يوميات الأسبوع الثاني من كأس العالم 2022: فهيا خذيني مياه الخليجِ

الصورة: Getty

عبد الرحمن المري
نشر في 2022/12/10

«فهيا خُذيني مياه الخليجِ»

- مبارك بن سيف آل ثاني

لو سألني أحدهم عن أكثر الجوانب اللافتة في كأس العالم قطر 2022، لأجبت دون تردد: تعدد الأعين. أعني بذلك وجود زوايا نظر متعددة أبصر الناس الحدث من خلالها. وهي ليست فقط عديدة، بل فياضة، وتتناسل مرارًا وتكرارًا.

ومن ظلال هذه الحقيقة الآنفة، ينبعث العجب إزاء حجم التباين الكبير بين مادح وقادح، لاستضافة الدولة للبطولة.

يومًا إثر يوم، يتبين (وها أنا الآن أعيش زخم أسبوعها الثاني) أن البطولة من نوع الأحداث الذي يصعب الخروج من مداره وتأمله، وتحديدًا لدى القطريين. وهذا قول ليس من شأنه أن يضفي قداسة على مجرد بطولة لكرة القدم. ولكن هل هي مجرد بطولة كرة قدم حقًا؟ أليست أكبر بكثير من ذلك؟ لا أرى إلا قليلًا ممن يختلفون على ذلك فقط.

في نظري، ربما تكون كل شيء قبل أن تكون جلدة بيضاء تتقاذفها الأقدام.

وفي كل الأحوال، ما من قداسة هنا، إنما هي الأشياء كما تبدو لعينين يريد صاحبهما أن يكون يقظًا على الدوام.

قيل الكثير عن فرادة البطولة من حيث موقع البلد المضيف ثقافيًا وإثنيًا، وقيل أيضًا عن استثنائيتها من حيث كونها تُنظم في فصل الشتاء لأول مرة، ويبقى ما قيل غيض من فيض الصدور والأبصار.

في مرحلة من مراحل الإنسان العمرية (إذ يختلف الأمر من كائن لآخر، وما أسعد الذي يكتشف ذلك مبكرًا)، يستوعب الإنسان أنه لن يتمكن من معرفة كل الأشياء الجميلة التي وُثقت، بل لا يمكن له حتى أن يوثق كل الأشياء التي شهدها.

قصارى ما يستطيع هو تأريخ الأحداث الأكثر أهمية له، ما يعني أن الحل الوحيد الممكن هو المفاضلة. 

لحظة المفاضلة هذه هي أكثر لحظات الإنسان كثافة في تاريخ البشرية، إذ تتجسد فيها محكمة القيم التي يمنح فيها الإنسان للأشياء: الأولوية.

وهو لا يمنحها من منظور جمالي أو نفعي أو واقعي أو مثالي، بل من منظور هواجسه التي تتلبسه.

اخترتُ في هذه التأملات الأسبوعية النأي قدر الإمكان عن تناول الحيثيات الرياضية الرئيسة للبطولة، فهناك من يُشبع هذا الجانب، فضلًا عن كون تسليط الضوء على جانب واحد فقط يجعله في نهاية المطاف مُترعًا بالتضخيم، وفي التضخيم كما هو معلوم قدر من الخداع والمخاتلة، كما فيه حجب لجوانب أخرى مركزية.

ورغم ما في عملية الكتابة من تقطيع وتهذيب وحذف وإضافة، فإن هذه صحبة عفوية تجوب أنحاء الدوحة، تسعى نحو توثيق بعض الأفكار والأضواء والأصوات والتهاويم في الذاكرة.

ضخامة الأشياء الصغيرة

«حيوا فريقي اللي حضر»

- غناء علي عبد الستار

استحوذتْ على انتباهي مواقفُ كُثر طوال الأسبوع الثاني، وعلى رأسها ردود الأفعال المحتدمة التي ولدتها نتائج المنتخبات العربية في الجولتين الأوليين من البطولة. مُني منتخبنا الوطني بخسارتين ثقيلتين، وبدا الشعب رغم تحسره غير آبه بما وقع، ما خلا بعض زفرات الغيظ التي أطلقها على أداء اللاعبين الباهت. كانت الخسارة متوقعة، ولكن لا أحد تصورها بهذه الطريقة. ومع ذلك، سرعان ما تجاوز الوسط الشعبي خسارة المنتخب، في ظل رغبته الهادرة في الاستمتاع بالجو العام، وبمرأى الجماهير المتوافدين من كل مكان.

