في السادس من مارس 2017، أعادت الكويت جنسيتها إلى معارضين لسياسات الحكومة، بعد أن سحبتها في عام 2014 بتهم التزوير وازدواجية الجنسية والإضرار بالمصالح العليا للبلاد. وقبل ذلك، قضت البحرين بسجن ثلاثة من المعارضين 10 سنوات وإسقاط جنسياتهم، لإدانتهم بالتخطيط لمهاجمة عناصر الشرطة، بعد أن أسقطت الجنسية عن 72 مواطنًا بدعوى تنفيذ أفعال تضر بمصلحة المملكة.
وخارج العالم العربي، أعلن فرانسوا هولاند الرئيس الفرنسي، بعد ثلاثة أيام من هجمات باريس في 13 نوفمبر و23 ديسمبر 2016، أن بلاده تراجع مشروع تعديل دستوري بإدراج حالة الطوارئ في الدستور، وإسقاط الجنسية عن الأفراد الذين يحملون جنسيات مزدوجة ممَّن يثبت ارتباطهم بالإرهاب، بمن فيهم أولئك الذين وُلدوا في فرنسا.
أما في تركيا، فألقى الرئيس رجب طيب إردوغان خطابًا أمام محامين في أنقرة عام 2016، دعا فيه إلى سحب جنسيات مناصري حزب العمال الكردستاني، ووصفهم بأنهم «إرهابيون لا يستحقون أن يكونوا مواطنين أتراكًا».
من أين جاءت فكرة الجنسية؟
مع نشوء الدولة ظهرت فكرة الجنسية، وهي الإثبات القانوني للانتماء إلى الدولة.
يقول الدكتور أحمد الدقن، أستاذ الإدارة العامة المصري، إن أفلاطون يرى أن الدولة نشأت بشكل مصطنَع نتيجة الحاجة إلى سدِّ احتياجات الأفراد وتقسيم العمل لمواجهة الأعباء الاقتصادية.
وحسب أفلاطون، اكتشف الإنسان أنه لا يستطيع الاستقلال والانفراد بإنتاج كل ما يتطلبه من احتياجات، وأن لكل فرد استعدادًا خاصًّا لنوع ما من الأعمال، لذلك آثر أن يتخصص في ما يمكنه إتقانه من عمل.
وحين استطاع مواطنو المدينة الأوائل كفاية حاجاتهم الضرورية، اتصلوا بمواطني المدن الأخرى عن طريق التجار ليتبادلوا معهم منتجاتهم، فتأسست دولة المدينة لتنظِّم الاقتصاد الداخلي ثم تشارك في نظام الاقتصاد الدولي، ومن هنا كان واجبًا وجود إدارة حكومية تدير هذا الاقتصاد وتوجهه، لتسيير الحياة الطبيعية لسكان البلد والوفاء باحتياجاتهم الضرورية.
ومع نشوء الدولة ظهرت فكرة الجنسية، وهي الإثبات القانوني للانتماء إلى الدولة، فنتج عن هذه الرابطة القانونية حقوق وواجبات يقدمها كلٌّ من الفرد والدولة.
تنظِّم الدول من خلال قوانينها أساس منح الجنسية، إما على أساس رابطة الدم (الأب أو الأم أو كلاهما)، وإما على أساس رابطة الإقليم (الولادة داخل الدولة)، وإما على الأساسين في بعض الدول، ويتبنى كثير من البلاد الغربية رابطة المكان لمنح الجنسية بسبب خلفية ثقافية أساسها الزمن الإقطاعي، الذي كان يُولَد فيه أبناء العبيد في مقاطعات أسيادهم فيصبحون ملكًا لهم بسبب ولادتهم على أراضيهم، حتى تطورت الفكرة وتحولت إلى الجنسية.
اقرأ أيضًا: كيف تعني «الوطنية» كُره الآخَر؟
يقول الدكتور محمد ثامر، المتخصص في القانون الدولي، إن وِحدة الدين والمعتقَد كان لها دور أيضًا في منح الجنسية وعدم منحها، وكانت هذه الأُسُس في منح الجنسية هي المعمول بها في المَلَكيات الأوروبية القديمة، ففي فرنسا مثلًا كان اعتناق المسيحية الكاثوليكية وحده يُضفِي الصفة الوطنية على اليهود والبروتستانت، غير أن هذه الأفكار تغيرت بعد الثورة الفرنسية.
مَن يتحكم في جنسية المواطن؟
تمنح الحكومات، كممثل سياسي للدولة، الجنسية إلى المواطنين بصفتها جهة حكم، وتصنف قوانين بعض الدول العربية، مثل الكويت والعراق وليبيا والإمارات وعدد من البلاد التي تستقي دساتيرها من القانون الفرنسي، مسألة الجنسية على أنها «أعمال سيادية».
وتضع الفلسفة الفرنسية التقليدية للقانون «الأعمال السيادية»، وهي أعمال إدارية، خارج ولاية القضاء، فلا يجوز للمحاكم أن تنظرها أو تلغيها، ممَّا يُعطِي مساحة مطلقة للحكومة في هذه الأعمال، بحُجَّة أنها تمسُّ سيادة البلاد الخارجية والداخلية.
ويذكر الدكتور في القانون الجزائري، مقتي بن عمار، أن فكرة أعمال السيادة بدأت في الظهور لأول مرة في فرنسا في ظل الملكية (1830-1848).
