«1»
الإضاءة خافتة تمامًا، في شقة بالطابق الخامس تطل على نيل القاهرة. بمجرد الدخول من باب الشقة الرئيسي، هناك ممر طويل يؤدي إلى الصالة الرئيسية، حيث تتزين جدران الشقة ببعض اللوحات، وتمثال باللون الأبيض لصاحبها. في هذا الممر مكتبة يوسف إدريس.
تتوسط المكتبة صورة له من أيام الشباب، مكتبته ليست ضخمة بأي حال. وإن توزعت بعض كتبها في أماكن أخرى، مثل متحفه في قرية البيروم (التي ولد فيها إدريس في مايو 1927)، ما تبقى من كتب قليل، لكنه كاشف ومتنوع.
ليس لإدريس غرفة خاصة يغلقها على نفسه ليكتب، بل اختار ركنًا من أركان الصالة، ووضع مكتبًا، وبجواره أنواع من الزرع والزهور التي يفضلها.
كان يخشى الأبواب المغلقة، المكتب ليس موجودًا الآن، فقد تعرض ديكور الشقة للتعديل بعد رحيله عام 1991، لكن زوجته تتذكر طقوسه في الكتابة: «قبل أن يكتب، كان يحب دائمًا إصلاح الأشياء القديمة، راديو مهمل، أجهزة كهربائية، مثلًا،... وعادة ما كان يفسد الأجهزة السليمة، لكي يعيد إصلاحها، لكنه يفشل، ويشرب كميات قهوة وسجائر، ويدير معي حوارًا كاملًا حول العمل الذي سيبدأ في كتابته».
هل كان يقرأ شيئًا معينًا، أو يستمع لموسيقى معينة؟ تجيب: لا، لم يكن قارئًا نهمًا، كان يحب الاطلاع على الأعمال الجديدة للكتاب، يستكمل ما يعجبه، ولا يكمل ما لا يعجبه، كان قادرًا على الحكم على الأعمال الأدبية من الصفحة الأولى، قرأ «مئة عام من العزلة» لماركيز في نسختها الإنجليزية، بعدما صدرت مباشرة. كان يقرأ كثيرًا لـ«بيكيت»، كانت اختياراته منتقاة بعناية، ولكن أكثر قراءاته كانت في العلوم».
هل انعكست قراءته العلمية على إبداعه؟ سألتها، فأجابت: لا، هو موهوب زيادة على اللزوم، لو انعزل عن العالم وانقطع عنه، لو لم يتواصل أو يقرأ، كان سيكتب أيضًا. موهبته مثل... (تتوقف رجاء إدريس قليلًا في محاولة البحث عن الكلمة المناسبة لوصف موهبة إدريس. أقول لها: «بركان»؟ تعترض. بعد تفكير قليل استأنفت حديثها)، موهبته مثل «الملبوس. ملبوس بالفن». أضحك: الجن أم الملائكة؟ تقول: مزيج من الاثنين. توضح أكثر: لو أنك جئت بشخص غير موهوب، وأجبرته على أن يقرأ آلاف الكتب، قطعًا لن يكتب. الموهبة منحة، إلهام، وهكذا كان يراها يوسف إدريس.
لم يجبر يوسف إدريس أولاده على القراءة، ولم يتدخل في حياتهم الخاصة، من يريد أن يقرأ منهم، يقرأ، ومن لا يريد، فلا إجبار.
في رحلة حياتها معه، كان يوسف إدريس صاحب «دماغ» لا تتوقف عن التفكير، دماغ يقظة لم تر زوجته مثلها. ليس مبالغة، هي لا تتحدث بصفتها زوجته، له قدرة هائلة على ربط الأشياء ببعضها.
تحكي زوجته عن رحلته مع المرض، عندما دخل في غيبوبة، وسافر إلى بريطانيا، هناك أخبرها الأطباء بأن الأمل ضعيف، بل ضعيف جدًّا. وقال لها أحد الأطباء إن الاستماع إلى أشياء يحبها قد يعيد إليه بعض وعيه.
بالفعل بدأت في تشغيل أغنيات محمد عبدالوهاب القديمة، وبعض سور القرآن بأصوات المقرئين الذين يحبهم، وشرعت تحكي له حكاياتها التي يحبها. في اليوم الثالث أفاق من غيبوبته في ما يشبه المعجزة. لكن المعجزة الأكبر أن «دماغه» لم تتوقف عن العمل، بل تذكر كل شيء: الرحلة والطائرة والحكايات. قال إنه ذهب في رحلة إلى الآخرة، إلى الموت، وعاد مرة أخرى. وسيُدهِش جميع الناس في عمله القادم.