ثمة الكثير مما يمكن أن يُقال عن الهزيمة العابرة، كما يمكن أيضًا استخراج من هذا القول مادةً تحليلية عابرة للظواهر الاجتماعية في قطر والخليج عمومًا.

ولَكَم انطَوى حدث خليجي مشهود، ذو طبيعة عمومية، لا يستحق الوقوف عليه كثيرًا، على منطق مفسر للأشياء الأخرى.

قلت ذلك ولا أزال، مرات لا حصر لها.

المنظومة إزاء الفرد

«أما الذات في بُعدها الخفي، بما فيها من قابلية للتدمير لم يحصل بعد ولكنه يهددنا، إذا إن الحقيقة الحاضر بتبعيات التغير المتلاحقة المتسارعة تكون تحديدًا ماثلةً مع البعد المستقبلي»

- فرج دهام

الجو صحو. قرار تنظيم البطولة في شهري نوفمبر وديسمبر: قرار حتمي، لا مفر منه. وفي نفسي يسري ذلك الشعور بأن موعد تنظيمها ومكان التنظيم، وكل ما يمت للبطولة بصلة، قد حلّ في موعده. المتأمل في مسار المنجَزات الدولية منذ قيام النظام العالمي، يجد أنه بمثل ما أن هنالك «سيرورة زمانية» تتعلق بالإنجازات التي تتكرر في بلد ما، نظرًا لامتلاكه المقومات القادرة على إعادة إنتاج المنجَز نفسه، توجد أيضًا «سيرورة مكانية» تتجسد في دخول الدول النامية حيز الفاعلية الدولية، إما دبلوماسيًا أو رياضيًا، وهذا ملحوظ منذ عقود.

يرتسم عند هذه النقطة التساؤل العريض: هل ستتمكن هذه الدول من توسيع المعادلة لتشمل السياسي والاقتصادي والعسكري؟

بطبيعة الحال ليس هناك جواب كافٍ ولا حتى شافٍ هنا، بيد أن الجواب أقرب إلى النفي من أي شيء آخر، فنحن نعيش في عالم تحكمه المنظومات، وفي عالم مثل هذا، أي إمكانية تغيير يمكن للدول النامية أن تحوز موازينها، إذا كان يحكمها الفرد لا المنظومة؟

عودًا على فكرة تنظيم البطولة في الشتاء. ففي قطر، وخصوصًا بعد موجات التصحر1 التي عانت منها البلاد2 حتى لتبدو لمن يُطل عليها من علٍ أنها أرض جرداء «جلحه ملحه»3 لا حياة فيها، فإن المواسم تكاد تنحصر في موسمين فقط: فصل الصيف الذي يمتد لعشرة شهور، وفصل الربيع الذي يكمل العُدة السنوية المتبقية. ومن حسن حظنا (بعض الشيء) أننا بشر توسطنا جغرافيا العالم، وأننا نألف «السموم واللواهيب» أكثر من البرد القارس. ولكن ما جدوى الحرارة التي لا يتحول مفعولها إلى فعل حقيقي؟

يقول جياكومو لوشياني إن «الدول الاتكالية تولّد طبقات اتكالية». وكذلك الحال مع الأمم التي يلعب الطقس دورًا كبيرًا إما في نهوضها أو ركودها، فاتكالها لن يمنحها القدرة قطعًا على أن تقول «نعم» و«لا» متى أرادت وكيفما أرادت.

حجيج السيارات

الصورة: هيئة الأشغال العامة القطرية

«نجد يرفعنا آل ويخفضنا 

آل وتلفظنا بيد إلى بيد»

- محمد سعيد العباسي

أستقلُ سيارتي في الشارع السريع الطويل الذي يصل إشارة نادي الفروسية قُرب منطقة معيذر ومنطقة مْريخ، مع إشارة أم لخبا الواقعة بين جنوب الدحيل وشمالها. 

أُنجز هذا الشارع الذي يُغطي قرابة 10 كيلومترات ضمن مشاريع هيئة الأشغال العامة المُصاحبة لاستعدادات الدولة، وهو شارع يموج صعودًا وهُبوطًا، كأنه تجربة كثيفة لرحلة الحياة البشرية. 

بقدر ما أوجده هذا الشارع من حل حقيقي لمشكلة الزحام، وبقدر ما بدا امتداده بين الأحياء السكنية (مثل حي الأمير والغرافة وغيرها) والمرافق العامة الهائلة التابعة للمدينة التعليمية امتدادًا رائعًا، بقدر ما بدا موحشًا ورهيبًا.

