يوميات الأسبوع الأول من كأس العالم 2022: تأملات قطرية

التصميم: منشور

عبد الرحمن المري
نشر في 2022/12/07

«بينما يمر الجميع مرور الكرام، تراني لا أزال واقفًا»

- لودفيغ فيتغنشتاين

لا أزال أستطيع استحضار فوج العواطف التي تدفقت ليلة الثاني من ديسمبر 2010، لحظة إعلان فوز دولة قطر بحق استضافة كأس العالم 2022، رغم عُسر استدعائها. فذاكرة إنسان عاش عقدًا تراجيديًا من التطورات التقانية والتحولات السياسية والاجتماعية في محيطه العربي، وما يستدعيه ذلك من تحول ذهني على الصعيد الجمعي، لا بد أن تكون منهكة حد العِشْيان.1

كنت في ريعان اليفاعة، على مشارف الرشد، أتجه حثيثًا لإتمام دراستي الثانوية مجللًا بالوداعة التي كان يحملها جيلي تجاه المستقبل. ووقتها لم يكن يحين مقام كرة القدم إلا وجدتني إلى جانب «ربعي» واقفًا متسمرًا. كانت لحظة ضج بها المكان، وصدحت أصوات القريب والبعيد، وسرعان ما هم الناس إلى الشوارع للاحتفال، وبعضهم هرع منتشيًا إلى الجموع التي ملأت كورنيش الدوحة.

ولأنه حدث شِتائي، و«الضو شابة»2 في كل خيمة و«دكة»3 و«عزبة»4 و«عنة»5، ملأت رائحة السَمر الأرجاء يزاحمها نفح من الرمث. أما أنا فقد بقيت وفي أنفاسي انغلاق نتيجة استنشاقي حطب الأرطى الذي جاء به خالي من صحراء الشمال.

اعتادت أنظار العالم مشاهدة الشأن الكروي متمركزًا في أوروبا الغربية، حيث تمأسست في العالم الحديث: لماذا يكون مقر الفيفا في قلب أوروبا فقط؟ ولكن بدا أن الأمور آيلة للتغيير، وأن كيانًا عربيًا قرر أن يعتلي خط الهوامش ويقتحم عرش المتون.

ما الذي يعنيه أن تفوز بلادي بتنظيم كأس العالم؟ استقر هذا السؤال في صميم إدراكي، ولكني لم أتمكن من فهم دلالته. وهذا طبيعي، فهل كان هنالك من يملك الإجابة الوافية حينها؟

كدأب الأحداث الكبرى في السيرورات الصغرى، فإن الذين يملكون القدرة على إزاحة ما علق بها من غموض آني قلة، والذين بمستطاعهم إضاءة خارطة الطريق بانوراميًا قلة قليلة، بل إن الذين بوسعهم أن يبسطوا الحدث في شتى أبعاده واستحقاقاته النقدية، وهم أكثر أهمية، أشد ندرة من ندرة الحدث نفسه.

المعلومات قد تزداد بكثرة، وقد ينخفض منسوبها، بيد أن الأمر ليس في فيضها أو غيضها، إنما هو في صحة الوصول إلى الحقائق، وصواب نقلها، بعيدًا عن نزعات الاحتكار، التي يجنح المرء في عصر التقنية إلى أن «يخزم» فيها «خشم» المعرفة6

وقد قيل لي «أنت امش بس وعقب بتدري». هذا ما حصل، مشينا 12 عامًا حتى أدركتنا لحظة العشرين من نوفمبر 2022، والتي بدت في أوائل «طلتها» غير حقيقية، كأنها مستوحاة من مشهد أسطوري غائر في ذاكرة مؤجلة، ثم انهمر فجأة.

مَن تابَع الأصداء المحلية في قطر طيلة الأسابيع القليلة الماضية، والتي اختلط فيها حابل الهواجس القلقة بنابل المشاعر المتطلعة، جراء الشعور الشعبي بالضغط من المضاعفات المحتملة للبطولة والمخاطر الرمزية التي لا محالة (في نظر البعض) ستمس جلباب المجتمع وتهدد قيمه ومبادئه، من تابعها ولو عن غير كثَب سيكون أسرع استيعابًا، وأكثر تمثُلًا لشعور الارتياح الذي تسلل إلى صدور الناس، فبدد وحشتها وأبهج أضلعها، بعد موقفين أساسيين: 

  • قرار الدولة القطرية منع تناول المشروبات الكحولية في محيط الملاعب.
  • حفل الافتتاح، الذي رأى السواد الأعظم في الداخل والخارج أنه انعكاس حقيقي لثقافة البلد وامتداداته العربية والإسلامية.

