تدلنا بصمات أصابعك على صحيفتك الجنائية، وعلى كل ما يخصك في سجلات الحكومة، أما البصمات الرقمية التي تتركها كلما أُعجِبت بصفحة على فيسبوك فتجعلك كتابًا مفتوحًا لمن يستطيع فكَّ شفرتها؛ إذ يعرف كل شيء عنك، من أكبر مخاوفك إلى طبيعة علاقاتك الأسرية، ويستطيع توجيهك باستخدام هذه المعلومات نحو اختياراته؛ مثل التصويت لمرشح بعينه وكأنك منوَّم مغناطيسيًّا.
هذا ما فعلته حملة دونالد ترامب بالفعل باستخدام علم «القياس النفسي» (سايكوميتريكس - Psychometrics)، لكن قبل أن نبدأ هذه الحكاية، دعونا نتعرف أولًا إلى هذا العلم وعلاقته بفيسبوك.
5 أسئلة لتحليل شخصيتك
معرفة الطبائع الإنسانية هو موضوع علم النفس الأساسي، لكنه هوس استثنائي للمهتمين منهم بفرع القياس النفسي، الذي يهتم حصرًا بدراسة المعرفة والقدرات والصفات والسلوكيات الإنسانية، مع التشديد على القياس الكَمِّي الدقيق للفروق الفردية بين شخص وآخر.
عرض موقع (Motherboard) التطورات التي لحقت بهذا الفرع الشيِّق من علم النفس، والوثبات التي حققها جرَّاء ظهور مواقع التواصل الاجتماعي و«البيانات الضخمة» (Big Data).
بدأ فريقان من علماء النفس مشروعًا بحثيًّا عام 1980 هدفه الإحاطة بالسمات الشخصية للأفراد، عن طريق درجات يسجلونها بإجابات أسئلة من خمسة أنواع لقياس خمس سمات شخصية أساسية. عُرف هذا الاختبار باسم «أوشن» (OCEAN) أو «بيغ فايف» (Big Five)، والسمات التي يقيسها هي:
- الانفتاح؛ أو مدى تقبلك للتجارب الجديدة.
- الضمير؛ أو إلى أي درجة أنتَ مثالي؟
- التوافق؛ أو مدى تفهمك للآخرين وتعاونك معهم
- الاضطراب: هل من السهل إثارة غضبك؟
- الاجتماع: إلى أي حدٍّ أنت اجتماعي؟
أصبحت هذه الأسئلة الخمسة وما يتفرع عنها نموذجًا متفقًا عليه للقياس النفسي للأفراد؛ يستطيع العلماء عن طريقه تحديد مخاوف كل فرد واحتياجاته وسلوكه، لكن وقفت أمام الباحثين عقبة واحدة؛ هي حاجتهم لعينة هائلة الحجم من الأشخاص إذا أرادوا إثبات فعَّالية مقياسهم ودقته، وكان جَمْعُ بيانات بهذه الكمية مستحيلًا، حتى ظهر فيسبوك و«البيانات الضخمة».
ما البيانات الضخمة؟
تترك أبسط أنشطة حياتنا أهمية آثارًا رقمية؛ فالملابس التي نشتريها باستخدام كروت الائتمان، والوظائف التي نبحث عنها عن طريق غوغل، والفنانون الذين نُسجل إعجابنا بهم على فيسبوك، والأماكن التي نذهب للاستجمام فيها بصحبة هاتفنا الجوال وحده؛ كلها تترك أثرًا في مكان ما على الإنترنت، وعلم «البيانات الضخمة» هو علم اقتفاء هذه الآثار.
تقبع البيانات الضخمة إذًا في انتظار الشخص القادر على تحليلها واستنباط المعلومات منها، وهو ما أدى إلى ثورة في علم القياس النفسي فور ظهور الشخص المناسب.
