على طول أحد أشهر شوارع العاصمة الفرنسية باريس «الشانزليزيه» المحاط بالأشجار من الجانبين، احتشد 106 آلاف مواطن فرنسي، من جميع الأعمار، موظفون وعاطلون، من كل الأطياف السياسية، ومن ليس لهم أي انتماء سياسي، جاءوا من جميع أنحاء البلاد دون قائد، يوم السبت 24 نوفمبر 2018، للتعبير عن غضبهم ضد قرار حكومة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، زيادة الضرائب على أسعار الوقود، بالرغم من إبلاغ السلطات الفرنسية المتظاهرين بالابتعاد عن المواقع الحساسة في العاصمة، التي صُنِّف ضمنها شارع الشانزليزيه، وكذلك ساحة الكونكورد القريبة من قصر الإليزيه، والالتزام بالأماكن المخصصة للتظاهر في ساحة شان دي مارس بالقرب من برج إيفل.
لم يكن العنف مخططًا له مسبقًا من جانب المتظاهرين، إلا أن الأحداث تصاعدت بسرعة بعد اشتباكات بين المحتجين الغاضبين الذين ارتدوا السترات الصفراء من ناحية، وقوات الشرطة الفرنسية التي نفد صبرها من ناحية أخرى.
اختار المتظاهرون السترات الصفراء رمزًا لحالة الطوارئ، إذ يوجد قانون فرنسي صدر عام 2008، يوجب على قائدي السيارات حمل سترات صفراء مميزة، وارتداءها عند خروج السيارة عن الطريق في حالة الطوارئ.
اتخذ كلا الفريقين الأسلحة الدفاعية المتوفرة لديهما: أصحاب السترات الصفراء ألقوا حجارة رصيف متكسرة، وأشعلوا الحواجز المنتشرة في شوارع باريس التي تحول دون الوصول إلى شارع الشانزليزيه. في المقابل، ولإخلاء الطريق، لجأت الشرطة إلى إلقاء الغاز المسيل للدموع ورذاذ الفلفل ومدافع المياه واستخدام الجرافات.
استمر الكر والفر طوال اليوم بين الفريقين، وكلما تقدمت قوات الشرطة، أعاق المتظاهرون حركتها ببناء حواجز معدنية من أعمال الطرق ومواقع البناء وصناديق القمامة، وأي شيء يجدونه. أسفرت المواجهات عن 19 جريح، من بينهم أربعة من قوات الشرطة، وألقي القبض على 130 متظاهرًا، منهم 42 من باريس. كانت رسالة المتظاهرين واضحة، وهي أن الرئيس ماكرون لا بد من أن يسمع صوتهم.
لم تكن احتجاجات أصحاب السترات الصفراء والاشتباكات مع قوات الشرطة الأولى لنفس السبب. فقد نزل أكثر من 280 ألف متظاهر في أكثر من ألفي موقع، في جميع أنحاء البلاد، في الأسبوع الذي سبقه، يوم السبت 17 نوفمبر 2018، تلبية لدعوات على مواقع التواصل تهدف إلى غلق الطرق الرئيسية في العاصمة لجذب انتباه الحكومة. نتج عن المواجهات وفاة مواطنين، وجرح أكثر من 600 آخرين، ولم يسمع الرئيس ماكرون صوتهم.
ماكرون يواجه المتظاهرين
أدان الرئيس الفرنسي ماكرون اشتباكات المتظاهرين مع المواطنين ورجال الشرطة، واعدًا بالتصدي للعنف في البلاد، مؤكدًا أنه لن يرضخ للمساومات إذا تحولت الاحتجاجات إلى فوضى، رافضًا التراجع عن خطته في زيادة ضريبة الوقود المقرر فرضها بداية من يناير المقبل.
من جانبه، أكد وزير الداخلية الفرنسي، «كريستوف كاستانير»، أن مسؤولية عنف المتظاهرين تقع على عاتق رئيسة حزب الجبهة الوطنية اليميني المتشدد، والمنافسة الشرسة للرئيس ماكرون في الانتخابات الفرنسية الأخيرة، «مارين لوبان»، لأنها حثت المواطنين على النزول إلى شارع الشانزلزيه ووضع الحواجز هناك، مشيرًا إلى أن المتظاهرين ما هم إلا «محرضون» يلبون نداء الزعيمة اليمينية لهدم مؤسسات الدولة.