ها نحن الآن، بعد اثني عشر عامًا، منذ وهج الفرحة التي نُسجت حينها من خيطين اثنين،

أولًا من تدافع الإحساس الوطني، بوصفه إحساسًا ناشئًا عن السياق الزماني والمكاني المُعبر عن إرادة العيش المشترك والالتحام بالفكرة المثال، أي الوطن، كما يقول إرنست رينان،

لا إحساسًا طبيعيًا كعضوية النبات في الطبيعة مثلما يزعم يوهان فيخته.

وثانيًا من تنامي الإحساس بالعالمية التي قُدت من طموحات ردم الفجوة بين الواقع والمثال، في فضائنا القطري.

مرورًا ببلادنا التي بُنيت أمام أعيننا، من جديد، وتكونت خلقًا جديدًا.

وصولًا إلى صافرة بدء أولى مباريات البطولة، التي لا يزال مفعولها نافذًا في القلوب.

خلال العقد الماضي، تضاعف عدد سكان قطر بنحو 50%. عكفت هيئة الأشغال العامة بالتعاون مع وزارة البلدية والمواصلات وجهات مؤسسية أخرى على أن تغير وجهَ المدينة، تستحث دهشتها، تقطف أحلامها، تعصر آلامها، دون كلل، حتى تشكلت ملامح الدوحة النابضة الآن نبضها المسموع بشدة، وتبدت منذاك شيئًا فشيئًا طرقها السريعة وجسورها المتداخلة. 

ارتفعت مع مرور الأيام أبراجُ مدينة لوسيل (أقصى شمال الدوحة)، التي كأنما «تلاحي»7 أبراج منطقة الدفنة (الواقعة في الجزء الشمالي من قلب الدوحة). وتدريجيًا، اكتملت قطارات المترو في أحشاء الأرض، والتي لا يظهر ضوؤها إلا في أطراف الدوحة، أي في محطات جامعة قطر، ومدينة الوكرة، ومول قطر.

ربما انقضت العهود التي كان يستيقظ فيها القطري والساكنُ أرضها، فيصطبح أول ما يصطبح بمرأى حواجز أعمال البنية التحتية، ويلمح أول ما يلمحه شعارَ هيئة الأشغال، خافقًا جناحيه كما لو أنهما علامتان فصيحتان على إصرار صناع القرار على تعمير البلاد من أقصاها لأقصاها. 

ربما تنحسر دمدمات الأرض التي شكلت جزءًا من ذاكرة السمع، كما يقول الشاعر: «غرني أن أرى الديار بعيني، ولعلي أرى الديار بسمعي»8، وربما هي دليل على جموح الإرادة، لكن كل ذلك بات منطبعًا دون ريب في وجدان جيل نشأ في ظلال الاستعدادات لبطولة كأس العالم فيفا قطر 2022، التي كانت حافزًا جياشًا للوصول إلى أعتاب اللحظة المُعاشة، كما لو أنها شعرة ما بين العقل والجنون.

كما لو أنها تشي كل لحظة لدى هذا الجيل، وأنا أحدهم، بأنها ولا بد أن تكون لحظة البداية! 

وردةٌ وشظايا 

«في فمي وردةٌ وشظايا

أسكتتني عن الكلام المباحِ».

- علي الدميني

احتضن استاد البيت حفل افتتاح البطولة، في مساء تزينت فيه سماء الملعب بالدخان المنبعث من أثير الألعاب النارية، في ما يشبه الحبال السحابية.

لم يسبق للجيل الشاب في قطر أن انتظر لحظة كهذه قط. حتى لِفرط ما علقتْ في مهجته طوال السنين القليلة الماضية، صارت كأنما هي ضرب من ملحمة أكثر غمامًا من سماء الليلة الأولى.

وعلى صخرة هذه اللحظة كم تهشم الصبر، وفي بيدائها الغؤور كم نفد الاحتمال. ولا مبالغة.

يحدث أن يعيش المرء في الارتقاب، حتى يشهد اللحظة حلمًا بقدر ما عاشها في بلاده لحظة بلحظة.

واللحظات هنا هي من جنس تلك التي يخوضها المرء في قَطريته اليومية خوضَ المجذوب، إذ ليس بالضرورة أن يكون مستحضرًا مدركاتها، فإنما مَثلها مَثل الصدى الذي انغرس وقعُه في الذاكرة، وعشش رجْعُه في مدار القلب.

