«تشيلسي مانينغ»: رجل أم امرأة؟ بطلة أم خائن؟

الصورة: torbakhopper

ترجمات
نشر في 2017/06/27

ظنَّت أنها ستمكث في هذا السجن الموحش حتى تنهي فترة عقوبتها التي تمتد 35 عامًا، تكافح خلالها من أجل الاعتراف بهويتها الجنسية الحقيقية، ومغالبة ميولها الانتحارية التي لا ترى سواها مخرجًا من هذه المعاناة. إنها المجندة الأمريكية المتحولة جنسيًّا «تشيلسي مانينغ»، التي عُرفت لفترة طويلة باسم «برادلي»، وعاشت في جسد ذكر لم تنتمِ إليه أبدًا.

يُطلعنا موقع جريدة «النيويورك تايمز» على بعض جوانب هذه الرحلة الصعبة التي اجتازتها تشيلسي أخيرًا حين أعفي عنها بقرار من الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، بعد قضائها سبع سنوات من مدتها في السجن العسكري في ظروف غير آدمية لمن هو في مثل حالتها الصحية.

خاضت تشيلسي معركتين في الوقت نفسه على قدر واحد من الأهمية: معركة بشأن تسريبها وثائق سرية أمريكية لموقع «ويكيليس»، وأخرى لتحيا كأنثى لا ذكر.

كانت مانينغ صاحبة أكبر تسريب للوثائق السرية في التاريخ الأمريكي، إذ سلمت ويكيليس ربع مليون برقية دبلوماسية، وما يقرب من نصف مليون تقرير أصدره الجيش الأمريكي عن الحرب في العراق وأفغانستان،  وكشفت هذه التسريبات الإمكانيات الحقيقية لعصر المعلومات، عندما أصبحت الوثائق المكشوفة سلاحًا يهدد مناصب الحكام والسياسيين، ويجعل حماية البيانات التي توليها الحكومات اهتمامًا كبيرًا نوعًا من الوهم.

على جانب آخر، كانت تشيلسي تخوض معركة امتدت طَوَال حياتها للخروج من جسد الرجل الذي وجدت نفسها فيه، والتعبير عن نفسها كامرأة.

من أنا؟ ذكر أم أنثى؟

قصة محاكمة تشيلسي مانينغ وتحولها الجنسي

في سن الخامسة، شعر برادلي للمرة الأولى بهويته الجنسية وأخبر والده عن رغبته في التحول إلى فتاة، ولم تكن هذه الأمنية مقبولة لأب عُرفت عنه المحافَظة، فاستنكر طلب طفله الصغير بحدة. اكتفى برادلي بالتسلل إلى غرفة أخته ليعيش حلمه ولو لفترة وجيزة، يرتدي ملابسها، ويضع أحمر الشفاه ومساحيق التجميل، التي كان يسرع بإزالتها عند إحساسه بأقل حركة في الطابق السفلي لمنزله، وظل يتمنى أن يحيا حياتها ويكون هي.

الدردشة الإلكترونية مع المثليين والمتحولين جنسيًّا منحت تشيلسي مانينغ قدرًا ضئيلًا من الحرية.

لم يتفهم أحد حقيقة ما يدور داخل نفس برادلي في مدرسته الإبتدائية، أو اضطراب الهوية الجنسية الذي لم يُعرف عنه الكثير في هذا الوقت، إذ لم تكن حركة المتحولين جنسيًّا قد نالت اهتمامًا كافيًا من قِبل المجتمع الأمريكي آنذاك، فاعتبره غالبية زملائه مثلي الجنس، وتعرض للمضايقات والسخرية.

تحكي تشيلسي عن هذه الفترة: «كنت أعود إلى المنزل باكيةً في بعض الأيام. لو كان أبي موجودًا كان يطلب مني أن أكون رجلًا وأتوقف عن البكاء، وأعود إلى المدرسة لألكم الفتى الذي ضايقني في وجهه». انتقلت تشيلسي للعيش مع أمها بعد انفصال والديها، وشعرت حينها بحرية أكبر للتصرف على طبيعتها، فتولت إدارة شؤون المنزل، وكانت تبتاع مساحيق التجميل وتتزين لبعض الوقت، ثم تتخلص منها في طريق عودتها إلى البيت.

أمضت مانينغ ليالي طويلة في مراسلة المنتمين إلى مجتمع «LGBTQ»، الذي يضم مثليي الجنس ومزدوجي الميول الجنسية والمتحولين جنسيًّا، عبر غرف المحادثة الإلكترونية، فمنحها هذا قدرًا ضئيلًا من الحرية كان يتلاشى كلما عادت لقضاء بعض الأيام مع والدها.

