على مدار قرابة قرن من الزمان، هو عُمْر دولتها الحديثة، ربما لم يستطع أي سياسي في تركيا تحقيق ما أنجزه زعيمها التاريخي كمال أتاتورك، من حيث سلطته الفعلية على الدولة، بقدر ما فعل رجب طيب إردوغان الذي يرى بعضهم (مُحِقُّون في رأيي) أنه بالفعل قد يكون ذهب إلى أبعد مما ذهب إليه مؤسس الجمهورية.
16 عامًا، منذ نجاح «العدالة والتنمية» في حصد أغلبية مقاعد البرلمان، وتشكيل الحكومة للمرة الأولى في عام 2002، وحتى هذا التاريخ، وإردوغان وحزبه هما نجما السياسة التركية دون منازع. لم يخفق الرجل في محفل انتخابي أو تصويتي واحد، لكنه تحول في نظر كثيرين، خلال تلك الفترة، من نموذج قائد ديمقراطي محافظ ناجح إلى ديكتاتور.
تأسيس «العدالة والتنمية» والتوجه إلى العرب
تأسس «العدالة والتنمية» في عام 2001 على أيدي كوادر قررت الخروج من مظلة الأحزاب الإسلامية التقليدية بقيادة نجم الدين إربكان الذي طالما حوصر، إما بالقمع المباشر، وإما بالانقلابات العسكرية، وإما بالفوضى، وإما بالرفض على المستويين الشعبي والنخبوي.
فبعد عدد من المحاولات المتعثرة، استطاع الإسلاميون أخيرًا تأسيس حزب «الرفاه» عام 1983، والحفاظ عليه قائمًا لفترة طويلة نسبيًّا. خلال هذه الفترة، استطاع رجب طيب أردوغان، أحد كوادر الحزب الشابة، الفوز في الانتخابات البلدية، وتولي منصب «والي إسطنبول» في الفترة بين 1994 و1998، حقق خلالها شعبية كبيرة.
في 1996، نجح حزب «الرفاه» في التحالف مع حزب «الطريق القويم» في تكوين تحالف برلماني مكَّنهما من تشكيل الحكومة برئاسة نجم الدين إربكان. إلا أن الأمر لم يدم طويلًا، فسرعان ما تحرك الجيش التركي، وأجبر الزعيم الإسلامي على الاستقالة. بعدها بفترة قصيرة، قضت المحكمة الدستورية بحل الحزب بتهمة مخالفته مبادئ الدولة العلمانية، وألقي بعدد من رموزه، بينهم إردوغان، في السجن لفترة قصيرة. وبنهاية عام 1997، أسس إربكان حزبًا جديدًا هو حزب «الفضيلة» الذي تعرض بدوره للحل بعد نحو ثلاثة أعوام.
هنا كانت نقطة الافتراق. فبينما سعى إربكان مجددًا لتأسيس حزب آخر، «السعادة»، قرر عدد من كوادر تياره الشابة أن يسلكوا طريقًا مغايرًا، إذ قرروا، ربما لأسباب براغماتية في المقام الأول، الخروج من عباءة إربكان، وتأسيس «العدالة والتنمية».
الحالة التركية ليست فقط معقدة ومختلفة عن المقاربات العربية لها، لكنها أيضًا تتغير بسرعة.
سعى مؤسسو الحزب الجديد، وعلى رأسهم إردوغان، إلى تقديم صورة جديدة لحزبهم الذي حرصوا منذ البداية على وصفه بـ«الليبرالي المحافظ» وليس «الإسلامي». الحزب التوافقي الذي يطمح إلى جمع شتات المجتمع التركي وإصلاح الدولة. وفي ظل حالة الفوضى والانهيار الاقتصادي والتفكك الاجتماعي والجهوي في تركيا بنهاية تسعينيات القرن العشرين، أسدت الظروف خدمة كبيرة لشباب الحزب الصاعد ليصل بسهولة إلى السلطة بعد عام واحد فقط من تأسيسه.
كانت هذه المرة الأولى التي يستتب فيها حكم الإسلاميين (أو القادمين من خلفية إسلامية) في البلاد. وكان من الطبيعي أن ينظر الأتراك مجددًا إلى إخوة الأمس: العرب.