قد يهمك أيضًا: في مكتبة علاء الديب: رشفة أخيرة من «عصير الكتب»
لم يجبر يوسف إدريس أولاده على القراءة، لم يتدخل في حياتهم الخاصة على الإطلاق، من يريد أن يقرأ منهم، يقرأ، ومن لا يريد، فلا إجبار، حتى في ما يتعلق بالمواد الدراسية. كان الأمر مسؤولية الأم وحدها. هو صاحب نظرية خاصة في ذلك: «لا تجعل القراءة واجبًا علينا تنفيذه لأنها يجب أن تكون متعة»، ويشبِّهها لنا قائلًا: القراءة مثل «قصر التيه» تتوه فيه من كتاب إلى كتاب، ثم كتاب، كما لو كنت في قصر تذهب فيه من حجرة إلى حجرة، دون أن تكون هناك حجرة محظور عليك دخولها، القراءة نهر وفيضان لا يتوقف.
غالبية كتب المكتبة إهداءات من أصحابها، فلم يكن يوسف إدريس يشتري سوى الكتب العلمية، أو الروايات الإنجليزية، ولم يكن يتخلص من الكتب التي تأتيه، كان يحتفظ بها دائمًا، حتى لو لم يقرأها.
ثلاثة من رفوف المكتبة تتضمن أعمال إدريس نفسه، طبعاتها الأولى فقط، وترجماتها في اللغات المختلفة 24 لغة. تحتل الموسوعة البريطانية رفًّا آخر، وكثيرًا ما كان يلجأ إليها إدريس بحثًا عن معلومات. تضحك نصفه الآخر السيدة رجاء: «ربما لو كان الإنترنت موجودًا، وقتها، ما كان قد استخدم هذه الموسوعة».
يوسف إدريس بالتأكيد أكثر حظًّا من غيره بعائلته التي لم تفرط في مكتبته، كما فعلت عائلات أخرى. كتبه لا تزال موجودة، وأيضًا هناك مخزن تستخدمه العائلة لتخزين بقية الكتب والأوراق الخاصة التي تركها. في واحدة من الكراتين التي تضم هذه الأوراق رسائل الكتاب والمعجبين إلى صاحب «أرخص ليالي»: «احتفظ أيضًا برسائل كثيرة، قطع فنية، من محمد المخزنجي، هي مراسلات غير عادية».
المفاجأة التي تفجرها زوجته أن «هناك ثلاث مخطوطات تركها يوسف إدريس، روايات غير مكتملة، من بينها واحدة كتبها خصوصًا لسعاد حسني كي تعود بها إلى السينما، لكن المشروع لم يكتمل». هل كتب إدريس مذكراته؟ تجيب الزوجة: «لا، كتب بعض الخواطر واليوميات، وبعض حكايات الطفولة، التي نُشرت في مجلة نص الدنيا، ولم يبدأ في كتابة روايته عن الموت، لم يحن الوقت حتى الآن لتفرج العائلة عن هذه المخطوطات».
«2»
في حوار معه، لخص إدريس منهجه في القراءة: «لا أقرأ الكتاب كاملًا إلا بعد الوقوف عند بعض صفحاته، فإذا أعجبني قرأته كاملًا».
في المكتبة عشرات الكتب الإنجليزية، كثير منها عن الأدب السوفييتي الذي يبدو أنه كان مولعًا به، والمدارس الجديدة للكتابة، «الكتابة الجديدة في إيطاليا»، روايات لكتاب أمريكان مثل «جيمس بولدوين»، الكتاب المقدس، وأعمال لجيل الستينيات، تجليات الغيطاني، تغريبة مجيد طوبيا، ترابها زعفران لإدوار الخراط، وطبعة صبيح من «ألف ليلة وليلة»، وهو الكتاب الذي قرأه بمتعة تحدث عنها في حواراته الصحفية كثيرًا.
في جولة بين مئات الكتب التي أهداها أصحابها إلى يوسف إدريس، نتوقف عند بعض هذه الإهداءات:
يهديه محمد المخزنجي ديوان «أعراس» لمحمود درويش، ويكتب له هذا الإهداء: «إلى الرجل القصيدة في القصة العربية، وسيم الوجه والروح: يوسف إدريس». يواصل المخزنجي إهداءه الطويل: قصتك الأخيرة «أنصاف الثائرين»، فيها حزن عذب، وفيها تشخيص دقيق لأصل الداء، وفيها، كما أحسستها، ما نحن فيه. سرى في الليل على غير هدى.. بحث عن عمل مأوى ومأوى عمل. نعم. يقودنا سائق أعمش. نعم. نعم، يختلس.. نعم، وكأني بهذا العرش فوق تلك الشجرة (صورة باهرة الصنعة). نحن صنعناه، ويعتليه مرة الخواجة، ومرة.. آه. يا أيها الرجل الشجرة في تلك الأرض. كم هي عميقة في أحشائها جذورك، ولا خوف من هبة الريح. وخد بالك من نفسك يا جذرنا، وسندنا. نحن من تعلمنا ونتعلم منك. نحبك، وسنظل نحبك. محمد.
