كل منا تأثر في تكوين شخصيته، بجميع طياتها وانحناءاتها، بعائلته الصغيرة التي نشأ فيها، فمنذ ولادة الطفل تكون له حقوق وحاجات يجب أن يوفّرها والداه، بدءًا من حقه في الحياة والأمان، والطعام والمأوى، والرعاية الصحية، والتعليم، وصوًلا إلى حاجاته العاطفية، في الحب والاهتمام والانتباه غير المشروط.
فالتربية إذًا فن ومهارة، لا يحصل عليها الآباء بمجرد ولادة الطفل، وفي ظل غياب هذه الرعاية، نجد مجتمعاتنا تعج بقصص وتجارب تجردت من معاني الإنسانية، بسبب انتشار الاعتداء اللفظي والجسدي على الأطفال.
تعنيف الطفل، وفقًا لجمعية حقوق الطفل (CRC) في منظمة الأمم المتحدة للطفولة (UNICEF) يشمل جميع أنواع الإساءة أو الإيذاء الجسدي أو الذهني، كالإهمال أو استغلال الطفل، بما في ذلك الاعتداء الجنسي، سواء على الطفل تحت رعاية الآباء والأمهات البيولوجيين، أو الأوصياء القانونيين، أو كل من يقوم مقامهم.
استرجل!
قبل أسابيع، نشر الناشط على مواقع التواصل الاجتماعي «شريف جابر، 23 عامًا، على فيسبوك، رسالة إلى والده، في ذكرى وفاته السادسة، أوضح فيها تعامل والده الوحشي معه، من إهانة وتعنيف لفظي وجسدي، بحجة «أنا بعمل ده عشان مصلحتك».
ومن المواقف التي ذكرها شريف:
«فاكر لما كنت بتضربني عشان لما بتشتمني ببكي بسرعة ؟! وكنت بتقولي استرجل؟!».
«فاكر لما كنت في رابعة ابتدائي ودرجات آخر السنة ماكانتش عجباك؟! لما فضلت طول اليوم تضحك معايا وكإنك فرحان.. وفي نص الليل قلت لي أنا آسف يا شريف انا مش هعرف أنام إلا لما أرتاح وأضربك ؟!».
«فاكر لما جبت في نتيجة الشهر بتاعة المدرسة درجة ماعجبتكش في تالتة إعدادي؟! لما ربطتني وقلّعتني وفضلت تضرب فيا وقلتلي هعد 100 ضربة، ولو طلعت صوت هعيد الضرب تاني من الأول؟! فاكر لما فضلت تضرب فيا أربع ساعات.. وكل شوية تعيد من الأول؟! أنا فاكر!».
«فاكر لما كنت بتقول إن الحالة النفسية والهدوء اللي أنا كنت دايما فيه سببه جن.. وأخدتني لشيخ عشان يخرّجه مني؟!».
ثم أنهى خطابه مع والده بذكر ما تركه في نفسه من أذى حتى يومنا هذا:
«إنت حاولت تزرع جوايا كره مبايهداش.. وخلّتني أحس يعني إيه إن الواحد يخسر نفسه.. تخيّل.. لما 6 سنين بدونك.. و23 سنة.. وما زلت إنت الكابوس الوحيد اللي بيجيلي بالليل وبصحى معيّط منه.. تخيل إن موتك نفسه.. مش كفاية!».
لاقت اعترافات شريف العديد من ردود الفعل في المجتمع الشبابي المصري، حتى شارك البعض بتجربته الخاصة، وهذه بعض المقتطفات منها:
المحزن أن البعض قد لا يتعجب عند قراءة هذه القصة، لأننا اعتدناها، بل إن الكثير قد عاشها في صمت، ربما لأن مجتمعاتنا العربية عاطفية بطبعها، بعض الناس قد يقولون إن الغاية تبرّر الوسيلة والنية هي ما يجب أخذه في الحسبان، فرضا الله من رضا الوالدين وعار عليك إن تكلمت، فتكون النتيجة مجتمعًا مشوهًا أخرس، وإن تكلّم أحدهم تلام الضحية قبل الجاني، بل ويطالب بالغفران للجاني، لأنه والدك مهما كان، دون اعتبار للتجربة الأليمة التي مرّت بها الضحية.