الشعوب العربية، من جهتها، تعاملت مع التقارب التركي بإيجابية شديدة. فالمجتمعات التي أرهقتها أعوام الفشل، ولم تحسم فيها قضايا الهوية، نظرت هي الأخرى بحنين إلى العثماني العائد مجددًا، فأصبح النموذج التركي حينها الإجابة السهلة عن: كيف نكون مسلمين وديمقراطيين في الوقت نفسه؟
إلا أن الأمر تطور على نحو متسارع مع انطلاق الثورات العربية في مطلع عام 2011، وما صاحبه من تجدد أحلام الإسلاميين بالوصول إلى الحكم، وإقامة الوحدة على أساس إسلامي.
الأزمة هنا تكمن في أن هذا التقارب الذي وصل أحيانا إلى تحالف صريح، ودعم مباشر، وأحيانًا أخرى إلى صراع مفتوح، جعل كلا الطرفين ينظران إلى بعضهما من منظورهما الخاص. فالعرب (إسلامييهم وعلمانييهم، يسارييهم وليبرالييهم) نظروا إلى الحالة التركية وتعقيداتها باعتبارها امتدادًا للوضع في البلدان العربية، والأتراك، لا سيما الإسلاميين، نظرًا إلى أنهم سعوا إلى التقارب في المقام الأول، فعلوا الأمر نفسه.
ما أود التركيز عليه أن الحالة التركية ليست فقط معقدة ومختلفة عن المقاربات العربية لها، لكنها أيضًا تتغير بسرعة، واختلفت كثيرًا منذ بداية تولي «العدالة والتنمية» السلطة، وحتى الانتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة التي أجريت هذا الشهر.
رحلة السلطة
تولى رجب طيب إردوغان منصب رئاسة الوزراء لثلاث فترات متتالية في الفترة بين 2003 و2014، باعتباره مرشح حزب «العدالة والتنمية» الذي استطاع حصد أكثر من 50% من مقاعد البرلمان خلال الفترة ذاتها. ونظرًا إلى أن لوائح الحزب وقوانينه الداخلية تنص على عدم ترشيح الشخص نفسه لأكثر من ثلاث ولايات، قرر إردوغان، في 2014، الترشح إلى منصب رئاسة الجمهورية الذي كان يشغله زميله في تأسيس الحزب عبد الله غُل.
بالفعل استطاع إردوغان حسم الانتخابات الرئاسية من الجولة الأولى بعد حصوله على نحو 52%، مقابل منافسيه «أكمل الدين إحسان أوغلو» (المدعوم حينها من حزبي الشعب الجمهوري والحركة القومية) و«صلاح الدين دميرطاش» (المدعوم حينها من حزب الشعوب الديمقراطي) بنسبتي 38.5% و10% على الترتيب.
وعلى الرغم من أن الدستور التركي حينها لم يكن يمنح رئيس الجمهورية كثيرًا من الصلاحيات التنفيذية التي تركزت معظمها في يد رئيس الحكومة، فإن الخطوة أكدت أن إردوغان ليس مستعدًّا للرحيل عن الواجهة.
أجريت تلك الانتخابات بعد نحو عام من اشتعال المظاهرات الاحتجاجية المعروفة بأحداث «جيزي بارك» التي بدأت في إسطنبول، وانتشرت في عدة مدن تركية. ورأى بعضهم حينها أن «العدالة والتنمية»، ممثَلًا في إردوغان، بدأ يكشر عن أنيابه، ولم يعد ذلك الحزب البراغماتي الهادئ الذي يسعى إلى الحفاظ على توازنات هشة بين مختلف الأطياف السياسية والاجتماعية.
ورغم أن هناك من يعتقد أن بوادر ذلك ظهرت مع انطلاق الثورات العربية في عام 2011، فإن الأمر كان أشد وضوحًا مع مظاهرات «جيزي». وربما كان في اختلاف اللهجة في التعليق على الأحداث بين خطاب إردوغان العنيف، وخطابات آخرين في الحزب، وعلى رأسهم رئيس الجمهورية حينها عبد الله غُل، الهادئ، دليلًا على ذلك.