كانت السنوات السابقة بالنسبة للقطري مثل المدارج، ولا يستلزم كونها مدارج أن تكون مرقى أو مهبطًا، مهما قيل في وصفها، بل هي مدارج لكل شيء: مدارج في الهواء يمكن أن تعني كل شيء ملموسًا كان أم مجردًا، أو ألا تعني شيئًا واضحًا يمكن إمساكه، في ذات الآن.

أما ملعب البيت فإنما يرمز بنيانه كما هو باد إلى بيت الشَعر، المنزل الذي كانت تبنيه البدو قبل بزوغ المدن الحديثة، منسوجًا من صوف الغنم والماعز والإبل.

بدَتْ رمزية الملعب طاغية، أقله في أعين العرب الذين تملك الماضي وجدانهم، وظلوا يُمعنون دائمًا في تذكره أو استحضاره. فياما وياما اهتزت أعطافهم إثر نفحة تهب عليهم منه، وتراهم حين تطرقُهم نبرة شيخ أو عجوز ممن شهد ذلك الزمان ترتعد عروقهم حنينًا.

ما الذي يدل عليه افتتاح أهم حدث رياضي في العالم داخل خيمة؟ وأن تُرقص العرضة في حفل افتتاحه؟ وأن يعود الصوت المنسي لشجن أمهات الغواصين؟

نشأ جيل الثمانينيات والتسعينيات في الخليج والجزيرة العربية في عمومهم بين عالمين: بين هابيل وقابيل، بين ثقافتين تشدان نياط قلوبهم شدًا، وباتوا في حيرة وجدانية يسيل جمرُها في أعينهم. لذا فهم ينفقون ضربًا من حياتهم اليومية في تمثُل الماضي، يبذلونه ربما في سبيل الهروب مما يعتريهم من تحولات الحاضر، وهو ضربٌ لا خلاف أنه واحد، ولكنه بات يغمر من السلوك الخليجي شطرًا عريضًا، وينشطر في ذاته إلى ضروب صغيرة عدة. وإلا في أي إطار تنتظم سباقات الهجن ومسابقات الصيد بالصقور ومهرجانات المحامل السنوية والشهرية والأسبوعية؟

تلاشى مرأى ماضي الخليجيين هذا بملء أعرافه ورموزه، واحتال من حيث كونه مصدرًا للسكنى إلى غول يجثم على مفاصل الذهن، ينزع عن هذا الكائن الخليجي قدرته على الاستيعاب. 

منذ 50 عامًا، أي منذ الطفرة النفطية الأولى (نقطة بدء التاريخ الخليجي المعاصر، لا لحظة اكتشاف النفط في المنطقة كما يتوهم كثيرون، ولا لحظة استقلال الإمارات الخليجية عن التبعية البريطانية)، والخليجي يصحو ويبيت على حدث يسلمه بدوره إلى حدث آخر. تتناسل الأحداث حوله: تخبو، تتداخل، تتتابع، لتنسج في الأخير المشهد الكامل لواقعه الذي يُطبِق على بصره وأسماعه. بيد أنه لا يوجد «أخير» في هذا المشهد، فالتحول هو الثابت، كما يقال. ولا يعني ذلك أن الخليجي يعيش هذه الأيام حالة من السيولة بلغة زيغمونت باومان، بل إن المسألة تحتفظ بطاقة عالية من الخصوصية، وهي خصوصية ولادة لخطوط التلاقي والافتراق بينها وبين السياقات الأخرى. تبني مقولات باومان على عواهنها وإسقاطها على واقع الخليج يدل على الكسل، فمفاهيم الدولة والمدينة والفرد والمجتمع في المخيال العربي تتباين بصورة جذرية عن مفاهيمها في المخيال الأوروبي، التي تشكل نقاط انطلاق باومان في تفكيره ومعالجاته.

أي خليجٍ أنت يا خليج؟

«خليج ما وشوش المحار في أذني

إلا سمعتُك صوتًا دافئ الخدر»

- غازي القصيبي 

كنت ولا أزال، وبدافع من اهتمامي بتأمل التحولات الاجتماعية والثقافية في بلادي (وكل بلاد الخليج بلادي)، أبحث في المعاني الكامنة خلف حجاب التمتمات والآراء والانطباعات لدى جيل الستينيات والخمسينيات والأربعينيات، بما أنهم أولئك الذين شهدوا عمران المكان وتشاهقه بعد أن كان محض تراب. ومن بين جمع المعاني، أجد دائمًا معنى الدهشة، الذي يعبر أكثر ما يعبر عن جسامة الحال.