في المقابل، وعلى الفور، اتهمت لوبان الوزير كاستانير بتشويه سمعة المتظاهرين، وبانتهاجه استراتيجية البلبلة للنيل منهم، خصوصًا أن شعبية أصحاب السترات الصفراء تسيطر على أكثر من 80% من الشعب الفرنسي، في مقابل نحو 26% نسبة شعبية الرئيس الفرنسي ماكرون، طبقًا لآخر استطلاع رأي أجرته شركة «BVA»، في نوفمبر 2018. ولم تنس أن تلقي المسؤولية عليه بشأن السماح لقلة منحرفة من مثيري الشغب للوصول إلى شارع الشانزليزيه.
جذور الأزمة
زيادة أسعار الوقود هي الحلقة الأحدث من مواجهات الريف والعاصمة، لأن قاطني الريف يرون استخدام السيارات وسيلة الوصول إلى أماكن عملهم.
في 2017، ارتفع سعر وقود الديزل، وهو النوع الأكثر استعمالًا في السيارات في فرنسا، بنسبة 23%، أي وصل سعره إلى 1.71 دولار للتر الواحد. على نفس الوتيرة، دأبت الحكومة الفرنسية خلال 2018، على زيادة الضريبة على وقود الديزل بنحو 7.6 سنت، وستستمر الضرائب في الزيادة التي تقدر بما يقرب من 6.5 سنت لوقود الديزل، و2.9 سنت للبنزين.
يرى الرئيس الفرنسي ماكرون في زيادة الضرائب على أسعار المحروقات ضرورة حتمية من أجل تقليل اعتماد فرنسا على الوقود الحفري، وتمويل استثمارات الطاقة المتجددة التي تعد أحد أهم الإصلاحات الاقتصادية التي ينادي بها.
زيادة أسعار الوقود ليست السبب الأوحد الذي أغضب بعض الفرنسيين، بل الحلقة الأحدث من المواجهات بين الريف والعاصمة، أو بين الفقراء والنخب، أو بين سائقي السيارات والمهتمين بالحفاظ على البيئة، لأن قاطني الريف لا يرون استخدام السيارات مظهرًا من الترف والرفاهية، بل الوسيلة الوحيدة للوصول إلى أماكن عملهم.
إضافة إلى الإجراءات التي اتخذها الرئيس ماكرون بشأن تقليل سرعة الحافلات، من 90 كيلومتر في الساعة إلى 80 كيلومتر في الساعة، بهدف تقليل حوادث السير، ما زاد من حالة الغضب لدى قاطني المناطق الريفية، وفُهِمَ باعتباره اعتداء على أسلوب حياتهم.
لم تكن السياسات البيئية والإصلاحات الاقتصادية التي ينادي بها الرئيس ماكرون الأولى من نوعها. فقد حاول الرئيس الفرنسي الأسبق «فرانسوا أولاند» إنجاحها، لكنه تراجع عن خطته في فرض ضريبة بيئية على الشاحنات نتيجة ضغوط تظاهرات مماثلة عام 2013.
السياسات البيئية التي كان ينادي بها الرئيس أولاند، ومن بعده ماكرون، لم تكن السبب الوحيد في زيادة أسعار الوقود، لكن الأسباب المباشرة في زيادة أسعار الوقود تتمثل في ارتفاع أسعار برميل النفط الخام من 60 دولارًا إلى 85 دولارًا للبرميل، نتيجة قرارات منظمة «أوبك» التي تهدف إلى زيادة العائدات من بيع النفط في السوق العالمية، وسياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الحمائية ضد الاتحاد الأوروبي، ومنع صادرات النفط من إيران.
قد يُفهم تراجع الرئيس الفرنسي الأسبق أولاند عن سياساته البيئية دليلًا على صعوبة تطبيقها، ويمكن فهم استقالة وزير البيئة في حكومة ماكرون «نيكولا أولو»، في أغسطس 2018، في نفس الإطار، إذ أعلن أن سياسات حكومته تجاه التغير المناخي غير كافية، والمجتمع الفرنسي لا يكترث أصلًا بمسألة الحفاظ على البيئة.
