في أعقاب الحرب العالمية الثانية، اعتبر «جان موني»، الأب المؤسس لأوروبا الحديثة، أن الاتحاد الاقتصادي سيكون عاملًا مهمًّا للقضاء على الصراعات بين الدول الأوروبية. وفي 1951، أصبح موني المهندس المعماري الرئيسي للجماعة الأوروبية للفحم والصلب، وهي أهم خطوة اتُّخذت نحو «اتحاد أوروبي» على الإطلاق في ذلك الوقت.
كانت معاهدة روما عام 1957 هي الخطوة الرئيسية التالية نحو الاتحاد الأوروبي، إذ أنشأت فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ على إثرها «السوق الأوروبية المشتركة»، التي ألغت الرسوم الجمركية بين الأعضاء، مما أدى إلى سرعة النمو الاقتصادي. وفي العقود التي أعقبت ذلك، تسارع توسع أوروبا، خصوصًا مع التوقيع على «القانون الأوروبي الموحد» عام 1986، مما يسَّر تطوير سوق أوروبية داخلية، سمحت بالتبادل الحر لرأس المال والسلع والأشخاص.
سرعان ما أفضى التحرك نحو سوق مشتركة إلى الحاجة لتنسيق نقدي، فأَسَّست معاهدة «ماستريخت» عام 1992 وجود الاتحاد الأوروبي رسميًّا، وبدأ تداول عملة اليورو في يناير 2002، فانضمت 19 دولة من أصل 28 من أعضاء الاتحاد الأوروبي إلى العملة الجديدة، وستنضم الدول الأخرى، بما فيها بلغاريا والتشيك والمجر وبولندا ورومانيا، إلى اليورو بموجب المعاهدة، بينما مُنحت الدنمارك وبريطانيا إعفاء.
بموجب المعاهدة، يجب على الدول المنضمة إلى اليورو امتلاك خطط اقتصادية متوافقة مع الاتحاد، ويتطلب «ميثاق الاستقرار والنمو» لعام 1997 التزامًا ماليًّا مستمرًا، إذ يجب على الدول أن تضمن أن يقل تضخمال عن 1.5%، والعجز في الميزانية عن 3% من إجمالي الناتج المحلي، فيما يجب أن لا تصل نسبة الدين إلى 60%، ولتلبية هذه المعايير، اضطر عديد من البلدان إلى اعتماد إصلاحات صارمة في ميزانيتها.
من الناحية العملية، لم تطبَّق هذه المعايير بحذافيرها، مما مهَّد الطريق أمام مشاكل كثيرة. وكان حرص مسؤولي الاتحاد الأوروبي على محاولة توسيع نطاق ومنافسة منطقة اليورو سببًا في التغاضي عن كثير من التجاوزات، أصبحت تهدد مستقبل الاتحاد كله حاليًّا.
بالإحصائيات: أرقام مخيفة لأزمة الديون الأوروبية
بشكل عام، هناك خمس دول أوروبية تزيد ديونها عن إجمالي ناتجها المحلي كله، بالإضافة إلى 21 دولة تتعدى ديونها نسبة 60% المقررة في معاهدة «ماستريخت»، فالديون العامة لليونان مثلًا، وهي أعلى نسبة ديون في الاتحاد الأوروبي، تبلغ 177% من إجمالي الناتج المحلي، فيما تبلغ ديون إيطاليا والبرتغال 132% و129% من الناتج.
تعتبر أزمة الدين واحدة من أهم عوامل الاضطراب السياسي الأوروبي في العقد الحالي.
في عام 2015، لم يلتزم إلا عدد قليل من الدول بنسبة الدين المقررة، فسجلت إستونيا ولوكسمبورغ وبلغاريا أقل نسبة ديون، وبلغت ديون جميع هذه الحكومات أقل من 30% من إجمالي ناتجها المحلي، فيما شكَّلت ديون المملكة المتحدة مثلًا 89.1% من إجمالي ناتجها المحلي، وكانت ثامن أعلى نسبة في الاتحاد الأوروبي.