بعبارة أخرى: أجد هنالك شعورًا بالغربة يتسم بالازدواج. فلدينا هنا غربة، وهذا شعورها الأول، ولدينا بعد ذلك عجز عن التعبير عنها، وهنا مقر ازدواجيتها.

ثمة إذًا نسق من أنساق الاغتراب، وهو اغتراب صنيع نفسه، لم ينجم عن تصدع الروابط التقليدية (لأنها لم تتصدع أصلًا) نتيجة مثلًا طغيان نمط التصنيع المديني9 الذي انخرط الناس في ظلاله كما يشير ماركس. بل هو اغتراب ناتج عن إعادة إنتاج التقاليد في حُلة جديدة، وهذا في ما أرى قد خلق حالة الالتباس العميقة في الذهن المعاصر، التي ترجع إليها معظم التفاعلات والظواهر الأخرى.

أما في قطر تحديدًا، فإن الصدمة الصامتة التي خالجت الأضلاع وانسلت انسلال الريح جراء القفزات الكبيرة في العقدين الماضيين (وقليلٌ ما يُخلق نقاش حولها بسعة بال وأناة وتؤدة)، قد وَسَمت في شخصية القطري قدرًا مضاعفًا من الهدوء الذي يأخذ مظاهر عدة، فحينًا يبدو مبدى «الخجل»، وأحيانًا يكون مثل «البرود» في السَمت والحضور والتواصل.

والحق أن ما سبق يفتح الباب للسؤال الحاضر الغائب: «من هو القطري؟». هل هناك إنسان قطري حقًا؟ ألا يستلزم ذلك وجود إنسان بحريني وكويتي وعماني وسعودي وإماراتي بالضرورة؟ وما معنى الإنسان الخليجي إذًا؟

في البدء، فإن الانتساب الخليجي هو انتساب ثقافي تبعثه المعايشة والاحتكاك، قبل أن يتحول مع تأسيس مجلس التعاون الخليجي إلى انتساب سياسي فرضته الظروف الجيوسياسية المتراكمة.

كان الخليج منذ القرامطة (مع بعض الاستثناء اللاحق)، مرورًا بالعيونيين والعصفوريين والجبريين العقيليين وإمارة بني حميد الأولى والثانية (دولة بني خالد)، وصولًا إلى صعود المشيخات الحديثة: مأوى ومنتجعًا ومقصدًا للتعايش. هذه سمته الغالبة، ولكل قاعدة استثناء، كما هو بدهي.

وأنا هنا أتبنى حقيقة أن الحافز الأكبر وراء هجرة الأسر والقبائل في الخليج والجزيرة العربية في ما يطلق عليه الراحل خلدون النقيب «الحالة الطبيعية لدورة النخب القبلية»، هو العامل الاقتصادي، مع استحضار تأثير العامل الاجتماعي المتمثل في النزاع القبلي، وتأثير العامل الديني/المذهبي الذي آل في ما بعد إلى سبب رئيسي لنزوح الكثير من الأسر والجماعات. هذه الهجرات تسارعت وتيرتها خصوصًا بعد اكتمال تشكل التراكم الأولي لرأس المال السياسي لدى بعض المشيخات في نجد والبحرين والكويت.

ومن الشواهد أولًا: التعايش على الساحل الخليجي بما هو الطابع السائد، وثانيًا: مركزية البعد الاقتصادي في شروطه الأمنية بما هو عنصر أحْكَم عملية تشكل خارطة المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية. يبرز لنا مثال القرامطة الذين لجأوا (بوصفهم نواة صغرى تسعى إلى تشييد حكم مستقل وثوري) إلى إقليم الإحساء10، ولم يتمكنوا من حكم المنطقة في بادئ أمرهم إلا بعد أن اعتمدوا سياسات اقتصادية، تضمن للمكونات الاجتماعية رزقها وعيشها وتجارتها. وقد كان هذا العامل الاقتصادي حاضرًا بصورة أساسية في كل ديناميات قيام الإمارات المتعاقبة واضمحلالها.

خشية الجوع والفقر وتبدل الحال يقوم في زماننا المعاصر مقام الهاجس، الذي بات يضرب أوتاده في وعي الإنسان الخليجي، وفي كيفية نظره إلى شتى أبعاد محيطه. الإنسان الخليجي في أقصى عاديته يخشى الجوع والظمأ أو الغرق، تلاحقه هذه الأشباح أينما ولى. لا يزال يعيش متسربلًا بسدائل الثنائية البرية والبحرية، يذرعُ متاهاتها القاسية. 