فبينما أصر إردوغان على التعامل مع الموقف بالقوة، متَّهِمًا غالبية المتظاهرين بأنهم مدفوعون بأجندات داخلية وخارجية، صرح غول بأن التظاهر حق مشروع لجميع المواطنين، بل وأكد أن «الديمقراطية لا تنحصر في الانتخابات فقط».
بعد توليه الرئاسة، وبالتزامن مع تطور مجريات الحرب في سوريا، وصعود نجم داعش، وحصارها كوباني السورية، ذات الأغلبية الكردية، تصاعدت لهجة الزعيم التركي ضد معارضيه، لا سيما المعارضة الكردية التي كانت تطالب بتبني مقاربة أخرى إزاء ما يحدث على أراضي الجارة الجنوبية.
وبعد سلسلة من التفجيرات والأحداث الدموية والشد والجذب، وصل الأمر، في ما بعد، إلى غلق ملف المصالحة السياسية مع الأكراد تمامًا، ودخول عناصرهم المسلحة (العمال الكردستاني) في حرب مفتوحة ضد الجيش التركي.
المفارقة أن «العدالة والتنمية» هو الذي بذل الجهد الأكبر من أجل إتمام هذه المصالحة التي حظي الأكراد من خلالها بكثير من حقوقهم، وكان من المأمول أن تُنهي صراعًا مريرًا بينهم وبين الدولة التركية.
في تلك الأثناء، تواترت أخبار وشائعات حول نشوب خلافات داخل «العدالة والتنمية» بين إردوغان من جهة، ورموز كبار في الحزب، أبرزهم «بولانت أرينتش» وعبد الله غُل، من جهة أخرى.
إضافة إلى ذلك، تصاعدت وتيرة الخلاف بين إردوغان وجماعة فتح الله غولن، التي رغم إعلانها أنها جماعة صوفية واجتماعية، لا تشارك في العمل السياسي، فإن أنصارها كانوا يشكلون جزءًا من القاعدة الجماهيرية الداعمة للعدالة والتنمية وزعيمها.
في غمار كل ذلك، حدثت مفاجأتان عندما أجريت الانتخابات البرلمانية في يونيو 2015. تمثلت الأولى في استطاعة حزب «الشعوب» الديمقراطي، المدعوم من الأكراد، وصاحب الأجندة اليسارية، تجاوز عتبة الـ10% ليصبح أول حزب كردي يدخل البرلمان بنحو 80 نائبًا.
الزعيم التركي لم يزل حتى الآن من أشد الداعمين لفصائل المعارضة السورية، وإن كلفه الأمر الدخول في صراع محدود مع بلد بحجم روسيا وأهميتها.
أما المفاجأة الثانية، فكانت إخفاق «العدالة والتنمية»، للمرة الأولى منذ عام 2002، في الحصول على أكثر من 50% من مقاعد البرلمان، ما يعني أنه لن يستطيع تشكيل الحكومة وحيدًا دون الدخول في تحالف مع حزب آخر، وهو السيناريو الذي بدا أن «العدالة والتنمية» كاره له.
وصلت على إثر ذلك حدة الاستقطاب في السياسة التركية إلى أعلى مستوياتها، وتزايد تحريض الإعلام الرسمي ضد الأكراد، ولم تستطع الأحزاب الأربعة، الممثلة في البرلمان، تكوين تحالف يُمكِّنها من تشكيل الحكومة، لتعاد الانتخابات مجددًا في الأول من نوفمبر من العام نفسه (2015)، وينجح أردوغان وحزبه في حشد المؤيدين مرة أخرى، ليحصل «العدالة والتنمية» على النسبة اللازمة.
في المقابل، استطاع «الشعوب» الديمقراطي تجاوز العتبة مرة أخرى، لكن مع تقلص عدد المقاعد التي حصدها في المرة الأولى، من 80 إلى 40 مقعدًا.
حتى تلك اللحظة، أظن أن هناك دافعَيْن كانا يحكمان سلوك إردوغان السياسي داخليًّا وخارجيًّا: الدافع الأيديولوجي، ورغبة البقاء في السلطة.
الزعيم التركي لم يزل حتى الآن من أشد الداعمين لفصائل المعارضة السورية، وإن كلفه الأمر الدخول في صراع محدود مع بلد بحجم روسيا وأهميتها، وظل من أشد المتعاونين مع جماعة الإخوان المسلمين ودولة قطر، وأبقى على موقف مبدئي من حكم الجيش في مصر.