تُظهر زيادات الديون في جميع أنحاء القارة جهد الدول الدؤوب من أجل السيطرة على إنفاقها العام، وتمكنت تسعة بلدان أوروبية فقط من تخفيض ديونها كنسبة من إجمالي الناتج المحلي منذ عام 2012، بينما فشلت باقي الحكومات في إنجاز هذا الانخفاض. وهنا يجب ذكر أن ديون خمس دول كبيرة في الاتحاد الأوروبي، هي بريطانيا وإيطاليا وألمانيا وفرنسا وإسبانيا، تفوق تريليون يورو لكل دولة.
مع كل هذه الجهود، بلغ متوسط حجم الدين في منطقة اليورو 90.4% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أكثر كثيرًا من النسبة المقررة، وكانت أزمة الدين واحدة من أهم عوامل الاضطراب السياسي الأوروبي في العقد الحالي.
تبعات وتوترات الأزمة الأوروبية
كانت الآثار السياسية لأزمة الديون هائلة، فقد تعيَّن على الدول صاحبة نسب الدين المرتفعة تطبيق برامج التقشف، بخفض المصروفات الحكومية وتقليص الفجوة بين الإيرادات والنفقات، مما أدى إلى احتجاجات عامة كبيرة في اليونان وإسبانيا، وإزاحة الأحزاب الحاكمة في إيطاليا والبرتغال.
يمكن لبعض الدول المَدينة إعلان إفلاسها أو رفض أداء ديونها والانسحاب من الاتحاد، وهو ما قد يؤدي إلى صدمة عنيفة للاقتصاد.
على الصعيد الوطني، أدت الأزمة إلى توترات بين البلدان المستقرة اقتصاديًّا، مثل ألمانيا، وتلك ذات الديون المرتفعة مثل اليونان، فدفعت ألمانيا اليونان والدول الأخرى ذات الدين المرتفع إلى إصلاح ميزانياتها كشرط لتقديم المعونة، مما أدى إلى ارتفاع حدة التوترات داخل الاتحاد الأوروبي، وفي نهاية المطاف وافقت اليونان على خفض الإنفاق ورفع الضرائب.
بسبب هذا التوتر، هناك احتمال أن تتخلى دولة أوروبية أو أكثر عن اليورو. فمن ناحية، سيسمح ترك اليورو للدولة بأن تتبع سياستها المستقلة بدلًا من الخضوع إلى السياسة المشتركة للدول الـ19 التي تستخدم العملة، لكن من ناحية أخرى، سيكون هذا حدثًا خطيرًا على الاقتصاد العالمي والأسواق المالية. وقد أسهَم هذا القلق في ضعف دوري لليورو بالنسبة إلى العملات العالمية الرئيسية الأخرى خلال الفترات العنيفة للأزمة.
وجدت الدول المَدينة أنفسها أمام أكثر من حل، كلها يحمل تهديدًا للاستقرار الأوروبي، فهي قد تضغط من أجل إعادة هيكلة ديونها أو شطب جزء منها، لكن هذا يعني أن تتحمل دول الاتحاد الأوروبي الأقوى فاتورة الدين، الأمر الذي أدى إلى توتر عنيف بين الدول الصغيرة كاليونان، وألمانيا مثلًا. ومن جهة أخرى، يمكن لهذه الدول أن تُعلن إفلاسها أو ترفض أداء ديونها وتنسحب من منطقة اليورو، وهو ما قد يؤدي، بالإضافة إلى التوتر السياسي، إلى صدمة عنيفة للاقتصاد، ربما تطول العالم كله لو كانت هذه الديون كبيرة بما يكفي.