اعرف شخصيتك.. صدقًا هذه المرة
كان «ميشال كوسينسكي» طالب علم نفس عاديًّا حتى التحق بـمركز القياس النفسي في جامعة «كامبريدج»، حيث أتيحت له فرصة لتغيير مجريات الأمور في مجاله. أحدث «كوسينسكي» طفرةً هائلة بمساعدة زميله «ديفيد ستِلويل» (David Stillwell)، عندما أطلقا تطبيقًا بسيطًا على فيسبوك عام 2008 يتيح لمستخدميه فهم شخصياتهم عن طريق استمارة قياس نفسي تتبع منهج «بيغ فايف».
لم يتوقع الباحثان في البداية أن يستعمل التطبيق أحد غير زملائهم، لكنهم فوجئوا به ينتشر بسرعة، ويستخدمه ملايين على فيسبوك. بهذا، أصبح قدر هائل من البيانات الشخصية لمستخدمي فيسبوك متوفرًا بين أيدي «كوسينسكي» فجأة، ولم يتردد في استثمار هذه البيانات.
بدأ «كوسينسي» التجريب في اتجاه جديد. كان التطبيق قادرًا على الوصول إلى الحسابات الشخصية لمستخدميه على فيسبوك، فماذا لو كانت الصفحات التي يُعجَبون بها قادرة على التنبؤ بنتائجهم في اختبار القياس النفسي؟ طوَّر الرجل التطبيق ليربط بين نتائج الاختبار، أي السمات النفسية للأفراد، وبين الصفحات التي يُعجَبون بها على فيسبوك؛ وكانت النتائج مذهلة.
اقرأ أيضًا: كيف يمكن للإنترنت أن يُحدث ثورة حقيقية في حياتنا؟
أعرفك على فيسبوك، أعرفك على حقيقتك
يتوقع التطبيق سماتك النفسية عن طريق الصفحات التي تتابعها.
لا يرتوي العلماء أبدًا من المعرفة، ولهذا السبب لم يكن الانتشار الذي حققه التطبيق كافيًا لـ«كوسينسكي» ولزميله. أراد الباحثان مزيدًا من الدقة، فأطلقا اختبارات جديدة وقارنا نتائجها ببيانات المشتركين التي وقعت بين أيديهم؛ كمحال سكنهم وأعمارهم ونوعهم الاجتماعي.
تمكن «كوسينسكي» و«ستِلويل» نتيجةً لذلك من ربط سلوك الأفراد في الواقع بسلوكهم على فيسبوك والعكس، وأصبح من الممكن معرفة طرف المعادلة المجهول في حضور الطرف الآخر.
توصل الباحثان مثلًا إلى أن الإعجاب بصفحة مستحضرات «ماك» (MAC Cosmetics) للتجميل مؤشر على المثلية الجنسية؛ ويعني هذا أن مثليي الجنس يميلون للإعجاب بهذه الصفحة أكثر قليلًا من مغايري الجنس (الذين يميلون إلى الجنس المختلف)، كما كان الإعجاب بفرقة الهيب هوب الأمريكية «وو تانغ كلان» (Wu-Tang Clan) مؤشرًا بارزًا على المغايَرة الجنسية، وكان معجبو ليدي غاغا أكثر انفتاحًا في المتوسط من محبِّي صفحة الفلسفة.
أصبح التطبيق قادرًا بعد فترة بسيطة على توقُّع السمات النفسية للأفراد، لا باستخدام إجاباتهم على الاختبار النفسي التقليدي؛ وإنما بالنظر في الصفحات التي يتابعونها فقط. كان النجاح هائلًا؛ فاستطاع التطبيق توقُّع لون البشرة والميل الجنسي والحزب السياسي ودرجة التديُّن ومستوى الذكاء لكل فرد، عن طريق تحليل نحو 68 صفحة فقط يتابعها.