لا توجد في هذا الشارع سُرعة مُحددة، هناك كاميرات غير مرئية، يُقال إنها تصور السيارات المتجاوزة للسرعة القانونية، وحين يسأل أحدهم ما هي السرعة القانونية؟ لا أحد يجيب إجابة موثقة.

الناس على هذا الشارع كأنما يلاحقون الرمق الأخير من أمنية قاربت إطلاق زفرتها الأخيرة. خمسة مسارات واسعة. رماد سرابي يمتد في الأفق. مركبات لا حصر لها، تتدافع كأنها ركب حجيج. بينما يترسخ المشهد الأكثر أثيرية عندي في ارتقائي الجسر الأخير الذي يقود إلى إشارة أم لخبا الوارد ذكرها أعلاه، حتى تتبدى في مرقاي اليومي هذا كل نهار: منازل الدوحة وهي تمتد إلى حيث حدود انتهاء البصر، وأرى أبراج الدفنة على يميني جاثمة قُرب البحر، وهناك في الجهة اليسرى تتراءى أبراج لوسيل وطبقات من الغبار الشفيف، تحلق حولها.

نسيت القول إنه في عموم بلدان الخليج، من لا يمتلك سيارته الخاصة يفقد شريانًا رئيسًا من شرايين الحرية.

هكذا وبكل بساطة: رسملتْ مشاريعُ البنية التحتية الحديثة وسيلةَ التنقل، فالذي ليس لديه سيارة يُعد فاقدًا لرأسماله الحركي.

ألمانيا نفسها لا تدري

«أن يفقد شعب ما قدرة أو إرادة المكوث في حيز السياسي، لا يعني أبدًا اندثار السياسة من العالم. المعنى الوحيد لذلك هو اندثار شعب ضعيف»

- كارل شميت

انقضت أيام منذ أن وضع لاعبو المنتخب الألماني أيديهم على أفواههم في افتتاح مباراتهم أمام اليابان، احتجاجًا على سياسات فيفا التي تمنع إبراز شعارات سياسية. حذر الاتحاد الدولي لكرة القدم قبل بدء البطولة من أن المنتخبات التي سيحمل لاعبوها أي شعارات من ذلك القبيل، سيواجهون عقوبات قد تتضمن البطاقات الصفراء. اعتزم قائد المنتخب اللاعب الألماني مانويل نيوير ارتداء شعار داعم للمثلية الجنسية، ولكنه تراجع خوفًا من العقوبة، ليظهر وزملاؤه بفعلتهم تلك التي جرت عليهم ردود فعل غاضبة، امتدت من الخليج حتى المحيط. 

انقدح الغضب لأسباب مختلفة، واعية ولاواعية، ولكن أبرز دوافع الحنق إنما يتركز حول ازدواجية المعايير التي تجلت في سلوك الألمان. قبل تسع سنوات شارك المنتخب الألماني للشباب في كأس أوروبا تحت 21 عامًا، الذي أُقيم في دولة الاحتلال الإسرائيلي، وارتدى لاعبوه حينها قميصًا كُتب عليه بالعبرية «كأننا في بيتنا». 

التغاضي عن الحق في العيش، وبما هو حق تأسيسي لا يزال يُسلب من حياة الفلسطينيين يومًا تلو يوم منذ التطهير العرقي 1948، أمام أعين المجتمع الدولي وأسماعه، أصبح بمثابة جسر أيديولوجي لتعميق التفوق الغربي بصور وأشكال متناثرة. وأصبح ذلك أيضًا عاريًا عامًا إثر عام. ولكم يبدو تسارع العري هذا لافتًا للنظر، لدى الغرب قبل غيرهم.

نُظِر إلى المشهد المسرحي الألماني في المنازل والمجالس والدور وشتى الأماكن على أنه تجسيد حي للنظرة التي تغور في العقل الغربي المعاصر تجاه ذاته، وتجاه الثقافات الأخرى. وحين طرحتُ بدوري على إحدى الألمانيات سؤالًا جاء على هامش حوار دار بيننا حول ألمانيا وقطر، في لحظة كانت الأجواء فيها لا تزال مشوبة بالتسييس الذي طال كل شيء: «ماذا تريد ألمانيا؟»، فأجابتني بنبرة تخفي أكثر مما تظهر: «ألمانيا نفسها لا تدري!».

صدوع الثقافة

«نعِي بطبيعة الحال أننا ابتعدنا عن الأصول الحقيقة التي آمن بها آباؤنا الأوائل، ولكن الصورة الضبابية للأصول والمنابع الصافية لم تزل حية وناضرة على نحو ما في داخلنا».

- نورة آل سعد

درجت العادة على أن يكون السواد الأعظم في أي أمة من غير المثقفين.