وليس البارادايم أو النموذج الحاكم للمجتمعات الخليجية سوى الاقتصادي، أما النموذج الحاكم للدول الخليجية فهو السياسي، ولكنهما يتناوبان بكيفيات معقدة. ويبقى الأمر في آخر عتباته لا يعدو كونه جدلية مركبة، لا تتكون من خيط واحد، بل من تقاطعات الرغبة والطمع والحب والخوف والرجاء، من التحام البنية بالفاعلية، وتداخل العنصر الداخلي مع الخارجي. 

سأذكر بعد قليل لم عرجت على هكذا مسألة تستفيض صعوبة، أو ربما تستلزم منبرًا آخر.

ولكن عودًا إلى السؤال الثقيل أعلاه: من هو القطري؟ فالإجابة عندي إنما تتشكل من حقيقتين: الأولى أن الحديث عن الخليج هو حديث عن الاختلاف لا التشابه، فالمتشابهات هي البديهيات التي لا مجال للحديث حولها، على الأقل عندي، لأن الحديث عن المؤكد تشكيك به، وإلا فما يكون؟

المهم هنا أن هذا الاختلاف ليس سوى دائرة ضيقة تضم قدرًا معدودًا من العناصر الاختلافية، ومن أبرزها:

  • الهوية القانونية لكل بلد خليجي، والتي تطورت عن السيرورات الصغرى لتفاعلات التاريخ المحلي.

إضافة إلى عنصرين آخرين لا يقلان بروزًا: 

  • الحدود الجغرافية بما هي حدود للتخيل، ما يعني أنها حدود لتصور الواقع والتعبير عنه، وتشكله، والتشكل من خلاله أيضًا.
  • التمايز على مستوى ما يمكن أن نسميه التراث الثقافي الوطني الجديد. فمحمد عبده وبدر عبد المحسن في السعودية، وميحد حمد وعوشة السويدي في الإمارات، وناصر صالح وفالح العجلان في قطر، وعبد العزيز المفرج (شادي الخليج) ومحمد الفايز في الكويت، على سبيل الذكر لا الحصر، قدموا إسهامًا عميقًا يتفوق كثيرًا على جهود المشاريع المؤسسية في تكريس الفروقات الطفيفة والنامية بين بلدان الخليج، بما هي المساحة التي تتشكل منها هوية كل بلد. 

أما الحقيقة الثانية فهي أن القطري إنسان يمكن تمييزه بوضوح، ويكبر هذا التمييز عامًا إثر عام. فبالإضافة إلى ما وفرته ثورة التواصل الحديث من أدوات تأثير، مثلت الأزمات السياسية الأخيرة وسيطًا انقداحيًا لعملية خلق وإعادة خلق صورة القطري بما هو شخص مستقل يعبر عن «شخصية قطرية» قائمة بذاتها. وهو ذلك الكائن المعجون من صفرة الرمل وقطر البحر، فلا هو بدوي ولا حضري، بل الاثنين في وقت واحد، في ذروة عنفوانهما وهدوئهما، كل آن.

لماذا أعرج على هذه القضايا الدسمة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس؟ أقصد المسألة الوطنية/القومية، ولا سيما بعد نشوء المركنتالية كأول أطوار الرأسمالية العالمية، ثم تطورها إلى الرأسمالية الصناعية وامتداداتها إلى الأطراف، أو إلى عالم الجنوب كما بات هذا المصطلح الأخير يتواتر في الأدبيات التحررية والتاريخية الصادرة في العقود القليلة الأخيرة. لا ننسى أن تنامي القومية تاريخيًا لا ينفصل عن تطور الرأسمالية، إذ أن هناك تلازم بنيوي بينهما، ما يعني أن هجاء الرأسمالية في وجه من وجوهه (النظري تحديدًا) يعني بالضرورة نفورًا عن السردية القومية. 

إن تعريجي عليها هو لأنها حاضرة على الدوام في المسافة الفاصلة بين الصمت والكلام، في الخُطى والرُّبى والصهد والرمال، ولأنها تتجلى في أكثر الأوقات التي يغفل الناس عن حقيقتها أو أصل منشأها، فلا سبيل إلى طمرها، ولا مناص من الإشارة إليها ولو بشكل عابر.

«حين ينطق الصمت»

«هاتان العينان ليستا عينيّ».11

- بزرك علوي

أشرقت سماء اليوم الثاني من المونديال، والناس في مهاجعهم إلا المئات من رجال الأمن والآلاف من العاملين في المرافق الحيوية للدولة الذاهبين والقافلين، ولفيف من القطريين السارحين12 نحو مقار عملهم. ذلك أن مجلس رئاسة الوزراء أقر في مطلع أكتوبر الماضي نظام الـ20-80%، الذي يعني أن كل جهاز إداري تابع للحكومة يقسم موظفيه بين 20% يعملون في مكاتب العمل الرسمية، و80% يعملون عن بعد، وذلك لأغراض عديدة من أظهرها تقليص نسبة الزحام.

