شوارع خالية تمامًا، لا مشاة ولا سيارات، لا شيء سوى سيارات شرطة تمر بين الحين والآخر، مدارس بلا طلاب أو معلمين، وشركات بلا موظفين، وحتى مستشفيات بلا مرضى، كأن القيامة قامت في الخرطوم عاصمة السودان النابضة بالحياة، لكنها ربما علامات دنوِّ ساعة نظام استبدادي حكم السودان طويلًا.
خلال 27 عامًا من حكم البشير، شهدت البلاد تدهورًا اقتصاديًا وانتهاكات صارخة لحقوق الإنسان.
دخلت العاصمة السودانية ومدن أخرى، ولأول مرة منذ بداية حكم البشير، في عصيانٍ مدني نجح بنسبة كبيرة في الفترة ما بين نهاية نوفمبر وأول ديسمبر؛ استجابةً لدعوات من ناشطين على وسائط التواصل الاجتماعي، وهي دعوات تكررت عشرات المرات خلال سنوات حكم البشير، خصوصًا بعد الربيع العربي في تونس ومصر، وفي معظم المرات لم تلقَ نجاحًا جماهيريًا يُذكر، فماذا حدث هذه المرة؟
العمائم والعساكر: أعرق الديكتاتوريات العربية
وصل الرئيس السوداني عمر أحمد حسن البشير إلى السلطة في 30 يونيو 1989 بانقلابٍ عسكري عُرف بـ«ثورة الإنقاذ الوطني». كان الانقلاب نتيجة تحالف ناجح بين الجيش والجبهة الإسلامية القومية، وجاء بعد ثلاث سنوات من تولي حكومة ديمقراطية منتخبة نتجت عن انتفاضة مارس-إبريل (ماريل) 1985، التي أنهت 16 عامًا من حكم الرئيس جعفر نميري العسكري للسودان.
تستخدم الحكومة السودانية أغلب مواردها لتموين حروبها ضد مواطنيها بالأقاليم المختلفة.
خلال 27 عامًا من حكم البشير، شهدت البلاد تدهورًا اقتصاديًا وانتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، شملت تعذيب معارضين وتصفية القطاع العام من المناوئين لحكم البشير، إضافةً إلى توسع رقعة الحرب في البلاد؛ فقد تحولت حرب الجنوب (1955-2005) إلى حرب جهادية، تم تصويرها على أنها حرب الشمال المسلم ضد الجنوب الكافر.
انتهت هذه الحرب في عام 2005 بتوقيع اتفاقية السلام الشامل، التي أعطت الجنوبيين حق تقرير المصير، ما أفضى بدوره لتكوين دولة جنوب السودان بنسبة تصويت فاقت الـ95%.
قبل عامين من نهاية الحرب بجنوب السودان، بدأت حرب إبادة جماعية جديدة في إقليم دارفور غربي البلاد في العام 2003، وهي ما زالت مستمرة حتى الآن، على الرغم من العديد من اتفاقات السلام التي تم توقيعها مع عدد من الحركات المسلحة. وفي عام 2011، تجددت الحرب في إقليمي جبال النوبة (جنوب كردفان) وجنوب النيل الأزرق، وتستخدم الحكومة السودانية أغلب مواردها لتموين حروبها ضد مواطنيها بالأقاليم المختلفة.
هل المقاومة الجماهيرية جديدة على السودانيين؟
بالتأكيد لا. كما ذكرنا سابقًا؛ فقد أطاحت الانتفاضة الشعبية في 1985 بحكم جعفر نميري، وقبلها في أكتوبر 1964 أطاح السودانيون بحكم إبراهيم عبود، عن طريق ثورة شعبية بدأت شرارتها في جامعة الخرطوم بعد استشهاد أحمد القرشي طه، الطالب بكلية العلوم وقتها، على يد السلطات.
في كلا التجربتين، ماريل 1985 وأكتوبر 1964، جرَّب السودانيون سلاح العصيان المدني عن طريق نقابات العمال والموظفين والأساتذة والاتحادات الطلابية.
الإرهاق، والغضب، والحزن، أصبحوا من سمات وجه المواطن السوداني.
اختلف الوضع في عهد البشير؛ فقد تم حل النقابات لصالح نقابة عمال السودان ونقابات المنشأة التابعة للحكومة، فضلًا عن سياسات القمع والتعذيب والتضييق على الأحزاب السياسية وقتل المتظاهرين؛ فعلى سبيل المثال قُتِل أكثر من 170 متظاهرًا ومتظاهرة خلال أسبوع واحد في سبتمبر 2013.
العصيان المدني: يأتي الأمل من حيث لم نحتسب
أكثر من 27 عامًا من عمر حكم البشير بجيشه وحركته الإسلامية، حروب بطول البلاد وعرضها وانهيار اقتصادي.. الإرهاق، والغضب، والحزن، أصبحوا من سمات وجه المواطن السوداني، تراها في الشوارع، وفي البيوت، وفي أماكن العمل. وفي المقابل ترى قلةً من الناس تحاول بتكرار (ممل؟) الضغط من أجل تغيير هذا الواقع، يموت منهم مَن تظاهر في الشوارع، ويُقصف من عاش في مناطق النزاع، و يتعرض للتعذيب من تم اعتقاله.