وعلى المستوى الداخلي، حافظ إردوغان على وتيرة ثابتة من إفساح المجال العام أمام طبقتين: عليا ومتوسطة محافظتين، مع توجيه اللوم دائمًا إلى المعارضة «العلمانية» في هذه المناسبة أو تلك.
على الرغم من ذلك، لا يمكننا في رأيي إغفال الدافع الثاني أيضًا، فقد كان بوسع الزعيم التركي أن يُخلي الساحة لكوادر أخرى وشخصيات من حزبه مع الحفاظ على دور توجيهي له من وراء الستار، وأظن أن هذا كان ممكنًا في لحظات لم يكن الاستقطاب السياسي والمجتمعي وصل فيها إلى ما وصل إليه عقب توليه الرئاسة.
لكن نقطة التحول الكبرى في مسيرة إردوغان تمثَّلت في المحاولة الانقلابية التي حدثت في منتصف يوليو عام 2016، والتي كادت تطيح به وبحزبه، وربما بالحياة السياسية في تركيا.
حينها أدرك إردوغان أن بقاءه في السلطة أمر لا يمكن المساومة عليه لأن ذلك ببساطة يعني المساومة على رقبته. لا يعني هذا بالطبع أن الدافعَيْن الآخرَيْن لم يعد لهما أهمية، ولكنهما تراجعا بشدة أمام العامل الجديد. فيمكن الآن التفاوض بشأن القيم السياسية التي حكمت ذلك الشاب النشيط القادم من خلفية إسلامية، ويشعر بظلم من المجتمع والدولة. الآن يمكننا الحديث عن «الديكتاتور».
التحول
هناك ثلاث نقاط أساسية تشير إلى تحول إردوغان:
- اللعب على ورقة الأكراد: يبدو أن انتخابات 2015 جعلت الزعيم التركي يدرك أهمية هذه الورقة، ففي أقل من خمسة أشهر، وهي الفترة بين الانتخابات البرلمانية في منتصف العام والانتخابات البرلمانية في آخره، نفس الفترة التي بدأ فيها إردوغان في حرب الأكراد، ارتفعت النسبة التي حصل عليها «العدالة والتنمية» من 41% إلى 49.5% بفارق يُقدَّر بنحو خمسة ملايين صوت. استمر إردوغان في استغلال الحساسية التاريخية والضغط على هذا الوتر، حتى وصل الأمر إلى أن تحالف مع حزب «الحركة القومية» اليميني المتشدد، شديد العداء للأكراد.
- الموقف من الأزمة السورية: إضافة إلى الحرب التي يخوضها الجيش التركي في مناطق الأكراد في شمال سوريا، فإن التقارب الأخير بين أنقرة وموسكو، وتخلِّي الأولى عن موقفها (المبدئي) بالإصرار على رحيل الأسد، يشيران إلى أن العامل الأيديولوجي لم يعد العامل الأهم.
- الموقف من أوروبا: إردوغان لم يهدد فقط بسحب طلب أنقرة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، بل استغل الأمر أيضًا للتملص من التزامات تركيا في ما يتعلق بحقوق الإنسان وحرية الصحافة، وتبنِّي خطاب شعبوي لتغذية الشعور القومي لدى الأتراك بأن هناك مؤامرة تحاك ضدهم. وهذا بالطبع لا يعني أن سلوك الدول الأوروبية تجاه إردوغان لا يخلو من الاستغلال السياسي والتصعيد المبالغ في حدته. لكن يمكن القول إن الطرفين مستفيدان بدرجة ما من تصعيد خطاباتهما إلى هذا الحد.
في هذا السياق، لم يكن غريبًا أن يدعو إردوغان إلى استفتاء شعبي على تغيير دستور تركيا ليتحول نظام الحكم فيها من النيابي إلى الرئاسي. وبعيدًا عن الجدل حول أي النظامين أكثر ديمقراطية وأفضل لإدارة الدولة، أظن أن الأمر في هذه الحالة يتعلق فقط بشخص إردوغان، وأظن أيضًا أن الأمر كان سيصبح عكسيًّا تمامًا إن كان النظام الأصلي رئاسيًّا، وقضى الزعيم التركي فترتيه. أرى أنه حينها كان سيدعو إلى استفتاء على التحول إلى نظام برلماني يقود فيه البلاد بصلاحيات كاملة.
على الرغم من ذلك، كان الاستفتاء مغامرة كبيرة. 51.4% فقط من المصوتين أيدوا التعديلات التي دعا إليها إردوغان، ومع خسارة مدن كبرى، مثل إسطنبول وأنقرة وإزمير وأنطاليا وأضنة. وبمرور التعديلات الدستورية، يُلغى منصب رئيس الوزراء، ويصبح رئيس الجمهورية مخوَّلًا بتعيين الوزراء والقضاة، وإدارة شؤون الدولة، عبر إصدار مراسيم تنفيذية، وقيادة القوات المسلحة، وإعلان الحرب.
من السهل ملاحظة أن الإقدام على خوض مغامرات صفرية يعد واحدًا من سمات إردوغان الشخصية التي صاحبته طوال مسيرته السياسية منذ تسعينيات القرن العشرين. لكن الرجل بدا وكأنه يلعب بالنار حرفيًّا منذ عام 2013.
فمن مظاهرات شعبية كبيرة ضده، وانتخابات رئاسية يحصل فيها بالكاد على 52%، مرورًا بانتخابات برلمانية يحصل فيها «العدالة والتنمية» على نسبة ضئيلة (41%) قبل أن تعاد الانتخابات بعد خمسة أشهر، ثم محاولة انقلاب تكاد تطيح به، واستفتاء يتجاوزه بشق الأنفس، حتى الانتخابات الأخيرة التي اضطر «العدالة والتنمية» أن يدخل في تحالف مع حزب قومي متشدد كي يحافظ على صدارتها.
انتخابات الأحد 25 يونيو 2018
بعد مرور التعديلات الدستورية في الاستفتاء الشعبي الذي أجري في أبريل 2017، كان من المقرر أن تُجرى الانتخابات البرلمانية والرئاسية في يوم واحد بتاريخ الثالث من نوفمبر 2019. إلا أن الزعيم بدا وكأنه ليس مطمئنًا إلى الانتظار أكثر من عامين، فتقدم حليفه، «دولة بهتشلي» رئيس حزب «الحركة القومية»، بطلب إجراء انتخابات مبكرة، ليعلن إردوغان في إبريل 2018 عن موعد إجراء انتخابات مبكرة في 24 يونيو من العام نفسه.
نتائج الانتخابات الأخيرة لم تكن مفاجئة بشكل عام، فقد استطاع إردوغان حسمها من الجولة الأولى بحصوله على 52.6% من إجمالي الأصوات. ونافس على منصب رئيس الجمهورية ستة مرشحين، هم:
- رجب طيب إردوغان: مرشحًا عن «العدالة والتنمية». 52.6%
- محرم إينجه: مرشحًا عن «الشعب الجمهوري». 30.6%
- صلاح الدين دميرطاش: مرشحًا عن «الشعوب الديمقراطي». 8.4%
- ميرال أكشنير: مرشحة عن «الحزب الجيد». 7.3%
- تمل كرم الله أوغلو: مرشحًا عن «السعادة». 0.89%
- دوغرو بيرينتشاك: مرشحًا عن «الوطن». 0.20%
المعارضة التركية علقت آمالًا على إمكانية عدم حصول إردوغان على أكثر من 50% من الأصوات في الجولة الأولى، لأنه في تلك الحالة كان سيصبح مضطرًا لخوض الجولة الثانية مع ثاني المرشحين «محرم إينجه»، وظن المعارضون أنهم حينها سينجحون في الاصطفاف خلف إينجه، وحشد الجماهير للتصويت عقابيًّا ضد إردوغان.
على صعيد الانتخابات البرلمانية، سمحت التعديلات الأخيرة للأحزاب بالدخول في تحالفات انتخابية قبل إجراء الانتخابات، وهو ما لم يكن قائمًا من قبل. وبالتالي، تشكل تحالفان انتخابيان، هما «تحالف الشعب»، الذي ضم حزبي «العدالة والتنمية» و«الحركة القومية»، وحصل على 57.33% من الأصوات بواقع 344 مقعدا من 600 مقعد، و«تحالف الأمة» الذي ضم أحزاب «الشعب الجمهوري» و«السعادة» و«الحزب الجيد»، وحصل على 31.5% بواقع 189 مقعدًا.