قد يعجبك أيضًا: أن تكون «بايسكشوال» في مجتمع عربي

لم تصرح تشيلسي لأي شخص بحقيقة ما توصلت إليه عن نفسها، فهي ليست مثلية الجنس، ولا تتشبه بالنساء في الملبس، لأنها ببساطة امرأة. «كنتُ خائفة، لم أظن أن حياتي ستتحسن»، هكذا أعربت عن خوفها بعدما ذهبت إلى أخصائي نفسي لأربع مرات، جاهلةً ما ينتظرها، إذ كانت على أعتاب حرب جديدة ستزج بها إلى السجن، لكنها ستحررها.

ويكيليكس: منحة أم محنة؟

تخرجت تشيلسي في كلية الاستخبارات، حيث تعلمت المصطلحات العسكرية وتدربت على إنتاج التقارير والصور ومقاطع الفيديو التي تتناول كل ما يتعلق بالحروب المعاصرة من مواجهات عسكرية وتفجيرات ومعارك، واطَّلعت لاحقًا على المواد العسكرية المسجلة عن الحرب في أفغانستان حينما تولت مهام عملها الرسمية.

تعرفت تشيلسي إلى موقع ويكيلكس في أثناء إحدى الدورات التدريبية التي التحقت بها، وأخذت تتابع ما ينجزه مؤسس الموقع «جوليان أسانج»، وكانت دائمًا تظن أن بعض الأشياء ينبغي الحفاظ على سريتها: «دعونا نحمي المصادر الحساسة ونخفي تحركات القوات ونخبئ المعلومات النووية»، لكنها قالت في الوقت نفسه: «اتركونا نعلن عن أخطائنا ونلقي الضوء على السياسات المضللة، ونكشف التاريخ ونُظهر من نحن وماذا نفعل».

اقرأ أيضًا: قصة مؤسس ويكيليكس الذي كشف أسرار حكومات العالم

قبل أن تغادر تشيلسي العراق، أخذت على جهاز الكمبيوتر الخاص بها مجموعة من الوثائق المهمة، ضاربةً بالسرية التي أقسمت عليها عرض الحائط.

صدام غير مأمون العواقب

فيديو سربته مانينغ لقنص طيارين أمريكيين بعض العراقيين، شاهده الملايين وكان سببًا في شهرة ويكيليكس

كانت معها هويتها الجديدة، وكانت معها الوثائق أيضًا، ووجدت تشيلسي نفسها بين عالمين.

تخلصت تشيلسي أخيرًا من لباس الجندي الشاب، ووجدت فرصتها لبث الروح في الفتاة التي عانت من أجل إخفائها عن الأنظار حين عادت في إجازة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فارتدت معطفًا أسود فوق فستان رقيق، وحاولت اختلاس بعض الوقت لتذوب وسط الغرباء كامرأة.

لم تمتلك تشيلسي هذه الشجاعة قبل التحاقها بالجيش، فمواجهة الموت يوميًّا في القاعدة العسكرية تدفع المرء إلى المحاربة حفاظًا على حياته، وهذا ما جعلها ترفض الاستمرار في إخفاء هويتها الجنسية الحقيقية عن الناس.

كانت معها هويتها الجديدة، وكانت معها الوثائق أيضًا، ووجدت تشيلسي نفسها بين عالمين: «العالَم في أمريكا، والَعالم الذي كنت أعايشه في العراق»، ولهذا قررتْ أن يرى الناس ما يحدث في العالم الآخر الذي لا يعرفون عنه إلا الكلمات المكتوبة في الجرائد والأخبار العاجلة في النشرات التليفزيونية.

حاولت تشيلسي في البداية تسليم الوثائق لجريدة «النيويورك تايمز» أو «الواشنطن بوست»، لكن محاولاتها دائمًا ما كانت تُقابَل بالتعقيدات، ولم ترتحْ كذلك لإجراءات الصحافة الروتينية، ولم ترغب في فضح هويتها إذا نُشرت الوثائق، فانتهى الأمر بإرسالها إلى ويكيليس.

مرحبًا، اسمي تشيلسي

 

another beautiful day in the park - trying out my neo-cyberpunk look - like a boss <3

A post shared by Chelsea E. Manning (@xychelsea87) on

الآن عرفت تشيلسى من تكون، وبقي أن يعرف المحيطون بها حقيقتها، فأرسلت صورة لنفسها باعتبارها امرأة إلى مسؤول في الجيش لتعرب عن هويتها التي أخفتها طويلًا، لكن ما كان منه إلا أن تجاهلها، فأدركت أن معركتها لن تكون بهذه السهولة.

أعقب هذه المحاولة البائسة غضب شديد اجتاح صفوف المسؤولين بعدما نُشرت الوثائق المُسربة، وأشارت أصابع الاتهام إلى «الخائن برادلي»، أو تشيلسي المتحولة جنسيًّا، فواجهت محاكمة عسكرية، ورغم ترددها في الإفصاح عن هويتها الجنسية في أثناء المحاكمة خوفًا من تأزم موقفها أمام القضاة، فإنها ملَّت التظاهر وفاجأت الجميع ببيان تعلن فيه كونها امرأة بعد صدور الحكم.