تجنبًا لهذا النوع من الاحتمالات، تلجأ الحكومات إلى الضغط من أجل برامج تقشف أكثر حدة، عادةً على حساب الاستقرار الداخلي للدول المَدينة. لكن إذا كانت الأطراف كلها تحاول الضغط من أجل أن يدفع شخص آخر فاتورة الأزمة، ربما يجدر بنا التساؤل عن المتسبب فيها، ومن يجب عليه في هذه الحالة تحمل المسؤولية.
من المتسبب في الأزمة؟
غالبًا ما يُلقى لوم أزمة الديون على الدول التي بالغت في الاقتراض، مستفيدةً من انخفاض أسعار الفائدة المتاحة لجميع دول أعضاء منطقة اليورو، غير أن كثيرين يشيرون إلى عدم موضوعية لَوْم الحكومات المثقلة بالديون على وضعها، لأن البلدان التي تعاني من عجز كبير «لم تبالغ كلها في الاقتراض».
يُرجع آخرون السبب إلى عملة اليورو نفسها، ويدَّعون أن فكرة العملة الموحدة القادرة على تلبية احتياجات 19 كيانًا اقتصاديًّا مختلفًا كانت معيبة في جوهرها، إذ يمكن عادةً للبنك المركزي لكل دولة أن يحجِّم تداول العملة لتشجيع أو كبح النمو، كوسيلة للتعامل مع الاضطرابات الاقتصادية، غير أن الدول التي تستخدم اليورو لم تمتلك هذا الخيار في كثير من الأحيان، بسبب السياسة المالية المشتركة.
ربما لو كان لكل دولة عملتها الوطنية لظلت اليونان تتحمل ديونًا ضخمة، لكن دون أن تكون في وضع يسمح لها بإسقاط بقية أوروبا معها. وربما لو كانت الدول الخمسة المثقلة بالديون لا تزال تستخدم عملاتها الوطنية، لكانت قادرة على إيجاد طريقها للخروج من الفوضى، عن طريق طرح إجراءات اقتصادية ومالية مناسبة. لكن الالتزام بمعاهدات منطقة اليورو يقلص الاحتمالات المتاحة أمام الجميع.
هل يبقى الاتحاد الأوروبي قويًّا بعد الأزمة؟
نتيجةً لهذه الأزمات والتوتر الناتج عنها، زادت شعبية الأحزاب المشككة في قوة الاتحاد الأوروبي، مثل «الجبهة الوطنية اليمينية» في فرنسا، وحزب «بوديموس» اليساري فى إسبانيا، فيما حاولت الدول الأقوى تدارك الوضع، فأطلق الاتحاد الأوروبي إصلاحات لتحسين الحكم وتنسيق السياسة الاقتصادية. وفي عام 2011، وافق زعماء الاتحاد على اتحاد مالي مدعوم من ألمانيا، لكنه يسمح للمفوضية الأوروبية في بروكسل بإملاء شروطها على الميزانيات الوطنية لدول الاتحاد.
منذ عام 2014، أدى الانتشار الواسع للمشككين في الاتحاد الأوروبي داخل أروقة البرلمان الأوروبي، بالإضافة إلى الوضع الجيوسياسي المتأزم مع روسيا، وزيادة التطرف الديني في الشرق الأوسط ونزوح اللاجئين السوريين إلى أوروبا، إلى مزيد من التململ من جانب الدول التي أزعجها الانصياع لقوانين الاتحاد الأوروبي الموحدة، مما دفع بعض الأعضاء إلى النظر في ما إذا كانت لا تزال ترغب في الاستمرار في الاتحاد أم لا، وأعقب ذلك بفترة تصويت بريطانيا لصالح الانسحاب.
في ظل هذا التوتر يظل السؤال مطروحًا: هل كان الخروج البريطاني مجرد مقدمة لانهيار اتحاد لم يكن ممكنًا له الاستمرار منذ البداية؟ أم أن الإجراءات التي تسعى للم شمل أوروبا قد تجد طريقها في النهاية، على الرغم من غياب التجانس الاقتصادي، إلى النجاح؟