ففي مايو 2018، وبواسطة عريضة على الإنترنت، وقَّع أكثر من 900 ألف فرنسي، أكثرهم من الطبقة العاملة، اتخذوا من مواقع التواصل متنفسًا لهم، من أجل إيصال رسالتهم إلى حكومة ماكرون، يطالبون فيها الحكومة الفرنسية بتقليل أسعار الوقود، نتيجة السياسات البيئية.
لكن من الواضح أن ماكرون منذ انتخابه في مايو 2017، يتبع سياسة النفس الطويل بشأن السياسات البيئية، باعتباره مدافعًا عن قضايا البيئة، وقائدًا للمفاوضات حول اتفاق المناخ في باريس، وصاحب تمويل مبادرة «لنجعل كوكبنا عظيمًا مرة أخرى» للأبحاث البيئية، واجتمع برؤساء العالم حول قمة «كوكب واحد» للبدء في الانتقال الفوري نحو اقتصاد أكثر مراعاة للبيئة.
المحطة الأخيرة للاحتجاجات
إذا كان الرئيس ماكرون يتبع سياسة النفس الطويل، فمن الواضح أيضًا أن المتظاهرين يشعرون بأن سياساته هجوم على طريقة حياتهم، ولن يكونوا أقصر نفسًا منه، خصوصًا أن الاحتجاجات تحظى بالتنوع الاجتماعي من كل الفئات، محاطة بالتأييد الشعبي، والدعم الحزبي من كل الأطياف السياسية يمينها ويسارها.
يرى المتظاهرون أنه ليس لديهم القوة الشرائية اللازمة لدفع ضرائب سياسات بيئية لا يكترثون لأمرها من الأساس.
انحدرت شعبية الرئيس ماكرون الذي قدم نفسه على أساس الرجل الذي جاء من وسط شعبه ليحل همومه، وينهي الخلاف بين النخبة والشعب، ويعيد الثقة في الديمقراطية. لم يواجه ماكرون الاحتجاجات بإلقاء الغاز المسيل للدموع ورذاذ الفلفل ومدافع المياه فحسب، بل قدم حزمة مساعدات تقدر بقيمة 500 مليون يورو لمساعدة الأسر الفقيرة، لتلبية تكاليف الطاقة الثقيلة. وأكد رئيس وزراء حكومته «إدوار فيليب»، على تفهمه غضب شعبه، وحقهم في الاحتشاد، لكنه لن يتراجع عن السياسات البيئية التي أقرها رئيس البلاد.
يبدو أن الحكومة الفرنسية لم تكن مذعورة من الاحتجاجات المتصاعدة، ربما لأن التظاهرات تلقائية عفوية دون قائد، وبالتالي لن تصمد كثيرًا، لكن التنوع الاجتماعي الذي تحظى به تلك التظاهرات قد يثبت فعاليته لمعارضة الرئيس، وسيصمد كثيرًا.
ربما كانت الرؤية مختلفة لدى كل من الطبقة الحاكمة والشعب للاحتجاجات. ترى الطبقة الحاكمة أنها تناضل من أجل إنقاذ البيئة وتسعى جاهدة من أجل توفير المساعدات للأسر الفقيرة، في مقابل احتجاجات لتصفية حسابات سياسية من زعيمة اليمين التي فشلت في المنافسة خلال انتخابات الرئاسة الأخيرة، ومتظاهرون يستخدمون العنف من أجل النيل من صورة فرنسا على مستوى العالم.
يرى المتظاهرون أنه ليس لديهم القوة الشرائية اللازمة لدفع ضرائب سياسات بيئية لا يكترثون لأمرها من الأساس، في مقابل مواجهة قوات الشرطة بالغاز المسيل للدموع ورذاذ الفلفل ومدافع المياه للقضاء على احتجاجات يكفلها القانون للتعبير عن غضبهم، وفي مقابل حكومة تميز النخبة عن الطبقة العاملة.
في ظل تدهور شعبية ماكرون التي وصلت إلى ربع نسبة الشعب الفرنسي، يبدو أن الانتخابات الرئاسية القادمة لا تحمل أي مفاجآت أو توقعات عن ملامح الرئيس القادم، إلا إذا اتبع الرئيس الشاب خطى من سبقه، بالتراجع عن السياسات البيئية، في محاولة لامتصاص غضب الشارع الذي يود لو يستمع له رئيسه.