بدأت البطولة إذًا، وهذه ثاني شمس تطل على «أهل الدار». وأهل الدار مصطلح يشمل خلقًا كُثر. 

فوضى من المشاعر المتداخلة، تكونت وراحت تدب في نسيج الأفكار، تستحدث أساليب حياتية جديدة وإن كانت مؤقتة، تقلب جداول الأوقات رأسًا على عقب.

هناك عدد معتبر من القطريين كان يزمع في نفسه نية السفر عند بدء البطولة، وذلك مع اختلاف في الدوافع بين من رأى في الإجازة فرصة ذهبية لا بد من اغتنامها للارتحال، ومن ودَّ أن ينأى بنفسه عن «أجواء المونديال المنفتحة» ومضاعفاتها، وبين وبين.

ولكن بدا أن العديد منهم ألغى نواياه الأولى وقرر الجلوس لأسباب مختلفة، من أهمها أنها تجربة بلادية استثنائية لا بد أن تُعاش، أو تُشهد عن قرب.

لم تغب شمس هذا اليوم الثاني إلا بعد هزيمة الفريق الإيراني من الفريق الإنجليزي بسداسية مقابل هدفين. كان أمرًا متوقعًا، ولكن الذي لم يكن متوقعًا كان الصورة الشاعرية التي انعكست في امتناع لاعبي المنتخب الإيراني من أداء النشيد الوطني، تضامنًا مع المظاهرات المتزايدة في مختلف مناطق إيران.

في العقود الأربعة الماضية، تسيّست العلاقة بيننا في الخليج وإيران حتى لم تعد تسمح بهامش لتناول المجالات الأخرى. وهذا أمر كارثي، لكون الجسور الأخرى التي يمكن العبور عليها نحو فك الاشتباك السياسي غير متاحة، ما يعمق الفجوة ويعطي مساحة أكبر لتلاعب القوى العالمية بهذه الجيرة المثخنة.

هناك إيرانيون تجاوزوا الكهولة، تميد بهم الشيخوخة في مساعي الرزق بهذه السن الطاعنة، يملأون سوق واقف الشعبي، يعملون «حمّالي» لبضائع المتسوقين من كل مكان، ليس لهم أهل أو «عزوة» يسندونهم. وإيرانيون آخرون يعملون في التجارة، وفي مجالات عدة منها التدريس، فالدوحة تضم المركز الثقافي الإيراني، الذي ينظم أنشطة مختلفة من ضمنها دورات موسمية في تعليم اللغة الفارسية. 

جمعتني الأيام ببعض المقيمين الإيرانيين، وبعض الزائرين. وكان مدار حديثي معهم غالب الأحيان حول المشتركات التاريخية والثقافية، وكيف أنها غُيبت، ولمَ صار من الصعب البناء عليها، تمهيدًا لتناول مصدر الإشكال، أي: السياسة. فإذا ما طرقنا تخوم الشأن السياسي، حتى كشفوا لي وجهًا دفاعيًا، يتبتل في الذود عن النظام، رغم أن لديهم ولا بد آراء نقدية مغايرة. حصل ذلك مع إيرانيين من أقاليم متنوعة، أبدوا لي دائمًا نفس الموقف. لذا فإن هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها إيرانيين على أرض قطر، يبدون موقفًا معارضًا للنظام الإيراني، بهذا التعبير الذي تكمن شاعريته في أنه إثبات انتماء للقوم من خلال رفض أداء النشيد «القومي»، للمفارقة!

عوالم إثر عوالم

قبل ما يناهز 35 عامًا، بُنيت منطقة «الريان الجديد» في الجنوب الغربي من قصر القلعة، مقر الحكم في الستينيات. ويمكن بسرعة استنتاج أن صفة «الجديد» في اسم المنطقة تقتضي وجود «ريان قديم»، وهذا حاصل بالطبع. وتعد «الريان القديم» من أوائل مدن قطر التي دب فيها العمران، وتقع جنوب القلعة، وفيها كانت الحكايات الأولى لقطر المعاصرة.