ويشير بن عمار إلى أن أول حُكم طبَّق هذه الفكرة هو المجلس الفرنسي في مايو 1822، ثم تطورت إلى أن أصبحت تشمل عدة ميادين، موضحًا أن كثيرًا من خبراء القانون يرون أن فكرة أعمال السيادة كانت مجرد حيلة ابتدعها القضاء في فرنسا لتجنب التصادم مع السُّلطة الحاكمة، بخاصة في المرحلة التي كان فيها مجلس الدولة تابعًا للملك ومجرد هيئة استشارية له.
لا يحق للفرد التقاضي للحصول على حقه بالجنسية ولا الاحتجاج على سحبها منه.
ويذهب كثير من فقهاء القانون العربي إلى أن منح وسحب الجنسية قرار إداري، ويجب بالتالي أن يخضع للقضاء الإداري في الدولة للتحقق من موافقته لصحيح القانون، فالجنسية، كما يرى هؤلاء، ليست جزءًا من السياسة العليا في البلاد لتُستبعد من المراقبة القضائية للسلطة التنفيذية.
وسبق للمحكمة الدستورية في مصر أن حكمت عام 1997 بأن الدولة حينما تسنُّ تشريعًا بتنظيم الجنسية، يعرِّف ماهيَّتها ويحدِّد شرائطها ويرسم الإجراءات اللازمة لاتباعها والحصول عليها، وكذلك حين تصدر الحكومة قرارات إدارية تنفيذًا لهذا التشريع، فإن كل ذلك يعتبر من أعمال الحكومة العادية وليس من الأعمال المتعلقة بالسياسة العليا للدولة.
أما في فرنسا، الدولة التي استحدثت فكرة «الأعمال السيادية»، فيعتبر قانونها أن الجنسية من اختصاصات القضاء الإداري بالفعل، لكن بعض التشريعات العربية التي استقت قواعدها من القانون الفرنسي القديم لا تزال كما هي، ومِن ثَمَّ لا يحق لمواطنيها التقاضي للحصول على حقهم في الجنسية، ولا الاحتجاج على سحبها منهم.
ويجري على مسألة السحب ما يجري على المنح، فعديد من الأفراد تقف حياتهم عالقةً اليوم بسبب امتناع الدولة عن منحهم الجنسية، وبعضهم يبقى من عديمي الجنسية كما في الخليج (البدون الكويتيون)، والبعض الآخر يصبح كذلك بعد سحب جنسيته، فلا يعود له انتماء قانوني إلى أي دولة.
قد يهمك أيضًا: ما هي مشكلة الوافدين في الكويت؟
هل يصح العقاب بسحب الجنسية؟
«يردد كثيرون أن موضوع الجنسية شأن سيادي، وهي طريقة مهذبة للقول إن الوجود القانوني للفرد مرهون بمزاج الحكومة، فهي المانحة إذا انتشت، وهي المانعة إذا استطارت».
‒ الدكتور فهد راشد المطيري، أستاذ الفلسفة واللسانيات الكويتي
الجنسية حق مكتسَب للفرد بمجرد ولادته، وفقًا للأمم المتحدة.
يذهب مؤيدو العقاب بالجنسية إلى وجود حالات خطيرة وجرائم عظيمة يرتكبها بعض الأفراد في حق الدولة، ولا يجوز بعدها أن يحملوا رابطة الانتماء إلى هذه الدولة، من أهمها أعمال العنف والإرهاب وتعريض الدولة لخطر الحرب، ومثال ذلك المطالَبات بسحب جنسية التونسيين المنضمين إلى داعش.
ويطالب المؤيدون كذلك بسحب جنسية من يضر بمصالح الدولة أو يزعزع استقرارها، وحدث هذا مع الإعلامي المصري باسم يوسف إثر انتقاده الحكومة في برنامجه.
لكن هل اكتساب الجنسية ميزة ليكون سحبها عقابًا؟ هل الجنسية أداةُ مكافأةٍ ليصير الحرمان منها عقوبة؟
وَفْقًا للأم المتحدة، فإن الجنسية حق مكتسَب للفرد بمجرد ولادته، سواءً برابطة الدم أو المكان، يحصل عليها لمجرد كونه فردًا في الدولة، وهي حقه للتعامل مع الدولة والقانون الدولي، وحق الدولة للتعامل معه أمام مؤسساتها وأمام القانون الدولي.
ما الذي يمكن أن تجنيه الدولة من تجريد مواطن من جنسيته؟ ألا يسهِّل إبقاء جنسيته إجراءات محاكمته ومعاقبته جنائيًّا عبر القضاء، باعتباره شخصًا قانونيًّا في الدولة؟
وبالنظر إلى واقع ما يحصل من الحكومات العربية وكيفية استخدامها الجنسية عقوبةً للمواطنين، كيف يمكن ضمان حقيقة الاتهامات التي يُعاقَب الفرد عليها بسحب الجنسية ما دام القضاء لا ينظر فيها، وما دامت غير مقرَّرة غالبًا عقوبةً جنائية؟ ألا يفتح هذا الباب أمام الحكومات لردع معارضيها، كما حصل فعلًا في الكويت والبحرين وقطر؟
قد يعجبك أيضًا: 14 علامة تخبرك أنك تعيش في «مجتمع فاشي»
من المفترض أن القانون ما وُجد إلا لحماية الطرف الأضعف في كل معادلة، ومن هنا فإن ضمان حق الفرد في مواجهة الدولة هو الأهم، فهل يصح إنسانيًّا حرمان شخص من جنسيته وانسحاب ذلك على عائلته وأبنائه، فلا تعود العقوبة شخصية كما تقول القاعدة القانونية؟