هذه ليست استنتاجات من نسج الخيال، فها هي بعض الردود على ما كتبه شريف:
الشخصية الازدواجية
سلّط شريف من خلال سرده للأحداث الضوء على ما تحمله شخصية المعتدي من ازدواجية، إذ يظهر أمام المجتمع الخارجي بمظهر مختلف تمامًا عما يظهره لأبنائه، مما يصعّب كشفه، ما يشير إلى ضرورة نشر الوعي الأسري في الإبلاغ عن هذه الاعتداءات، لوضع حد لها، بتسليط الضوء عليها.
فهل من سبيل لإنهاء هذه الازدواجية التي تعيش فينا وبيننا؟
«حتى يتربى!»
انتشرت عبر الشبكات الاجتماعية وعدة مواقع إخبارية قصة "عطا" ابن الـ7 سنوات في قرى الدقهلية، شمال القاهرة، في مصر الذي كبّله والده بسلاسل حديدية غليظة من عنقه ويديه وقدميه، على سلم منزله، مدة اختلفت عليها المصادر بين 30 و40 يومًا، وظل رافضًا فك أَسره حتى اشتكت شقيقتا الجاني إلى مديرية أمن المنطقة، التي حرّرت الطفل، وكشفت وجود أورام خطيرة مكان تقييده.
وفي يونيو 2015 تناول برنامج «للنشر» الذي يُعرض على قناة الجديد اللبنانية، قضية أب عنّف ابنه «وليد»، 10 أعوام، بربطه من قدمه بجنازير حديديّة، وعلّقه بسقف الغرفة عدة أيام كان يجلده خلالها، بمشاركة زوجته «حتّى يتربى».
وأُبلغت السلطات بقضيتَي عطا ووليد، لكن بعد فوات الأوان، فطفل السابعة قيد كالحيوانات بل أسوأ مدة شهر، أما وليد فقد قضى تحت التعذيب بمعرفة أهله وجيرانه سنوات، حتى تم الإبلاغ عن والديه، أيجب أن نصل إلى هذه الشناعة حتى نتخذ موقفًا إيجابيًا؟
هذه مجرد نماذج من الواقع الذي نعيش فيه، ويوجد الكثير خلف الأبواب المغلقة.
تعنيف الطفل لا يأتي بفائدة
لا يقتصر تعنيف الطفل على الاعتداء الجسدي فحسب، فالعنف اللفظي، سواء باستخدام الشتائم أو الألقاب المهينة أو السخرية أو التهديد، له علاقة وثيقة بجعل الطفل شخصية انطوائية وبروز ميوله لإيذاء النفس، والتسبب في تأخّر النمو المعرفي، وعلى ذلك ستكون نهاية الطفل أحد شيئين: إما أن يكون شخصية انهزامية معرضة لأن تكون ضحية عنف واعتداء مجددًا دون أن تقف وتدافع عن نفسها، وإما تتحوّل الضحية إلى جانٍ، فتتكرر بذلك دائرة العنف.
وساوت بعض دول العالم قضائيًا بين الاعتداء اللفظي والجسدي على الطفل، حتى إن القانون الدولي يحمي الطفل ضد التعنيف بغض النظر عن مرات تكراره، وعن شدة الأذى أو نيّة المعتدي، ما دام الاعتداء قد منع حق الطفل المطلق في الكرامة الإنسانية وسلامته النفسية والجسدية. ووجدت جامعة هارفرد (الرابط يتطلب اشتراكًا) أن الطفل الذي يتعرض لإساءات لفظية بالشتم والسب والإهانات المستمرة يصاب بأعراض اضطرابات ما بعد الصدمة PTSD تمامًا كتلك التي يتعرض لها الجنود بعد الحرب.