منذ ما يقرب من 20 عامًا، تحولت مساحات واسعة من امتدادات منطقة الريان القديم اليوم لتحتضن مؤسسة قطر Qatar Foundation. أنشأت المؤسسة عام 1995، ومن أهم ركائزها مشروع المدينة التعليمية. وهذه المدينة تأسست في أكتوبر 2003، وتضم ثماني جامعات (6 أمريكية، وواحدة قطرية، وأخرى فرنسية). وفيها تتموضع عشرات الكليات والمراكز والأقسام والمؤسسات العلمية والبحثية، التي خرجت ودربت آلاف القطريين من الذين أصبحوا كفاءات قيادية في مختلف قطاعات الدولة. 

خلقت المدينة التعليمية ولا شك مسارًا جديدًا في البلاد، وذهنيات جديدة، ومفاهيم جديدة يتنازع البعض بين من يراها «دخيلة» و«متنورة». ولا يزال الجدل المتقطع قائمًا منذ تأسيسها، إلا أن المدينة أصبحت واقعًا، لن يُلغى ولن يُعدل، مع وجود إمكانية تكييفه أو تحجيمه. هي الآن إحدى أدوات إنتاج الثقافة داخل الفضاء المحلي، وليقل أحدهم ما شاء حولها، عما إذا كان ما تفعله هو صناعة للمعرفة وصقلًا للمهارة لدى المكون الوطني، أم دمغًا للعقول وتغريبًا للفكر، فهذه مسألة أخرى.

وقد قيل في محل آخر إن المدينة التعليمية «خلقت عالمًا في عالم آخر، وسط عالم محيط بها ومفارق لها ومختلف عنها». ومن أجل رأي ينأى عن الصوابيات ويقترب أكثر من الرؤيا (بالألف)، فإن الدوحة اليوم إنما هي عوالم شتى، يموج بعضها فوق بعض، حتى ليبدو أن تعددية العوالم الدوحية أصبحت أساسًا لتشكلها الحديث، وبقائها على ما هي عليه. 

في ذروة انتشار منصة «كلوب هاوس» قبل أقل من عامين، تأسست غرفة نقاشية شارك فيها جمع من الشباب القطريين انقسموا إلى فريقين: «اللوكالز»، نسبةً إلى المحليين من غير المنتسبين أو المتأثرين أو المؤيدين للثقافة الأمريكية، بل المعارضين لها بالأصالة، و«الجكن نقتس» (Chicken Nuggets)، وهم أولئك المتبنين لـ«قيم العصر» التي تحملها ثقافة أمريكا، وأبرزها اللغة الإنجليزية. ذهب كل فريق منهم للسخرية من الآخر، ووصمه بصفات من قبيل الانهزامية، الجهل، الخضوع، الرجعية، التخلف، التقليد، التبعية... وهلم جرا، ولكن طوال النقاش الذي امتد ربما لساعتين وأكثر، توقف معظم المداخلات عند هذه الحدود الشخصانية، أي ما يعتنقه كل فريق وما هو رابض في سجنه، فلم يظفر الحوار العلمي ولا الحديث الحيادي بأي نصيب.

نعم، لا يصح الحكم على النسق الاجتماعي من خلال حالة واحدة تخضع أساسًا لضوضائية الظروف التي وُجدت في مساقها، غير أنه يمكن لنا أن نتلمس من خلالها ملامح الحديث عن الشأن العام، بوصفها جزءًا من التكوين الانفعالي لدى الجيل الصاعد.

لا بأس من النقد، بل هو لازم أصيل في أي منظومة. ولا بأس من بعض الحدة، فإنها أحيانًا تصبح لازمة. كما أن التعصب ليس شرًا كله، فالتعصب الذي يكون لقيم الحق والخير والجمال ما هو إلا غَرس الأرض وحِمى الديار. ويظل انقسام البشرية حول نسبية تلك القيم أمرًا أبديًا. ولكن الذي يقض مضجع الحليم ويستفز هواجسه في دوحة أيامه ولياليه، هو حين يكون الحوار تزجية وقت وإشباع شهية، أكثر من كونه أرضية للتقدم. ولا مناص حينئذ من استنتاج أن كل حوار بهذه الكيفية ليس إلا تكريسًا لشيء وصدًا لأشياء أخرى. وهو من بين كل ما سبق: تفريط في «صناعة الكلمة»، عرفنا ذلك العارف وجهله الجاهل.

الموجودات، كما يقول الإمام الغزالي في كتابه «المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى»، ذات وجود خارجي مستقل عن الذهن، وهذا يعبر عن وجودها العيني، فإذا أدركها الذهن تحقق وجودها الذهني، فإذا سماها يصير وجودها لسانيًا. نفهم إذًا أن للكلمة وجود بذاتها، لها عالم تخلقه وتتخلقه.

