بعد مرور ست سنوات على إضرام البوعزيزي النار في المنطقة العربية، وبعد أن أشعل انتحاره اعتراضًا على تدني ظروف المعيشة الثورات في البلدان العربية المجاورة، بقي عدد من الدول بمنأى عما وُصف فيما بعد بـ«الربيع العربي»؛ مثل جمهورية الجزائر، وسلطنة عُمان، والمملكة الأردنية، التي تمكنت الأنظمة الحاكمة فيها من الحفاظ على مواقعها باستخدام سياستَي التخويف من الماضي والتنازلات السياسية المؤقتة، رغم تشابه الأوضاع السياسية فيها مع باقي الدول التي عمَّت فيها الثورات.
الأوضاع في الجزائر اتخذت نمطًا هادئًا بعدما خاطب بوتفليقة شعبه تلفزيونيًّا، فيما اشتعل حولها العالم العربي.
الجزائر كانت نقطة انطلاق لتظاهرات الربيع العربي في ديسمبر 2010 بعد الجارة تونس، التي أجبر فيها الشباب العاطل عن العمل الرئيس آنذاك، زين العابدين بن علي، على إجراء تعديلات وزارية مهمتها الرئيسية وضع برنامج يضمن إيجاد فرص عمل للشباب.
وفي الوقت نفسه، خرج الجزائريون بدورهم محتجين على ارتفاع أسعار السلع الأساسية وأزمات الإسكان، فاندلعت الاشتباكات بين المتظاهرين والشرطة، ثم في يناير 2011 سقط قتيل في مواجهات أخرى بمنطقة عين الحجل في ولاية المسيلة شرقي الجزائر.
ومع تصاعد حدة الاحتجاجات ورقعتها في عدد من الولايات الجزائرية، حذر الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في خطاب مُتلفز في إبريل 2011 من تكرار مصير الحرب الأهلية التي عاشتها الجزائر في تسعينات القرن الماضي، ثم قدم تنازلات لاحتواء الأزمة؛ أهمها إلغاء قانون الطوارئ الذي فُرض على الجزائريين قبلها بـ19 عامًا، ومراجعة قانون الانتخابات الرئاسية، وتعليق الضرائب المفروضة على بعض السلع الغذائية للسيطرة على أسعارها المرتفعة.
الخطاب أظهر تباينًا في ردود فعل الجزائريين بين مؤيد ومعارض، إلا إن الأوضاع في الجزائر اتخذت نمطًا هادئًا بعده، فيما اشتعل حولها العالم العربي بثورات وحروب، كانت سوريا وليبيا أولى محطاتها.
قد يهمك أيضًا: ما الذي يحدد تعاطف العرب السياسي؟
الجزائر: «لقد دفعنا الثمن مسبقًا»
تبدو القصة في الجزائر أقدم من الربيع العربي، ففي عام 1988 خرج الجزائريون إلى الشارع متظاهرين ضد «جبهة التحرير الوطني»، الحزب الحاكم منذ الاستقلال عن فرنسا في 1962 والذي يمثله الرئيس الشاذلي بن جديد، محتجين على عدم تحديد فترات الرئاسة، وسوء الأداء الاقتصادي، وبسط يد الأجهزة الأمنية في المجتمع.
قمع الجيش الجزائري التظاهرات، ثم أعلن الرئيس الشاذلي انطلاق انتخابات برلمانية في 1991، فاز فيها التيار الإسلامي ممثلًا في «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» ضد «جبهة التحرير الوطني»، فألغى الجيش، بقيادة وزير الدفاع خالد نزار، الانتخابات بعد الجولة الأولى، وأجبر الشاذلي على الاستقالة من الرئاسة، ثم أعلن تأسيس المجلس الأعلى للدولة.
تولي المجلس إدارة شؤون البلاد، وتشكل من خمسة أعضاء يترأسهم محمد بوضياف، أحد القيادات التاريخية للثورة الجزائرية، ووزير الدفاع خالد نزار، ثم حُظرت الجبهة الإسلامية واعتُقل الآلاف من أعضائها.
وكرد فعل من الجبهة والفصائل الإسلامية التي أعلنت الانضمام لها في الجزائر ضد إجراءات الجيش، شُنَّت حملة مسلحة ضد الحكومة ومؤيديها، وأُنشئت تنظيمات مسلحة، لتبدأ حرب بين الدولة والجماعات الإسلامية استمرت 10 سنوات، أطلق الجزائريون عليها «العشريَّة السوداء».
لم يكن ما حدث في تونس ليتكرر في الجزائر؛ لأن «البوعزيزي» كان سيُرشَى بالمال كي لا يحرق نفسه.
امتدت الحرب بين الجيش والجماعات المسلحة إلى مدن أخرى، بعد أن شُكِّلت ميليشيات من المدنيين تابعة للجيش الجزائري، أدت إلى بدء الجماعات الإسلامية بذبح المدنيين الذين لا يحاربون الجيش، فحدثت العديد من الانشقاقات داخل التنظيمات.
وفي العام 1999، انتُخب عبد العزيز بوتفليقة رئيسًا جديدًا للبلاد، وانسحب عدد كبير من المسلحين بعد صدور قانون العفو عن المسلحين الذين لم يقترفوا أعمال قتل أو اغتصاب إذا ما قرروا العودة ونزع سلاحهم، الذي أصدره ضمن ميثاق السلم والمصالحة الوطنية، وحظي بالموافقة الشعبية في 16 سبتمبر 1999، ونزعت الجبهة الإسلامية للإنقاذ سلاحها بالكامل عام 2000، بعدها أُطلِق سراح مؤسسيها.
يقول الكاتب الجزائري كامل داوُد في مقالٍ له بصحيفة نيويورك تايمز، إن الجزائر عاشت الربيع العربي قبل اشتعاله في باقي البلدان العربية، واختبر الجزائريون عنف الجماعات الإسلامية في البلاد ذبحًا واغتصابًا في التسعينات، ولذلك احتاطوا في 2011 حتى لا يعود الوضع كما كان عليه: «لقد دفعنا الثمن مسبقًا»، هكذا يقول دواود.
ولكنه يؤكد مع ذلك أن الوضع في الجزائر لا يخلو من الفساد والتدني في مستوى المعيشة، فالجزائر لديها مخزون جيد من النفط والغاز الطبيعي، لكن الفساد يملأ أركانها.
يوضح الرجل أن مِثيولوجيا الربيع العربي، التي تتمثل في «بوعزيزي» العاطل الذي أزاح دكتاتورًا من السلطة بحرق نفسه، ما كانت لتحدث في الجزائر؛ لأن هذا «البوعزيزي» كان سيُرشى بالمال كي لا يحرق نفسه. ويشير إلى أن التظاهرات التي خرجت في قرى غرب الجزائر في 2011 لم تكن تطمع إلا في حلول اقتصادية وسكن لائق.
ويوضح خبراء اقتصاد أن مشروع قانون المالية لعام 2016 فرض الضرائب والرسوم، إلا إنه لم يعوض العجز الحاصل المقدرة قيمته بـ30 مليار دولار، محذرين من مستقبل غامض ينتظر الاقتصاد الجزائري في 2017.
ويبدو أن ما حال دون انضمام الجزائر لدائرة الربيع العربي كان سياسة التخويف من مصير «العشريَّة السوداء»، التي لم تغب عن ذاكرة الوعي الجزائري لقربها الزمني. هذا التخويف كان أقوى من فشل الإصلاحات الاقتصادية، الذي لم يتمكن من إشعال ثورة في الجزائر تطيح بنظام الحكم، على غرار ما حدث في بلدان عربية أخرى.
عُمان: «واقف على بابي سلطان زمانه»
استقرار اقتصادي وسياحة ناجحة وشراكة عسكرية مع الولايات المتحدة وبريطانيا، هو ما حافظت عليه سلطنة عُمان التي يحكمها السلطان قابوس بن سعيد منذ عام 1970، غير متأثر بما يحدث حوله في البلدان العربية من اضطرابات.
في 17 يناير 2011، انطلقت «المسيرة الخضراء» في العاصمة مسقط للمطالبة بتحسين الدخل وإنهاء ارتفاع أسعار السلع وتكاليف المعيشة. وتواصلت فاعليات مناهضة شملت الاعتصام والتظاهر في الميادين الرئيسية في العاصمة؛ ما دفع لاستخدام القوة من جانب قوات الأمن العُمانية.
قد يعجبك أيضًا: الوصفة الصينية لترويج القمع
وحفاظًا على مصالحها الاستراتيجية في الخليج، قررت دول مجلس التعاون تقديم 20 مليار دولار على مدى 10 سنوات لدعم عُمان والبحرين، اللتين شهدتا مظاهرات تأثرًا بما حدث في تونس ومصر، لكن المواجهات استمرت بين المتظاهرين وقوات الأمن وامتدت إلى مدينة صَلالة جنوبي البلاد.
رد السلطان قابوس بخطاب بدأه بـ«الحمدُ لله الذي وعد الشاكرين بمزيد من النعم»، ثم أعلن زيادة المعاشات وتعديلات وزارية وحكومة جديدة، وأصدر قرارات تمنح البرلمان صلاحيات تشريعية ورقابية، كما أقال عددًا من المسؤولين.
دع الثورة وتفضَّل خدمات اجتماعية
استقرار الجزائر وسلطنة عُمان يعود في الأساس إلى تقديم الأنظمة الحاكمة في البلدين تنازلات سياسية واقتصادية مؤقتة.
على الصعيد الدولي، تتميز السياسة الخارجية العمانية بالحياد، وقد أكد السلطان هذا النهج بتصريحه إن «عُمان ترفض أن تكون مصالحها وصداقتها حكرًا على أي بلد، ولسنا ملزمين أمام أي دولة».
وقد أعلنت الحكومة العمانية موازنة الدولة لعام 2017، التي أوضحت انخفاض العجز عن السنة الماضية، مع إبقائها على قيود الإنفاق التي أقرتها الحكومة لترشيد مصروفاتها، بعد تضرر البلاد من انخفاض أسعار النفط.
وبلغ العجز ثلاثة مليارات ريال في 2017، مقابل 8.57 مليار دولار في العام الذي سبقه. ومع احتمال استمرار انخفاض أسعار النفط على المدى القريب والمتوسط، تسعى عمان لإيجاد مصادر بديلة للدخل غير صناعة النفط، التي تشكل 83٪ من دخل السلطنة.
وفي العام الماضي، أوصى مجلس الشورى العماني بخفض معدلات الإنفاق على البرامج الرئيسية المتعلقة بالصحة والتعليم والخدمات الأساسية والبنية التحتية، بما في ذلك تخفيض 5% من إنتاج النفط والغاز ومشاريع التنمية والدفاع، بينما أعلنت وزارة المالية الإبقاء على مستويات الإنفاق الحكومي في مجالات التعليم والصحة والإسكان والتدريب؛ حتى لا تؤثر في حياة عامة الناس.
ويبدو أن استقرار الجزائر وسلطنة عُمان يعود في الأساس إلى تقديم الأنظمة الحاكمة في البلدين تنازلات سياسية واقتصادية مؤقتة، وعدم التمادي في البطش بالمتظاهرين؛ كما حدث في بلدان أخرى كتونس ومصر وسوريا واليمن، والتخويف من مصائر مشابهة عاشتها الدول فيما قبل؛ كمثال الجزائر، ثم الاعتماد على الإنفاق الجيد على البرامج الاجتماعية التي يشعر المواطن بنتائجها مباشرة؛ كما حدث في عُمان.
التزمت دول عربية أخرى، كادت الثورة تشتعل بها في 2011، بإجراءات مشابهة؛ مثل الأردن والكويت، من خلال قرارات اقتصادية وتنازلات سياسية مؤقتة؛ تتضمن إقالة الحكومات وتعديل بعض القوانين كما فعل السلطان قابوس في عُمان.
الأردن: الدنانير في وجه الثورة
حين خرج المواطنون الأردنيون في يناير 2011 في مسيرات احتجاجًا على تدني ظروف المعيشة وارتفاع الأسعار وغياب التوزيع العادل لفرص العمل، قدمت الحكومة الحل السريع للأزمة؛ إذ أعلنت زيادة رواتب الموظفين والمتقاعدين بمقدار 20 دينارًا (28 دولارًا) شهريًّا، بتكلفة بلغت 160 مليون دينار (225 مليون دولار)، بالإضافة إلى التعهد بعدم زيادة أسعار الكهرباء، واستمرار دعم اسطوانات الغاز والأعلاف وقروض المزارعين.
ولامتصاص أكبر قدر من الغضب في الشارع، أقال الملك عبد الله حكومة سمير الرفاعي، وكلف معروف البخيت بتشكيل حكومة جديدة، غير أن الاعتصامات استمرت أمام الهيئات الحكومية، مطالبة بإقالة حكومة البخيت.
ووصل عدد الاحتجاجات العمالية خلال الأشهر التسعة الأولى من العام 2011 إلى 607 احتجاجات؛ 481 منها جرت في النصف الأول من العام نفسه. وامتد الحراك الشعبي إلى مدينة الكرك جنوب العاصمة عَمَّان، وانضمت قوى سياسية وإسلامية له للمطالبة بإصلاحات جوهرية أكثر من مجرد تنازلات اقتصادية، تتمثل في تحقيق المزيد من الحريات الصحفية والحزبية، والإفراج عن المعتقلين السياسيين، وإنهاء فساد النقابات العمالية، وإسقاط الحكومة.
استجاب الملك عبد الله الثاني للمظاهرات بتشكيل لجنة لمراجعة نصوص الدستور، والنظر في أي تعديلات ملائمة لحاضر ومستقبل الأردن.
كانت المرحلة الفاصلة في الحراك الأردني حين قررت حركة «شباب 24 آذار»، التي شكلها شباب من مختلف التوجهات السياسية في الأردن وعدد من أعضاء النقابات العمالية ممن بدأوا الحراك الشعبي في يناير 2011، البدء في اعتصام مفتوح بميدان جمال عبد الناصر وسط العاصمة عمَّان، لحين تحقيق مطالب المتظاهرين.
وجاء رد قوات الدرك الأردنية بفض الاعتصام، ما تسبب في قتل شخص وإصابة العشرات، واعتُقل عدد كبير من المشاركين. واتهمت قوى الحراك الحكومة بارتكاب جرائم بحق الشعب الأردني وطالبت بإسقاطها، مؤكدة استمرار الاعتصام لحين تحقيق المطالب.
بعد فض الاعتصام، جاءت استجابة النظام الأردني بإعلان الملك عبد الله الثاني تشكيل لجنة ملكية لمراجعة نصوص الدستور، والنظر في أي تعديلات ملائمة لحاضر الأردن ومستقبله، وبعدها حذر الملك، في خطاب متلفز، الشعب الأردني من الانزلاق إلى الفوضى والفتن كما حدث في بلدان عربية مجاورة. وفي غضون ذلك، تواصل تغيير الحكومات في الأردن بعد حكومة البخيت، الذي لم يستمر أكثر من بضعة شهور؛ فتولى رئاسة الوزراء خلال الفترة من أكتوبر 2011 وحتى أكتوبر 2012 أربعة أشخاص.
اقرأ أيضًا: بين العدمية وحروب الهاردكور.. هنا ترقد أجيال الربيع العربي
بالإمكان ملاحظة انخفاض حدَّة الغضب الشعبي في البلاد مع احتدام الصراعات المسلحة في سوريا والعراق، والتطورات السياسية في مصر عقب عزل الإسلاميين من الحكم في 3 يوليو 2013، وتدفق اللاجئين السوريين والعراقيين إلى الأردن.
سمح هذا الهدوء التدريجي بتمرير قانون انتخابي مطلع عام 2016، لم يحظ برضا كل القوى السياسية، لكن على ما يبدو أن التحديات الأمنية التي تواجه البلاد في حربها ضد الإرهاب أدت لخفوت أصوات المعارضة، التي علت مطلع عام 2011.
ورغم أن المجتمعات في الجزائر وعُمان والأردن تفتقر أيضًا إلى النظام الديمقراطي، كباقي الدول التي اشتعلت فيها الثورات، فإن دوافع الحراك فيها وتعاطي أنظمتها الحاكمة مع الأزمة حالت دون انضمام البلدين لبؤرة الصراعات السياسية في المنطقة، وبفضل سياستَي التخويف والتنازلات المؤقتة، أصبحت تلك الدول استثناءات من الربيع العربي.