صاحبة العنق الطويل، نراها داخل أسوار حظيرتها في حدائق الحيوان المحلية في بلادنا مستكينة، تأكل ما يقدمه لها حارسها، هادئة، بطيئة الحركة نسبيًا، رزينة، إن جاز وصف حيوان بالرزانة، لكنها لم تكن كأي حيوان، بل أحدثت الزرافة ضجة ثقافية عند وصول أول أفراد جنسها إلى عاصمة النور، باريس، وسلط موقع hyperallergic الضوء على تلك القصة ذات الدلالة التاريخية.
هدية وسط اضطرابات سياسية
في أواخر عشرينيات القرن التاسع عشر في العاصمة الفرنسية باريس، ارتدت النساء على رؤوسهن ما يشبه قرني الزرافة، ووضع الناس ورق حائط داخل منازلهم بلون جلد الزرافة، كل شيء أخذ طابع اللون الأصفر الداخل في تركيب ألوان جلد الزرافة، وظهر ما يُعرف بـ«موضة الزرافة» ولم تكن كل هذه الضجة إلا بسبب وصول أول زرافة إلى البلاد قادمة من إفريقيا. كانت الزرافة بمثابة «صرعة ثقافية». كل من هو في فرنسا كان يعلم بقصتها، وكل أصحاب المنتجات تسابقوا في استلهام الزرافة في ثيمات أعمالهم.
وصلت أول زرافة إلى باريس، ولُقبت هناك بالـ«الجميلة الإفريقية»، وذلك بعد أن أخذوها من أمها في سن مبكرة، لتُنقل من القارة السمراء إلى باريس، وحُملت على ظهر جمل كهدية من والي مصر آنذاك محمد علي، إلى ملك فرنسا شارل العاشر، قرابة عام 1824.
كانت الهدية محاولة من محمد علي باشا، والي مصر، لحث فرنسا على وقف معارضتها لجهوده في قمع الثورة اليونانية ضد حكم الدولة العثمانية، ولم تكن فرنسا في ذلك الوقت تتمتع بقدر كبير من الاستقرار، فقد خرجت لتوها من أحداث الثورة الفرنسية وحروب نابليون، وفي الوقت ذاته كانت على وشك الدخول في الثورة التي وقعت في يوليو 1830 والتي أطاحت بالملك الجديد.
رحلة شاقة واستقبال حافل
بعد وصول الزرافة الإفريقية إلى باريس أطلق اسم «زرافة» على العديد من الشوارع، وأطلقت المطاعم على بعض الوجبات اسم «زرافة»، وكان اللونان الأصفر والأسود في كل مكان.
رغم الأحداث السياسية المتلاحقة فإن الزرافة الوافدة من إفريقيا كانت تحدث ضجة في أي مكان تظهر به في فرنسا، بداية من وصولها ميناء مارسيليا في أكتوبر عام 1826 قادمة من ميناء الإسكندرية على ظهر قارب، إذ عُدل سطح القارب، بعمل ثقب فيه ليسمح بوقوف الزرافة منتصبة دون أن تحني رقبتها، وباعتبارها أول زرافة تطأ أقدامها الأراضي الفرنسية فكانت كل تفاصيلها مذهلة للشعب الفرنسي.
شهد نفس الوقت نقل زرافتين إلى الأراضي الفرنسية، إلا أنهما لم تصمدا كثيرًا فنفقتا في غضون عامين، إلا أن الزرافة المهداة من محمد علي ظلت على قيد الحياة لفترة، نظرًا لأنها نقلت بعناية من ميناء مارسيليا الفرنسي، قطعت جزءًا كبيرًا من رحلتها سيرًا على أقدامها، إذ سارت لمسافة 885 كم، رافقها خلال تلك المسافة مربيا حيوانات سودانيان يدعيان حسن وعطر، ومعهما طبيب بيطري، وبضع أبقار حلوب بهدف توفير قرابة الـ25 لترًا من اللبن يوميًا.