يكتب محمد حسنين هيكل على كتابه «زيارة جديدة للتاريخ»: «إلى يوسف إدريس.. الصديق والفنان والإنسان، بكل محبة وإعجاب.. هيكل». ويهديه نزار قباني ديوانًا، ويكتب له: «إلى الطفل الجميل الذي يحترف الشقاوة والغضب.. بحب كبير. جنيف - 1986 - نزار». وعلى كتابه «مصر بين عهدين» يكتب توفيق الحكيم: «إلى يوسف إدريس الفنان الذي أستطيع أن أقول إنه عبقري، والعبقري فيه امتياز وجنون، وأحب في يوسف إدريس امتيازه وأنزعج من جنونه، ومع ذلك له مني كل الحب». وفي كتاب ثان يكتب الحكيم: «إلى العزيزين سامح وبهاء يوسف إدريس.. متمنيًا لهما المستقبل المشرق المجيد الجدير بمصر الغد، وبوالدهما الموهوب».
يكتب أحمد بهاء الدين: «إلى أعز الأعزاء، يوسف ورجاء، مع كل الحب، أحمد». ويكتب له لويس عوض على كتابه «الفكر السياسي والاجتماعي»: «هدية للصديق الكريم الدكتور يوسف إدريس.. صفحات عن القلق المقدس، وليست عن العجول المقدسة، مع خالص تقديري».
يكتب له محمد عودة على كتابه «بلا مواعظ»: «إلى يوسف إدريس، بكل الود الذي تستحقه». ويكتب له رجاء النقاش على كتابه «عباقرة ومجانين»: «إلى سيمفونية العبقرية الإدريسية: يوسف إدريس ورجاء الرائعة وابنتي وحبيبتي نسمة إدريس.. الزهرة الحلوة والموهبة الجميلة وابتسامة الأمل في أيام جديدة وقادمة، إليهم جميعًا، مع خالص محبتي».
«إلى الصديق الدكتور يوسف إدريس.. تحية لقاء لا أنساه بتقدير وإعجاب كبيرين.. بيروت 1968»، يكتب له أدونيس. ويكتب يوسف الخال على ديوانه قصائد مختارة: «إلى من تجاوبت معه كثيرًا ووجدت فيه أخًا لي.. سميي العزيز يوسف إدريس. يوسف الخال 1964».
يكتب محمد دكروب على كتابه «شخصيات وأدوار في الثقافة العربية»: «الحبيب يوسف إدريس، يا صديق العمر، وفناننا المبدع، مع حبي العميق وتقديري الذي لا تكدره أي غيوم.. هذه فصول عن الناس الذين أحببتهم، ولك فصل كبير خاص في الجزء الثاني في هذا الكتاب. 1988».
سعد زهران يهديه كتابًا: «إلى نبضنا المتدفق، ونجمنا المتألق دائمًا في سماء الفن والأدب والفكر والسياسة.. الدكتور يوسف إدريس جعلنا الله عند حسن ظنه». أما كامل زهيري، فيكب: «إلى الفنان يوسف إدريس، دامت مودتنا». وتكتب عائشة عبدالرحمن: «إلى الصديق الدكتور يوسف إدريس، تحية التقدير والمودة، عائشة».
سمير عبد الباقي يكتب له: «إلى يوسف إدريس، مساحة في الوطن، ومسافة في العصر، ونبضة في قلب كل عاشقي مصر». ويكتب غالي شكري: «إلى صديقي الفنان يوسف إدريس، مع خالص الود والتقدير». ويكتب خالد محمد خالد: «إلى الأخ الكريم يوسف إدريس، مع خالص تقديري».
على صفحات ديوانه «يقول الدم العربي»، يكتب فاروق شوشة: «إلى المبدع الكبير، الدكتور يوسف إدريس، تحية للشعر المتوهج في ثنايا قصصه، وشظايا قلمه، مع عميق المحبة». وتكتب الروائية الكويتية ليلى العثمان في روايتها «امرأة في إناء»: «أستاذي الكاتب الكبير المبدع يوسف إدريس، اليوم خرجت المرأة من إنائها، وصافحت وجه الشمس.. ليلى». ويكتب «ساسون سوميخ»: «إلى الدكتور يوسف إدريس.. مع خالص ودي.. ساسون- القاهرة 15-7-1984). إضافة إلى عشرات الإهداءات الأخرى.