وإضافة إلى هذين التحالفين، خاض حزب «الشعوب» الديمقراطي الانتخابات منفردًا، واستطاع الحصول على نسبة 11.17% بواقع 67 مقعدًا.
ملاحظات على الانتخابات التركية الأخيرة
- نسبة المشاركة في الانتخابات تجاوزت 87% ممن لهم حق التصويت، وهي نسبة مرتفعة جدًّا بالطبع.
- أجريت الانتخابات تحت حالة الطوارئ المفروضة منذ المحاولة الانقلابية في يوليو 2016، وفي ظل أوضاع صعبة للحقوق والحريات، فقد أشارت منظمة العفو الدولية (أمنيستي) إلى أنه خلال العام السابق فقط حُبِسَ أكثر من 40 ألف مواطن، وسُرِّحَ نحو 125 ألف فرد من وظائفهم.
- خاض صلاح الدين دميرطاش، مرشح حزب «الشعوب» الديمقراطي، المعركة الانتخابية من محبسه في مدينة إديرنة، حيث ينتظر محاكمة منذ عام 2016. وشكك دميرطاش في عدالة الانتخابات، مؤكدًا أن «إردوغان يستخدم سلطات الدولة وأجهزتها الإعلامية من أجل خدمة حملته». وربما يكون في حبس دميرطاش، وجعله يخوض الانتخابات من داخل محبسه رسالة لتأكيد الخطر الكردي، في إطار استغلال هذه الورقة.
- في أول تعقيب له على نتيجة الانتخابات، قال إردوغان، مخاطبًا أنصاره من أنقرة إن «تركيا بهذه النتيجة عبَّرت بوضوح عن موقفها بإصرارها على مواجهة الإرهاب والمنظمات الإرهابية، مثل حزب العمال الكردستاني وجماعة فتح الله جولن، وعبَّر الناخبون عن رغبتهم في الاستمرار في تحرير الأراضي السورية حتى يتسنى لإخواننا السوريين العودة إلى بلادهم آمنين».
- شهدت هذه الانتخابات صعودًا نسبيًّا للتيار القومي بعد أن أصبح ممثَلًا في حزبين: «الحركة القومية» المتحالف مع «العدالة والتنمية»، و«الحزب الجيد» الذي ترأسته «ميرال أكشنير» المنشقة عن الحزب الأول في عام 2016.
- رأت الصحافة الغربية الليبرالية أن نتيجة الانتخابات محبِطة. فصحيفة «الإندبندنت» نشرت تقريرًا بعنوان «فوز إردوغان بمثابة بداية النهاية للديمقراطية في تركيا»، ونشرت «دويتشه فيله» تقريرًا بعنوان «الأتراك في ألمانيا يحيون (قائدنا) بعدما صوَّت ثلثاهم لصالحه»، ورأت صحيفة «الغارديان» فوز إردوغان بمثابة تأكيد انتصار «نادي القادة الأقوياء» أمثال بوتين والسيسي، ووصفت الصحيفة تركيا تحت حكم إردوغان بالدولة «الديمقراطية غير الليبرالية».
- لا شك أن الاقتصاد التركي يعاني حاليًّا من أزمات كبيرة، مع ارتفاع معدلات التضخم وانخفاض قيمة العملة التركية التي وصلت إلى أدنى مستوياتها أمام الدولار الأمريكي في مايو 2018. وبينما يرى بعضهم أن الانتهاء من الانتخابات، واختيار الرئيس، سيكون من شأنهما تعزيز الاستقرار وتشجيع المستثمرين وتحسين الأوضاع الاقتصادية، يرى آخرون أن الوضع الاقتصادي سيزداد سوءًا، لا سيما وأن إردوغان كان قد وعد في حال فوزه بالتدخل المباشر لدى البنك المركزي لرفع سعر العملة، ما قد يخيف المستثمرين.