ثم.. يأتي الفعل الجماعي.. القيادة الجماعية.. الرسالة الجماعية.. يأتي الأمل من حيث لم نحتسب.
هذا فوق تصور أيًّا كان! ما حدث فاجأ الجميع، حكومة ومعارضة وأفراد.
إضراب للأطباء مطلع أكتوبر 2016 بسبب سوء بيئة عملهم، تليه قرارات حكومية برفع الدعم عن المحروقات وارتفاع جنوني في أسعار الأدوية، إضراب لأصحاب الصيدليات، وقفات احتجاجية متناثرة لعشرات الفتيات والنساء، مظاهرة لطلاب وطالبات المدارس الثانوية، مجموعات على «فيسبوك» تناقش فكرة قديمة جديدة: العصيان المدني! ولكن كيف يمكن أن ننجز ذلك؟ فلا نقابات مستقلة ولا قطاع عام. الخدمات في يد القطاع الخاص، العاملون في القطاعات غير المنظمة (الباعة المتجولون - بائعات الشاي والأطعمة - عمال البناء - وغيرهم) يشكلون نسبة عالية جدًا. يقول آخرون: لا يهم، سنفعلها! يتم الإعلان في ظل تخوف كبير وسط مَن لهم «خبرات سياسية»، يتحمس لها مَن لم يعتركوا في المجال السياسي ولكن رزحوا تحت نيران التدهور الاقتصادي.
الخرطوم يوم 27 نوفمبر تتحول لمدينة خالية، رغم عدم استجابة بعض الناس لدعاوى العصيان وإنزال الحكومة سياراتها ومعاونيها للشوارع. استمر الأمر للأيام التالية أيضًا. أتحدث للأصدقاء وكلهم تقريبًا يرددون: هذا فوق تصور أيًّا كان! ما حدث فاجأ الجميع، حكومة ومعارضة وأفرادًا.
بعد احتجاجات المنطقة العربية وثورات الربيع العربي، تخيل البعض أن هناك طريقًا واحدًا للتغيير.
ما حدث في الخرطوم وبعض المدن السودانية ليس عصيانًا مدنيًا بالمعنى المتعارف عليه، بل إضراب عن العمل والمدارس والزيارات الاجتماعية. قبع أغلبية سكان المدينة في بيوتهم، تعرفوا إلى بعضهم بعضًا أكثر، ووثَّقوا لمقاومتهم.
هل يسقط البشير إذًا؟
دروس كثيرة مستفادة من هذه التجربة؛ فـبعد احتجاجات المنطقة العربية وثورات الربيع العربي، تخيل البعض أن هناك طريقًا واحدًا للتغيير، طريقًا واحدًا للضغط: تظاهرات مليونية وتنازلات جزئية من الحكومات. في حالة السودان، كانت هناك حضور أيضًا لذاكرة ثورة أكتوبر 1964 التي أسقطت نظام إبراهيم عبود، وانتفاضة مارس-إبريل 1985 التي أسقطت نظام جعفر نميري. ولكن لكل واقع ظروفه الموضوعية، ويجب أن تختلف أدوات العمل باختلاف الظروف. التظاهر نفسه يمكن أن ينجح في الواقع السوداني، لكنه يحتاج لترتيب وشكل مختلف من التنظيم. الإضراب/العصيان كان يمكن أن يفشل في ظروف موضوعية مختلفة.
كثيرون تركوا شأن البلاد والعباد وساروا في حال سبيلهم يائسين من أي احتمال للتغيير، عادوا اﻵن بروحٍ مختلفة.
هناك قضايا شائكة ومعقدة في الواقع السوداني؛ مثل الحرب، والتهميش الاقتصادي والثقافي للمجموعات خارج إطار الشمال النيلي السوداني، يجب وضعها في الاعتبار. لم يشارك أغلب أهل الأطراف في هذا العصيان لأسباب كثيرة؛ على سبيل المثال فإن الدعوة عن طريق «فيسبوك» تظل تستهدف طبقات ومجموعات لها القدرة على الوصول إلى خدمات الكهرباء والإنترنت.
هل نعلم ما الخطوة التالية؟ لا، بالتأكيد لن يُسقِط هذا العصيان وحده نظام البشير، لكنه اخترق حاجز الخوف، أعاد الأمل والثقة. كثيرون تركوا شأن البلاد والعباد وساروا في حال سبيلهم يائسين من أي احتمال للتغيير، عادوا اﻵن بروحٍ مختلفة، وهناك تفاعل حول أهمية المواصلة بطرق مختلفة وباستعداد أكبر. يبدو أن تكوين لجان الأحياء والعمل على الأرض سيكون من أهم سمات المرحلة المقبلة، حسب الدعوات الموجهة من العديد من الحركات السياسية والاجتماعية.
لقد فتح هذا العصيان الباب على مصراعيه أمام مزيد من التنظيم، ودراسة الواقع، والتعلم من التجربة نفسها وسد نواقصها، وزيادة فرص العمل المقاوِم مستقبلًا.