كان من المهم بالنسبة لهذا الركب، حماية الزرافة خلال رحلتها، فوفروا لها معطفًا ضد المياه لوقايتها من الأمطار، كما سارت في ما يشبه الموكب لتأمين طريقها، وعندما وصلت إلى مدينة ليون، تواجد نحو 30 ألف شخص لمشاهدتها، ثم وصلت إلى محطتها الأخيرة في العاصمة باريس عام 1827، واستقبلها ملك فرنسا بالورود، قبل إيداعها حديقة النباتات «جاردين دي بلان»، إذ توافد على زيارتها في أول ستة أشهر فقط نحو 600 ألف زائر.
أقامت الزرافة في حديقة النباتات، في صوبة زجاجية مخصصة للنباتات الحارة، وذلك للحفاظ على سلامة جسمها الذي لا يحتمل أجواء برودة أوروبا. وكان بجانب حجرتها حجرة أخرى مخصصة للحارس المصري المكلف بالعناية بها، والذي كان يترك غرفته عادة في الليل، لينام بالقرب من رأسها.
أُطلق اسم «زرافة» على العديد من الشوارع والميادين الفرنسية، كما أصبحت مادة غنية للأغاني والمسرحيات الاستعراضية. وأضافت العديد من المطاعم الفرنسية وجبات تحمل اسم «زرافة» إلى العديد من قوائم الطعام التي تقدمها. ارتدت النساء قبعات لها شكل رأس الزرافة، وانتشرت في فرنسا العديد من أربطة العنق التي تحمل نمط جلد الزرافة. كان اللونان الأصفر والأسود في كل مكان، بل وصل الأمر حتى إلى تلحين مقطوعات موسيقية كاملة تحمل اسمها.
اقرأ أيضًا: «جين غودال»: تجوب العالم من أجل الحيوانات رغم تجاوز الثمانين
انتهاء «موضة الزرافة»
الزرافة الإفريقية ظلت على قيد الحياة في باريس حتى عام 1845، وجرى تحنيطها بعد وفاتها تخليدًا لذكراها.
لم تترك الزرافة الوافدة أثرها في نفوس العامة فقط، وفي صيحات العامة من خلال استحداث موضة جديدة في الملابس أو ديكورات المنازل، بل إن الفنانين تأثروا بها أيضًا، وكان من بين هؤلاء النحات أنتوني لويس باري، الذي أخرج عملًا فنيًا مستوحىَ من الزرافة وغيرها من الحيوانات الجديدة في حديقة النباتات في باريس «جاردين دي بلان»، كما تأثر بها الرسام نيكولا هوي، وهو رسام معتمد بمتحف التاريخ الطبيعي بباريس، الذي صورها باستخدام ألوان الماء.
أخذ فن الكاريكاتير الفرنسي نصيبه من إلهام الزرافة، حيث تم تصوير الملك شارل العاشر برقبة طويلة مستوحاة من رقبة الزرافة، وصِفَ وقتها بأنه «أكبر وحش عُرِف حتى الآن»، وفي عام 1827، تخيّل الأديب الشهير، أونريه دي بلزاك، حوارًا بين الشعب الفرنسي والزرافة في إطار نقده للملك شارل العاشر.
تجدر الإشارة هنا إلى أن حدائق الحيوانات الأوروبية في القرن التاسع عشر كانت تعرض بعض البشر جنبًا إلى جنب مع الحيوانات.
وكحال أي موضة، بدأت الفنون المستوحاة من شكل ولون الزرافة تتلاشى بحلول عام 1830، بالتزامن مع انتهاء حكم شارل العاشر أيضًا، إلا أن الزرافة التي أثارت كل تلك الضجة وأصبحت رمزًا ثقافيًا ظلت على قيد الحياة حتى عام 1845، وجرى تحنيطها بعد وفاتها تخليدًا لذكراها، ولا تزال تعرض حتى الآن في متحف الفن الطبيعي.