحرية يومًا بعد يوم. بل إن الصحف المعبرة عن الصوت النيوليبرالي مثل الإيكونوميست، سرعان ما أرسلت تحيتين للجنرال (الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي) لمجرد تنفيذه شروط البنك الدولي، مع أن الصحيفة نفسها كانت قد اتهمته منذ 3 أشهر فحسب بـتدمير مصر!
ما جرى في مصر ويجري في العالم إثبات جديد بأن حماية المؤسسات المالية والشركات الكبرى والحفاظ على رؤوس أموال المستثمرين هو الجانب الأهم في النظريات النيوليبرالية ومنفذيها مثل صندوق النقد، رغم أن مقصدهم «نظريًا» هو حرية الاقتصاد وحرية الإنسان، إلا أن النتائج تشير بشكل متزايد إلى أنها تؤدي إلى حرمان آلاف الأشخاص من حقهم في التعليم والرعاية الصحية والوظائف المناسبة التي توفر لهم الحد الأدنى من الأجور.
هل يُعَد حرمان الناس من الحياة والحرية أثرًا جانبيًا مقبولاً لحماية رأس المال؟