المثقفون أقلية في كل المجتمعات مقابل أغلبية كاسحة من أضدادهم. ولأن المعيار الذي يقسم بينهما هو معيار «التأثير والتأثر»، أو إن شئتم معيار «الفاعلية في الفضاء العام»، تشكل من ثم التفريق التاريخي بين الخواص والعوام. وهو تاريخي طبقًا لتاريخية المجتمعات البشرية، منذ فجرها الأول. وحقيقٌ عليّ الإشارة إلى أني أستخدم لفظ المثقف هنا تجوزًا، إذ لا يصح إسقاط اللفظ قبل الأزمنة السابقة عليه، رغم أن الإسقاط يحصل كثيرًا لضرورات التنميط، التي يستعملها المرء لتسكين المعاني التي يعجز عن رسم مشهدها الكامل. ويبقى أنّ تواتر حصوله لا يعني صحة قبوله، بل ربما فقط من أجل أن تستمر الحياة.

المثقف مصطلح حديث نشأ في سياق التحول الأوروبي من الإقطاع إلى التصنيع، لوصف إنسان المدينة الذي لعب دور الواصل بين هموم الشعب واحتياجاته من جهة، وطرق تحقيقها من جهة ثانية، بصفته أحد الذين يعيشونها. إنه ضمير الشعب المفكر والراصد والمهجوس والناطق والصادع.

المثقف إذًا كائن مديني، أي أنه فرد ضمن مجتمع مدني منظم، قبل أن يكون فاعلًا/ناشطًا في مجتمع مدني. ومجتمع المدينة الحديث يقوم بالضرورة على تنظيم اقتصادي رأسمالي، بصورة من الصور. ما سبق يفيد حقيقة أنه ليس هناك مثقف في الصحراء، ولا في القرية، حتى وإن كانت الأخيرة أكثر تنظيمًا أو تحضرًا، إلا ربما في استثناءات معينة.

ما أعنيه بالضبط هو أن الصحراء والقرية لا تنجب مثقفًا، ولا حتى بغير المعاني التي نشأ في ظلالها هذا المثقف الحديث وتدرج في مقاماتها.

قد يبزغ من قلب البيداء شاعر يختزن ما يشبه أدوار المثقف ووظائفه إلى حد ما. وقد تُوهب القرية حكيمًا أو عرافًا يضع أحلامها على خارطة الطريق، يكون هديًا لسكينة أبنائها المفقودة. ولكن مهما استفاضت الصحاري والقرى، يظل المثقف مُنتجًا مدينيًا خالصًا.

حسنًا، ماذا عن الذين وجدوا أنفسهم بين البينين: شجو الصحراء ورقتها القاسية، سكون القرية ورتابتها العذبة من ناحية، وصرامة المدينة وجفافها اليانع من ناحية أخرى؟

وما حال الذي وُلد في هذه الدائرة الرمادية التي تأخذ من تلابيبه كل مأخذ؟ ماذا يُسمى؟

وإذا وُجد المثقف القطري حقًا (وهو بالضرورة نِتاج المدينة)، فكيف نفهم تكوينه التقليدي الذي لا يزال يحكم عملية تفكيره ويتخلل شتى نظراته؟ أين يذهب ذلك الجزء الدفين الذي يحتوي على جذوره غير المرئية، الحاضرة كل حين؟

دُشن مطالع هذه الألفية سعيُ الدولة العملي عبر أدواتها التعليمية والإعلامية والبيروقراطية نحو تأسيس ذات قطرية معاصرة. وها هي الآن، كما نرى، قد نجحت نجاحًا منقطع النظير. وإننا لو نظرنا فقط إلى الفجوة المعرفية والمهاراتية الكبيرة بين جيل الثمانينيات وجيل الخمسينيات، فذلك شاهد كافٍ لوحده. أقامت الدولة مشروعها الجذري هذا على محاور متعددة، يربط بينها خيط رفيع من «المحاتاة»4 الأمنية، ولا تُلام. 

يتمركز وسط كل هذه المحاور: الأساس التوفيقي. ويُقصد بالتوفيقي أو التوفيقية، الجمع بين تعميق المكونات الثقافية المحلية والاستجابة لشروط الانفتاح العالمي. أي أن نوجِد فردًا يبدو للوهلة الأولى أنه مواطن عالمي، ولكنه بالأحرى إنسان قطري يمتلك حس المواطنة العالمية. تختلف درجات هذا الحس من فرد لآخر. فتارةً يكون المكونان المحلي والعالمي متوازنين، وتارةً يطغى أحدهما على الآخر. ثم إن حالة الطغيان هذه بدأت تتنامى بشكل متسارع في ما يشبه «التيه الهوياتي»، ولكن في نطاق أوسع. وهي في طريقها لأن تكون مشهودةً بشكل أكبر خلال السنوات القادمة.