ورقة اللاجئين السوريين
تشير الأرقام الصادرة عن إدارة الهجرة التركية إلى أن عدد السوريين المقيمين على الأراضي التركية تخطى ثلاثة ملايين ونصف المليون. ورغم كل ما ذُكِرَ سابقًا، يصعب أن ينكر أحد أن حزب «العدالة والتنمية» حتى الآن هو أكثر الأحزاب التركية تسامحًا مع وجود السوريين، وربما العرب بشكل عام، وترحيبًا بهم.
لا يمكن أن يلام اللاجئون السوريون على ميلهم لإردوغان ودعمهم له، فهذا منطقي. ولكن الأمر يجب ألا يُقتطَع من سياقه.
في حوار تلفزيوني معه، هاجم مرشح حزب «الشعب» الجمهوري، «محرم إينجه»، قرار الحكومة التركية بالموافقة على ذهاب أكثر من 70 ألف لاجئ سوري إلى بلادهم خلال عطلة عيد الفطر، ثم السماح لهم بالعودة إلى تركيا، محتجًّا بأن هذا يعني أنهم قادرون على الذهاب إلى سوريا بشكل آمن. «إذا كنت قادرًا على الذهاب إلى هناك والبقاء 10 أيام، ثم العودة، يمكنك إذًا أن تبقى هناك. لماذا تعود؟ هل أصبحت هذه البلاد مطبخًا للطعام؟ إنه بلد مليء بمن هم في حاجة إلى العمل».
في السياق نفسه، اعترض زعيم «الشعب» الجمهوري بشدة على تجنيس السوريين، قائلًا إنه «بينما يسقط شهداء من الشباب التركي في مدينة الباب السورية، يتبختر الشباب السوري سعيدًا في شوارعنا».
واستدرك «كيليتشدار أوغلو»: «أنا لست معاديًا للسوريين، ولكنني لا أوافق على منحهم الجنسية بينما يوجد لدينا نحو ستة ملايين ونصف المليون عاطل عن العمل... حسنًا، يجب أن تنتهي الحرب الأهلية في سوريا ليستطيع إخوتنا السوريون العودة إلى ديارهم».
لا يمكن أن يلام اللاجئون السوريون على ميلهم لإردوغان ودعمهم له، فهذا منطقي. ولكن الأمر يجب ألا يُقتطَع من سياقه. لا شك أن التعامل مع العرب المقيمين في تركيا، ومعظمهم لاجئون، باعتبارهم رعايا إردوغان وضيوفه شخصيًّا، أمر يضر بهم. ولا يمكن النظر إلى هذا الوضع بأنه دائم. ماذا لو لم يترشح إردوغان في انتخابات عام 2014، وإن كان هذا لصالح عضو آخر في حزبه؟ ربما كانت الأجواء ستصبح أكثر هدوءًا، وعمق الاستقطاب أقل، وقدرة الناس على سماع بعضهم الآخر أكبر. ربما كان ذلك سيصب في مصلحة اللاجئين وقضيتهم. ماذا لو مات إردوغان غدًا؟
نقطة أخيرة أود التأكيد عليها، وهي أن الحديث عن المعارضة التركية باعتبارها تمظهرًا أحاديًا للعلمانية السلطوية (صورة أتاتورك في المخيال العربي) لا يقدم صورة دقيقة عن حقيقة الوضع. فالمعارضة التركية العلمانية ليست مجرد امتداد لحكم النخب العسكرية الانقلابية.
أولًا: لأن القوى السياسية التركية كافة عانت من الانقلابات العسكرية، وحزب «الشعب» الجمهوري تعرَّض للحل وتعقب رموزه بعد الانقلاب الدموي الذي قاده الجنرال «كنان إفرين» في عام 1980، ولم يُعَد تأسيسه إلا بعد 12 عامًا. وثانيًا: لأن المعارضة المدنية ليست لديها القدرة الإجرائية على حل حزب له وزن جماهيري كبير، وحكم البلاد لما يقترب من عقدين من الزمان.
لذلك من السذاجة القول إن حالة «العدالة والتنمية» 2018 بنفس هشاشة حالة «السعادة» 1997، وإن خسارة هنا أو هناك في الرئاسة أو البرلمان قد تطيح بأكثر من 15 عامًا من الحكم المتواصل.