وتشير الإحصائيات إلى أن 63% من الآباء في الولايات المتحدة قد استخدموا الإساءة اللفظية في تعاملهم مع أبنائهم، فكم تكون هذه النسبة يا ترى في. وطننا العربي؟
أشارت دراسة لليونسيف أُجريت عام 2014 تحت عنوان «المخفي في العلن: تحليل إحصائي للعنف ضد الأطفال»، إلى بيانات عالمية لأطفال تتراوح أعمارهم بين سنتين و14 سنة، تعرضوا للعنف الجسدي واللفظي «التأديبي» مدة شهر، ووجدت أن 7 من 10 أطفال يتعرضون للعنف النفسي واللفظي، وأن 6 من 10 أطفال يتعرضون للعنف الجسدي، وكانت للدول العربية المراكز الأولى في هذه الدراسة، فأعلى نسب العنف النفسي واللفظي توجد في اليمن، حيث تعدت 90%، وأعلى نسب العنف الجسدي موجودة في مصر، وتجاوزت 80%.
وهناك دراسة أخرى في المملكة العربية السعودية، أجراها برنامج الأمان الأسري الوطني، أثبتت أن 80% من الأطفال في السعودية قد تعرضوا للعنف الأسري النفسي والجسدي، وفي عام 2013 سجل مركز حماية الطفل المتمركز بمستشفى في الرياض 200 حالة طفل ضحية عنف، 80% منها كانت نتيجة عنف جسدي بالغ، و20% كانت نتيجة عنف جنسي.
وعندما نقرأ هذه النسب من الصعب أن نعي أنها أكثر من مجرد أرقام وبيانات، فهذه حياة أطفال يعيشونها، بل يعانون منها كل يوم.
ما الحل؟
«مش كل مرّة تسلم الجرّة»، فالخطوة الأولى أن نعترف ونؤمن بضمائرنا أن تعنيف الأطفال أمر غير مقبول بتاتًا، بغضّ النظر عن سببه أو نوعه أو مدى قساوته، فلا شيء يشفع للإساءة، فهو ليس «جرّة» بل أكثر بكثير، هو إنسان، وهو طفلي وطفلك، لكن يبدو أن الجميع بات معرضًا لأن يكون ضحية عنف في مجتمعاتنا العربية. فيجب علينا أن نرتقي عن الخرافات التي تحكم عقولنا، ونخرج من إطار العيب و«هذا لمصلحته» الذي رسخته فينا ثقافاتنا السابقة، فتفشّي الإساءة للطفل في مجتمعاتنا ودرجة الوحشية التي بلغتها تحتم علينا كأفراد أخذ موقف حازم ضدها، فلن نتمكن من بناء وطن دون بناء الفرد، ولن ينهض مجتمع يضطهد أطفاله ليكبروا بشخصيات غير سويّة نتيجة ظلم مجتمعهم. لذلك، فإن احترام آدمية الإنسان، والإقرار بمنطق أن الطفل أضعف جسمانيًا من أن يدافع عن نفسه، وأقل حيلة من الكبار والبالغين في المجتمع، والاعتراف أن تعنيفهم أمر غير مقبول، ما هو إلا بداية بسيطة لاحترام الإنسان وبناء شخصيته السليمة.