يكفي التطبيق النظر في أقل من 70 صفحة إذًا ليعرف عنك أكثر مما يعرف أصدقاؤك، و150 صفحة ليعرف أكثر مما يعرف والداك، و300 صفحة ليعرف أكثر مما يعرف شريك حياتك. وإذا زاد العدد على 300 صفحة، فربما عرف التطبيق عنك أكثر مما تعرفه عن نفسك.
تستطيع تجريب «قارئة فنجان العصر الحديث» وخوض التجربة بنفسك على موقع التطبيق التابع لجامعة «كامبريدج». وإن كان البعض يتحجج في رفضه لنتائج تجربة نفسية معينة بقلة عدد المشاركين فيها، فهل يستطيع أحد التشكيك في تجربة خاضها ملايين البشر من أعراق مختلفة؟
قد يهمك أيضًا: خبير سابق في غوغل يرصد كواليس هوسنا بوسائل التواصل الاجتماعي
ماذا لو وقعت بياناتك في الأيدي الخاطئة؟
تلقى «كوسينسكي» عرضًا سخيًّا للعمل مع شركة (SCL)، التي تتولى الدعاية لمرشحي الانتخابات عن طريق استهداف الناخبين وفق سماتهم النفسية الفردية. تُسوِّق الشركة المرشح المتعاقد معها باستخدام إعلانات مصممة خِصِّيصًا للتأثير في الأشخاص حسب شخصياتهم، وموجَّهة لاستفزاز رد فعل بعينه.
رفض «كوسينسكي» العرض، وحذَّر من أن هذه الإستراتيجية التسويقية قد تمثل خطرًا على سعادة الأفراد وحرياتهم. ورغم الفائدة الهائلة التي عادت على مجال القياس النفسي بسبب تطبيق «كوسينسكي»، أصبح واضحًا أن إساءة استخدام فكرته سيسلب الناس حرية الإرادة؛ لأنك لو عرفت ميول الأشخاص وسلوكهم ونقاط ضعفهم، ستتمكن من التأثير في قراراتهم بسهولة.
حمَّل أعضاء حملة ترامب تطبيقًا يُعلِمهم بتوجهات وطباع سكان المنازل التي يزورونها.
تعاقد ترامب مع شركة (Cambridge Analytica) التابعة لـ(SCL)، التي نجحت في محاكاة نموذج «كوسينسكي» بعد أن سرب لهم أحد زملائه التطبيق. لجأت الشركة للتسويق باستهداف السمات النفسية في حملة ترامب الانتخابية؛ فأصبحت تخاطب كل شخص بلغته لكسب المزيد من الناخبين.
أصدرت حملة ترامب الإلكترونية 175 ألف منشور دعائي مختلف الصياغة والأسلوب، واختبرت فاعليتها بمتابعة تأثيرها في فئات الناس المتباينين نفسيًّا على فيسبوك، يوم المناظرة الثالثة بين ترامب وهيلاري كلينتون.
استهدفت الحملة كارهي الأقليات والمهاجرين ومؤيدي العنف بتصريحات ترامب العدائية فقط، أما الأمريكيون السود المضطهَدون فأظهرت لهم تصريحًا لكلينتون شبَّهتهم فيه بالحيوانات المفترسة.
حمَّل أعضاء حملة ترامب تطبيقًا على هواتفهم يُعلِمهم بالتوجهات السياسية والطباع الشخصية لسكان المنازل التي يزورونها، واستخدمت الحملة هذه البيانات قبل طرق أبواب هؤلاء السكان لمعرفة الطريقة المُثلَى لمخاطبة كل فرد منهم على حدة.
رغم أن بيانات القياس النفسي التي عكف العلماء طويلًا على تطويرها لم يُقصد منها في الأصل خدمة رجال السياسة، فإنه من المتوقع استخدام الطريقة ذاتها في دول أخرى، خصوصًا بعد النجاح الذي حازه ترامب بفضلها. إنها إمكانات جديدة وهائلة، لن يتركها السَّاسة تضيع من أيديهم بسهولة.