قد يعجبك أيضًا: مكتبة محمود درويش: أثر الشاعر لا يزول
«3»
الخلافات بين إدريس ومطاوع، رغم عنفها، كانت عادية، وقد حدثت أيضًا مع يوسف شاهين.
في حوار إذاعي قديم مع يوسف إدريس لخص منهجه في القراءة: «لا أقرأ الكتاب كاملًا إلا بعد الوقوف عند بعض صفحاته، فإذا أعجبني أو وجدت فيه ما يشدني قرأته كاملًا، لذلك أفخر بأنني مقل في القراءة، فالقيمة ليست في كثرة الكتب التي يقرؤها الإنسان، وإنما في مدى الاستمتاع بما نقرأ، والاندماج الكامل مع موضوع الكتاب، واهتماماتي بالكتب علمية وتاريخية وأدبية».
«قرأت كتابًا عن الكون وتكوين الشمس والقمر، فخصصت مساحة من عقلي لعلم الفلك، وعندما شدني كتاب الأيام لطه حسين خصصت مساحة من عقلي للأدب، وقرأت كتابًا عن نابليون بونابرت كان سببًا في إضافة التاريخ عمومًا إلى اهتماماتي».
يكمل: «بدأت أقرأ روايات أجنبية مترجمة إلى جانب روايات أجنبية بالإنجليزية والفرنسية، وأفضل قراءة المؤلفات الحديثة منها، مثل كتب العلم ونظريات الذرة والفضاء وغيرها، ومع الوقت أصبحت القراءة ممتعة جدًّا ومفيدة في اكتساب مهارات أخرى كإتقان اللغة». واستطرد: «أنا لست من الكتاب الذين يعيشون في برج عاجي.. أنا أعيش في قاع المجتمع وفي وسطه وعرضه وطوله، وأتعامل مع القراءة بشكل عام بمزاج خاص، وأول كتاب قرأته هو (ألف ليلة وليلة)، وأقرأ الكتاب مرة واحدة، ولا أعيد قراءة كتاب سوى القرآن الكريم، ذلك لأن معانيه تختلف مع السن».
اقرأ أيضًا: في مكتبة صلاح جاهين: الرجل الذي أراد أن يكون عصفورًا
أسأل زوجته: هل كان يضع بجواره كتابًا في أثناء الكتابة: معجمًا أو قاموسًا مثلًا؟
تجيب: لا، كانت لغته قوية، وعندما ينتهي من العمل لا ينظر فيه إطلاقًا، مرات قليلة كان يعيد قراءة ما كتب، ليغير جملة أو كلمة. لم يكن يتعامل مع الأدب مثلما يتعامل مع المقالة، المقالة تأخذ في يده نصف ساعة، بمجرد أن تأتيه الفكرة يكتبها مباشرة، إنما في القصة، يجلس ويناقش، يتحرك جيئة وذهابا. «الفرافير» أقرب أعمال يوسف إدريس إلى قلبه، وأشدها صعوبة، فالمسرح صعب، والفكرة كانت جديدة، أرهقته تمامًا، والأمر لم يتوقف عند الكتابة، بل إنها أتعبته أيضًا في أثناء الإعداد لها على خشبة المسرح، لأن مخرج العمل كرم مطاوع كان من الشخصيات المرهقة جدًّا في التعامل، عنيف الطبع، والدكتور يوسف كان عنيفًا أيضًا، ما زاد من صعوبة الأمر عليه، إلا أنها في النهاية خرجت بشكل لا مثيل له، وهو أحبها كثيرًا.
الخلافات بين إدريس ومطاوع، رغم عنفها، كانت عادية، حدثت أيضًا مع يوسف إدريس عندما كان يكتب ليوسف شاهين فيلمه «افتح القلب». ولكن اصطدما كالعادة، وأصبح الفيلم «حدوتة مصرية».
حكى الدكتور محمد أبو الغار أن يوسف إدريس جاء إلى حفل عيد ميلاد الكاتب محمود سالم متأخرًا بعض الشىء، أزاح الطعام من فوق الترابيزة عند دخوله، وصعد ليلقي خطبة طويلة على الحضور، لم تكن ذات موضوع محدد، لكنه في نهايتها قال: جئت لأودعكم لأنني سأموت. ومات إدريس بعد الواقعة بيومين، كان شفافًا لتلك الدرجة.
وإليكم بعضًا من الصور التي حصل عليها «منشور» من أسرة الكاتب الكبير: