مسلمو الروهينغيا من أكثر الأقليات الضعيفة والمنسية في العالم، ولا يحظون بحقوق المواطنة الكاملة باعتيارهم أقليةً تحتقرها الأغلبية البوذية البورمية وتتجاهلها الحكومة، ويعيش قرابة 1.1 مليون نسمة منهم تحت قهر نظام فصل عنصري في شمال إقليم أراكان، حتى أنهم يحتاجون إلى الحصول على تصريح إذا أرادوا الزواج أو الانتقال خارج قراهم.
ومع أن الغالبية العظمى من أُسَر الروهينغيا عاشوا في أراكان لأجيال طويلة، فإن الحكومة تعتبرهم «دخلاء بنغاليين» تطفَّلوا على البلاد، بينما تكافح سلطات البنغال من أجل التعامل مع الأعداد الكبيرة من مسلمي الروهينغيا النازحين إليها، وترفض دخولهم في كثير من الأوقات، ولا تعتبرهم لاجئين رسميين.
تجدد العنف ضد مسلمي الروهينغيا.. من المسؤول؟
وقع مسلمو الروهينغيا مجددًا فريسةً لأكثر أنواع العنف فتكًا في المنطقة خلال الأسابيع الأخيرة، ويواجه الجيش البورمي اتهامات بارتكاب أعمال وحشية ضد الأقلية من مسلمي الروهينغيا، الذين فرَّ عشرات الآلاف منهم إلى بنغلاديش المجاورة بعد إصابتهم بطلقات نارية.
ومع أن مسلمي الروهينغيا عانوا من الاضطهاد لسنوات، فإن الجولة الأخيرة من أعمال العنف ضدهم تمثِّل تصعيدًا خطيرًا، يعتقد بعض المحللين أن السبب وراءه تنظيم عسكري تحت اسم «جيش تخليص الروهينغيا في أراكان».
اقرأ أيضًا: قصة الاضطهاد في ميانمار بين حرب الإنترنت و«حرق» الواقع
أعلن الجيش البورمي أنه قتل 400 شخص، أغلبهم من «الإرهابيين» كما سمَّاهم، في حين تضع الحكومة عوائق عديدة أمام دخول إقليم أراكان للتحقق من تلك الأرقام الرسمية.
يرى آخرون أن القادة المتشددين من رجال الدين في ميانمار ذات الأغلبية البوذية مسؤولون عن بث مشاعر الكراهية ضد المسلمين، ويتهمون موظفي الإغاثة بالانحياز لصالح الروهينغيا، ممَّا عرَّض مكاتب الإغاثة لعمليات سلب ونهب في أثناء أعمال الشغب التي وقعت عام 2014 في سيتوي، عاصمة إقليم أراكان.
لكن، أليس من المفترض أن الرهبان البوذيين يحبون السلام؟
البوذية سلمية، لكن رهبانها ليسوا كذلك بالضرورة
تهدف حركة «969» البوذية إلى مقاطعة المسلمين اقتصاديًّا والدفاع عن الثقافة البوذية البورمية ضد تأثيرات الإسلام.
كان الظن أن الديانة البوذية تحترم الحق في الحياة، ويشكل السلام جوهر نظرتها إلى العالم، إذ وضع بوذا نفسه التعاطف في صلب تعاليمه، بل إن رجال الدين البوذيين في ميانمار هم مَن صاغوا القالب السلمي للمظاهرات الحاشدة التي خرجت ضد الحكومة عام 2007، فجاء هتافهم مطالبًا بالتحرر من الخوف لجميع سكان العالم.
مع ذلك، يبدو أن بعض رجال الدين البوذيين لا يرون في الحرية حقًّا للجميع، أو قيمة أخلاقية ملزمِة في كل الأوقات، وكانوا من بين الداعين إلى سفك الدماء كلما تجددت الأزمة مع الروهينغيا، وأحد أشهر هؤلاء هو الراهب «آشين ويراثو»، الذي يسمي نفسه «بن لادن البوذي».
اشتهر ويراثو باعتباره مؤجِّجًا لمشاعر العداء تجاه المسلمين ومنظمًا لحركة «969»، التي تطبع ملصقات وشعارات تحمل نفس الرقم (وهو رمز ديني لبوذيي ميانمار)، وتهدف إلى الترويج لمقاطعة المسلمين اقتصاديًّا، وتأسست في الأساس للدفاع عن الثقافة البوذية البورمية «ضد تأثيرات الإسلام»، ويُنسب إلى ويراثيو كذلك تحريض البوذيين الغاضبين في ميانمار ضد الأقلية المسلمة، وإحراق المساجد، ومهاجمة متاجر المسلمين وبيوتهم.
في 2012، استهدفت العصابات البوذية الأقلية المسلمة، وانتقل العنف إلى وسط ميانمار حيث يقيم ويراثو، الذي يرى أن المسلمين، ونسبتهم قرابة 5% من تعداد سكان بورما البالغ عددهم نحو 60 مليون نسمة، يمثلون تهديدًا للبلاد وثقافتها.
يقول ويراثو مدافعًا عن موقفه إن «المسلمين يتناسلون بسرعة، ويسرقون نساءنا ويغتصبونهن (...) ويريدون احتلال ميانمار، التي ينبغي أن تبقى بوذية».
قد يهمك أيضًا: قبل داعش والقاعدة: ماذا يخبرنا التاريخ عن الإرهاب؟
أبرزت مجلة «تايم» وجه رجل الدين ويراثو على غلافها على أنه «وجه الإرهاب البوذي»، وعندما سُئِل الراهب البوذي عن آرائه السياسية قال إن الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما «لوَّث نفسه بدماء المسلمين السود»، واتهم العرب «باختطاف الأمم المتحدة لحسابهم».
قد يسهل تجاهل ويراثو باعتباره جاهلًا يملك أفكارًا شاذة ليس لها أساس عقائدي، أو واحدًا من ثمانية أبناء ألقى به أهله في المعبد لأنهم لم يملكوا إطعامه، لكن الخطير في الأمر أنه شخص ذو كاريزما وسطوة، وأن رسالته تتلقاها آذان صاغية.
البوذية المتشددة تجتاح آسيا
في سيريلانكا، وجدت الشرطة رجل دين بوذي معتدل ملقًى على قارعة الطريق يقطر دمًا، لأنه حذر من زرع مشاعر الخوف من المسلمين.
تسببت حركة تمرد مسلمة في أقصى جنوب تايلاند في مقتل خمسة آلاف شخص بين عامي 2004 و2013، ممَّا دفع الجيش التايلاندي إلى تدريب ميليشيات من المدنيين. وكثيرًا ما يرافق رجالُ الجيش الرهبانَ البوذيين لدى مغادرتهم المعابد لجمع أموال الصدقات، ويؤدي هذا الاختلاط بين الجيش ورجال الدين، الذين يحمل بعضهم سلاحًا، إلى مزيد من التوتر بين البوذيين والمسلمين وغيرهم من الأقليات.
وفي عام 2014، وجدت الشرطة رجل دين بوذي معتدل ملقًى مقيد اليدين والقدمين ومجردًا من ملابسه على قارعة الطريق ويقطر دمًا. كان الراهب قد حذر من زرع مشاعر الخوف من المسلمين التي تبثها مجموعة متشددة تسمى «القوة البوذية» (BBS). وفي حين نفت هذه المجموعة صلتها بالواقعة، ألقت الشرطة الراهب في السجن لمدة 12 يومًا بتهمة «الإيذاء الذاتي المتعمد»، وكان سجنه رسالة تحذير للأصوات المعتدلة ولكل من يجرؤ على تحدي البوذيين المتشددين.
يخشى البوذيون عبر أنحاء آسيا من الإسلام المنتشر في إندونيسيا وماليزيا وباكستان وأفغانستان، وهي الدول التي كانت جميعها تدين بالبوذية، ويخشى البوذيون الأكثر تعصبًا من تناسل السكان المسلمين أسرع منهم، ويخشون المساعدات القادمة من الشرق الأوسط لبناء المساجد.
قد يعجبك أيضًا: كيف استطاعت امرأة مسلمة هزيمة الكراهية؟
تحالف الرهبان مع السلطة: هكذا تولَّد كل الشر
اعتاد العالم الصورة الرقيقة للبوذية، التي كوَّنتها الكلمات المأثورة المتواضعة للدالاي لاما، القيادة الدينية الأسمَى لبوذيي التبت، وبسبب الشعبية العالمية التي اكتسبتها عادات مثل التأمل المأخوذ عن تعليمات البوذية، وصور الرهبان البوذيين بزيهم القرمزي وأقدامهم الحافية وهم يتلقون الصدقات من أهالي القرى.
لكن في عام 2012 بوجه خاص، فوجئ العالم بصور البوذيين البورميين الثائرين الذين يحملون السيوف، وعلت أصوات الرهبان بخطب تحمل كثيرًا من البغض، كاشفةً عن نمو صورة متطرفة من البوذية في ميانمار، وعن الحال البائسة للحريات هناك بعد عقود من الحكم العسكري، فقد أعدمت العصابات البوذية الكثير من المسلمين دون وجه حق، وشردت ما يربو على 150 ألف شخص، معظمهم من المسلمين.
يكمُن جزء من مشكلة التطرف في إحساس طائفة معينة بتفوق رؤيتها، فتشعر بسبب هذه الفوقية أن حماية رؤيتها أهم واجب على الإطلاق.
يُفترض أن الأفكار العدائية تتنافى مع التعليمات البوذية، بل إن البوذية تعطي تابعيها طرقًا عملية للتخلص منها، ويستطيع البوذي بالتأمل أن ينمي قدرته على التعاطف مع كل الكائنات الحية، لكن يبدو أن هذا لم يكن كافيًا للحفاظ على البوذية من التطرف.
أكثر ما يفسد أي ديانة هو دخول اتفاقات مع السلطة الحاكمة، والبوذية متحالفة مع السلطة في أماكن كثيرة ومنذ أزمنة بعيدة، إذ بحث الرهبان البوذيون عن الملوك الذين يملكون زمام الأمر والنهي من أجل الدعم والرعاية التي لن يوفرها سواهم، وأسبغوا على هؤلاء الملوك شرعية دينية وشعبية لا يملك أن يهبها غيرهم، في تبادل للمصالح بين السياسة والدين لا تكون نتائجه جيدة عادة.
يكمُن جزء من المشكلة بالطبع في إحساس طائفة معينة، مهما كانت تقاليدها تحثُّ على السلام، بتفوق رؤيتها للعالم أخلاقيًّا في مواجهة الرؤى الأخرى، فتشعر بسبب هذه الفوقية أن حماية تلك الرؤية والترويج لها أهم واجب على الإطلاق. وبينما حاسب العالم المتطرفين من أتباع كل الديانات بصورة أو أخرى، ما زال أتباع البوذية المتطرفون في منأًى عن العقاب، مع أن البوذيين، مثلهم مثل غيرهم، انخرطوا في السياسة ووقعوا في فخ التزمُّت الطائفي وتلوثوا بالدماء.