حُكم على مانينغ أن تقضي 35 عامًا في السجن، فقضت 23 ساعة يوميًّا لمدة تسعة أشهر في زنزانة يبلغ عرضها ستة أمتار وطولها ثمانية أمتار، وتعرضت لسخرية الحراس من هويتها الجنسية، وكذلك المساجين، وتأثرت قدراتها العقلية جراء الإيذاء النفسي الذي تتعرض له طوال الوقت.

كان يمكن لكل من يزور تشيلسي أن يشعر بما تتعرض له من إساءة وإن لم تحدِّثهم بذلك: التعليقات المسيئة، والسخرية اللاذعة، والابتسامات السخيفة. تغاضى المسؤولون عن تعليقات الأطباء النفسيين على الميول الانتحارية وحالات الاكتئاب العنيفة التي قد تعانيها إذا لم تتلقَّ العلاج الهرموني والنفسي المناسب، والتي تدفع أحيانًا بعض السجناء المتحولين جنسيًّا إلى أخصاء أنفسهم بأيديهم.

طالبت تشيلسي بتوفير العلاج الهرموني المخصص لحالات التحول جنسيًّا من رجل إلى امرأة، فرفض الجيش، لأن هذا العلاج ممنوع للجنود ويُسمح به فقط للسجناء المدنيين.

رحلة علاج طويلة وشاقة

حاولت تشيلسي مانينغ أن تنتحر داخل السجن

يدرك المتحول جنسيًّا فقط صعوبة فترة العلاج، فما بالك بمَن يقضي هذه الأيام المليئة بالتحولات بين جدران السجن؟

دخلت تشيلسي في حالة اكتئاب حاد، وأحست بالتستستيرون، هرمون الذكورة، يسمم جسدها، وشعرت أنها لا شيء، كما لو كانت شبحًا لا يراه الناس، وعندها رفع محاميها دعوى قضائية ضد وزارة الدفاع، إذ خاف من إقدام موكلته على الانتحار، ونجح في تمرير مطالبها بعد نزال قضائي طويل، وبدأت من ثَمَّ في تلقي العلاج.

ارتاحت تشيلسي مانينغ مع بداية العلاج الهرموني، فأصبح جلدها أكثر نعومةً وقلت كثافة شعر جسدها، لكن زاد توترها كلما تغيرت معالمها الجسدية، إذ أصبحت عاطفية، ولم تقوَ على إخفاء مشاعرها كما كانت تفعل في السابق.

زادت ثقتها في نفسها مع ذلك، وتوطدت علاقاتها بأصدقائها، وعانت في الوقت نفسه من الوحدة والحيرة. يدرك المتحول جنسيًّا فقط صعوبة هذه الفترة، فما بالك بمَن يقضي تلك الأيام المليئة بالتحولات بين جدران السجن؟

فاق الأمر قدرة تشيلسي على التحمل، وملَّت هذه الرحلة الشاقة، فأقدمت على الانتحار بشنق نفسها، ولولا سرعة الحراس في إنقاذها لانتهت حكايتها عند هذا الحد، لكنها تعافت، ثم أضربت عن الطعام اعتراضًا على تشدد إدارة السجن معها، ولم توقف الإضراب إلا حين وعد المسؤولون بالسماح لها بإجراء عملية تصحيح جنسي.

بطلة أمام المتحولين جنسيًّا، مشكوك فيها أمام السياسيين

أوباما يتحدث عن تشيلسي مانينغ

خرجت تشيلسي من السجن بعد سبع سنوات فقط بموجب قرار رئاسي من أوباما، لتجد نفسها تحولت إلى قدوة ومثل أعلى للمتحولين جنسيًّا، الذين وجدوا في كفاحها إلهامًا يدفعهم إلى استكمال مسيرتهم حتى النهاية رغم الصعوبات.

هل كانت لتسلك الطريق نفسه لو اختلفت الظروف؟ ترى تشيلسي أن مبادئها وما تهتم به وتسعى إلى تحقيقه لم يكن ليختلف في كل الأحوال.

اقرأ أيضًا: كيف أصبحت إيران الثانية عالميًّا في عمليات التحول الجنسي؟

تأثرت تشيلسي بشدة حين تسلمت خطابًا من طفل متحول جنسيًّا يبلغ عمره 14 عامًا فقط قبل خروجها من السجن، قال لها الطفل: «أريد فقط أن أخبركِ بسعادتي لأنكِ ستصبحين حرة بعد أشهر قليلة، أنا فخور بكِ، أنتِ ملهمة».

يبدو أن بطولة تشيلسي مانينغ واضحة على الأقل بالنسبة للمتحولين جنسيًّا، لكن الجدل بشأن ما إذا كان تسريبها وثائق الجيش السرية عملًا بطوليًّا يظل مستمرًا حتى اليوم، ويصعب على كثيرين حسمه.

مواضيع مشابهة