وهناك محاولات في وطننا العربي لوضع حد لمظاهر تعنيف الطفل، منه إطلاق مصر الخط الساخن الوطني لحماية الطفل 16000، وفي عام 2013 دشنت بحملة لمواجهة العنف الجسدي والنفسي ضد الطفل في المدارس، ومن خلال الإعلام استطاعت الوصول إلى 118 ألف شخص من ضحايا العنف، وفي السعودية أيضًا أطلق برنامج الأمان الأسري الوطني الخط الساخن 11611، أما في الكويت فأطلقت اللجنة الوطنية العليا لحماية الطفل الخط الساخن 147، وفي الأردن أطلقت مؤسسة نهر الأردن الخط الساخن 110 لحماية العائلة والطفل. وهذا عدد بسيط من الدول العربية المساهمة، لكننا ما زلنا بحاجة إلى المزيد من الجهود والاهتمام، فالعالم المتقدم أدرك أن الأطفال هم ذخر الدولة وكنزها، فسنّ القوانين التي تحميهم وطبّقها، حتى إنه ألزم قانونيًا أي معالج طبي يشك في رعاية الطفل أو أن سبب إصابته بالأذى إهمال، أن يبلغ الجهات المسؤولة أو الخدمات الاجتماعية بذلك.
تعنيف الطفل قضية كبيرة، لها أبعاد كثيرة، فبعد الاعتراف بخطورتها ووجود رغبة جادة للتغيير، يجب إعادة هيكلة قانون الأسرة لحماية الطفل، ويجب ألا نكتفي فقط بسن قوانين، بل نطبقها على أرض الواقع، ونراقب طريقة تطبيقها، فالوعي وحده لا يكفي دون مساندة القانون له، حتى لا يستخف الجاني بالعقوبة.
كذلك يمكن استغلال دور الإعلام التوعوي، لإعطاء صوت للطفل، ووضعت مؤسسة الطفل والمراهقين في خطر (ANAR) في إسبانيا إعلانات تقول: «إذا كان هناك أحد يؤذيك فاتصل على 116111 ونحن سنساعدك» يستطيع الطفل تحت 10 سنوات فقط رؤيتها، وفي الوقت نفسه تعطي رسالة للبالغين عن صعوبة اكتشاف هذه الظاهرة، وأن التعنيف قد يكون ظاهرًا فقط للطفل الذي يعانيه:
و توجّهت بعض الجهود العالمية إلى إعادة التأهيل، وتوفير الدعم اللازم للطفل الذي تعرض للعنف والعلاج النفسي، وإتاحة المساندة والتعليم الكافي للوالدين لكسر الحلقة المفرغة من الإيذاء، وهذا ما تدعو إليه مؤسسة العقدة الزرقاء في سيدني بأستراليا، حيث توفّر منصة لمساعدة البالغين الذين تعرضوا لصدمة خلال طفولتهم، لأنهم أدركوا بأن كل فرد في المجتمع قيّم، وأن من تعرض للإساءة ليست حياته «مكسورة» أو غير قابلة للإصلاح.
إذا كنا فعلا نريد التغيير، فعلينا أن نبدأ من أنفسنا، أو كما يقال «كن أنت التغيير الذي تود رؤيته في المجتمع»، فكل فرد منا مسؤول عن حياته.. وإن كنت تنتظر شخصاً لإنقاذك، أو إصلاحك، أو مساعدتك، فإنك تضيّع وقتك، لأنك أنت فقط لديك القوة والقدرة لإحداث تغيير في حياتك والمضي قدمًا فيها، وإن كنت تتعرض للعنف فتكلم! اكسر سلسلة الصمت، فكونك ناجيًا من العنف لا يعيبك كإنسان في شيء، وإن كنت تمارس هذا النوع من العنف التأديبي فما زال لديك المجال للتحسن والنهوض بنفسك، وإن كنت شاهدًا على هذه الحالات، فمن الممكن أن تعرّف الطفل المعنَّف.
ومن الممكن أيضًا ألا يكون الجاني غريبًا عنك، فقد يكون أحد أقربائك، زوجك، أو صديقك أو جارك، كن جزءًا من إنقاذ هذه العائلة، يجب ألا نقف مكتوفي الأيدي وأن نسهم جميعنا في حل هذه القضية الشائكة.