وقبل سبعة عقود تقريبًا، صاغ فيلسوف اللغة الإنجليزية وأستاذ الفلسفة في جامعة أكسفورد جون لانغشو أوستن نظريته حول «أفعال الكلام»، التي أقامها على أساس مفاده أن الكلام لا يستوفي حاجة وصفية فقط، بل أيضًا يحقق مهمة أدائية. أي أن الكلام يؤدي في بعض جوانب استعمالاته مهمة فعلية، تنتج عنها آثار ملموسة، لا مجرد أقوال.

خرجتُ من الريان نحو الدوحة والساعة تشير إلى الثانية ظهرًا. كان لاعبو المنتخب السعودي يعودون إلى أرض الملعب لاستئناف الشوط الثاني من المباراة وهم متأخرون بهدف أمام الأرجنتين.

وقفت أمام الإشارة المحاذية للحي، الواقعة في ما يعرف عند أهل الحي بـ«شارع الحب»، وهي تسمية تعاني من «انقلاب مفاهيمي»، فأي حب هذا الذي سيترك كثيب النقيان وروض الشمال ليعيش بين ظلال المربعات الإسمنتية؟

يمتد هذا الشارع شمالًا من عند إشارة أخرى تجمعه بشارع صدام، ويتخذ امتداده هيئة القوس وصولًا إلى الجهة الشرقية، حيث ينتهي إلى إشارة شارع آل شافي. وهذا الأخير شارع تجاري يمتد هو الآخر عبر إشارتين: إشارة جنوبية (تجمعه بشارع الحب)، وإشارة شمالية (تجمعه ببوابة نادي الغولف، إحدى بوابات المدينة التعليمية). قال لي أحد كبار السن مرة،، وكعادتهم: «والله أني خابر شارع آل شافي يوم عاده بر». 

أما شارع صدام فقد تضاربت الأقوال حول سبب تسميته، وهو قطعًا لا ينسب إلى طاغية العصر المقبور، ولكن القول الأشهر هو أن تسميته جاءت من كثرة الحوادث التي وقعت فيه خلال فترة من الزمن، نتيجة كثرة سباقات السيارات العشوائية. أما الآن فهو يقسم الزمان (أقول ذلك مجازًا مع إدخال الألف) بين الريان الجديد وحي سكني صغير متطرَف يعد امتدادًا لمنطقة الوجبة13 من جهة، والريان الجديد ومنطقة آل غانم المعاضيد (الكرام) الجديدة من جهة أخرى. 

كنت ذاهبًا للقاء صحفية ألمانية تقيم في بيروت، تواصلت معي مطلع نوفمبر عبر البريد بغرض التعرف أكثر إلى الشعر النبطي، على هامش المونديال. أخبرتني عن تواصلها السابق مع المستشرق الدبلوماسي الهولندي مارسيل كوربرشورك، المعروف بعنايته بالشعر النبطي والإرث الثقافي للجزيرة العربية، حتى أن العلّامة الأنثروبولوجي سعد الصويان أهدى إلى مارسيل كتابه الرائع «الشعر النبطي: ذائقة الشعب وسلطة النص»..

التقيت الصحفية، التي تجيد بعض العربية وتنحدر أصولها من مدينة هامبورغ، عند اللحظة التي أعلن فيها حكم المباراة انتصار السعودية على الأرجنتين، فباشرتني بسؤال مندهش: «هل رأيت ما حصل؟».

كنت أتابع المباراة وأنا أقود سيارتي، ولم أكن أفكر فيها بقدر ما كنت أحاول أن أستبصر زلزال العواطف الأخضر الذي سيقع، وسيودي بكل شيء.

لقد تقهقر التانغو أمام إيقاع النبط، في لوحة هي الأخرى كأنما قُدّت من أضلاع الخيال.

وفي وهلات خاطفة، صُور لي أن المشهد قد تحول من حلبة كروية إلى محاورة جمالية بين أحفاد بورخيس وأحفاد خلف بن هذال.

كنت طيلة مساء الثلاثاء، الذي قضيت أغلبه مشيًا على ساحل الكورنيش، أقلب نظري فأجد العلم الأخضر يخفق.

فاضت الفرحة العارمة على عموم الدوحة. تدفق الركب السعودي، زرافات ووحدانا14، تقودهم نشوة الفوز. أما أنا فقد مضيت أتفرس في وجوه السعوديين، فأرى أشطارًا من وجه الخليج. ذات الوجه ذاته، الذي كان، وسيكون.

مواضيع مشابهة