جرى التحول الثقافي أعلاه في المستوى الفوقي/المؤسسي، ولم يكن ليتسنى له التحقق لولا:

  1. توفر مفاتيح التغيير التي جاءت في سياق تحولات عالمية.
  2. حسن استغلالها من قبل النخبة القيادية في الدولة، وفق مشاريع استراتيجية مدروسة وطويلة الأمد.

الذي يسترعي اهتمامي هنا، حصرًا، هو التبِعات التي جاءت في المستوى التحتي/الشعبي. تلك التفاصيل الصغيرة التي لا يُنتبه إليها، وإن انتُبِه لها فعلًا، فقلما وجدت من يوليها الهم والقلم.

برزخ ثقافي

«القديم يحتضر، والجديد لا يستطيع أن يولد بعد»

- أنطونيو غرامشي

لذا، فبأي حال استقبل القطري هذه التطورات؟ وكيف أسهم في مساعي تحقيقها؟ من حيث كونه معنيًا بتحصيل أسباب عيشه، وبأداء واجبه الوطني على حد سواء.

ستكون إجابتي مختصرة:

هناك ضرب من الشعور الراسخ بالإلزام العام يشيع بين عموم القطريين، مقابل صورة هلامية للمستقبل. تُنوزِل عن تبديد غموض هذه الصورة المستقبلية إلى قيادة فاعلة تمتلك إحاطة هائلة، وتتسم بوضوح الرؤية، وتُميزها تلك القدرة على ترسيخ وتنويع الصلات التي تجمعها بشتى مكونات الشعب. يُصطلح على هذه القدرة بـ«الشرعية».

إن الأسرة الحاكمة في قطر هي القوة الاجتماعية التي صعدت من قلب القوى الاجتماعية الأخرى، فوحدت صفها وضمت شملها وحقنت دماءها، وسيرة مؤسس قطر الشيخ جاسم بن محمد آل ثاني خير برهان.

أما ثنائية «الشعور بالإلزام والقلق من الغموض القادم» فإنها قد وسمت العقل الجمعي القطري، إذ حتمت على القطري العادي/البسيط المضي قُدُمًا نحو «فعلِ ما يجب فعله». ثم أدى انكبابه على مجرد أداء «الواجب اليومي» إلى إغفاله الإطار الواسع للتحولات التي يعيشها، فضلًا عن استيعاب طبيعة هذه التحولات، وإدراك ما تعنيه، واستشراف ما ستؤول إليه.

كان كل مشروع حكومي يُطرحُ في الفضاء العام للتعريف به أو للشروع فيه، يُلاقي في الغالب ترحيبًا صارخًا أو سكوتًا راضيًا أو همهمات استفهام واستياء وحيرة. وفي آخر المشوار يُنفذ المشروع، ويخرج من عباءته مشروع آخر، وهكذا دواليك. وكان القطري العادي/البسيط مُشاركًا بصور مختلفة في جُل تلكم المشاريع، طوال العقدين الماضيين، وقبل ذلك كله فإنه شاهد عليها.

أنتجت عمليات الهدم والبناء والتوسعة للأرض والفضاء والمؤسسة: هدمًا وبناءً وتوسعًا آخرًا على صعيد الزمان.

تشكلت بِنية زمانية جديدة في قطر (إذا جاز التعبير)، وقد تخلّق في طياتها الإنسان القطري المولود في عقد السبعينيات فصاعدًا، الذي خبر الثقافة وألفها ومارسها بأشكال متعددة.

إنه ذلك العارف بالأشياء المحيطة حوله، معرفة مباشرة واحتكاكية. وهو في ضوئها لا يتوقف عن ممارسة التذكر والنسيان. إنه الواقف في عمق مجال كثيف ينقسم إلى مسارين رئيسيين، ينفصمان ويتقاطعان، هما مسارا الأصالة والمعاصرة.

هو المديني والصحراوي والقروي، هو البحر والسِيف5 والحجر والرمل.

إذا تقرر لدينا إذًا أن الشاب القطري المعاصر: إنسان ولد ونشأ في المدينة، ثم تدرج في سلالم المعارف الثقافية، فهل هذا يكفي لأن يكون مثقفًا؟ 

بدايةً، فمفهوم المثقف قد شهد انشطارات عدة، ولا سيما خلال نصف القرن الماضي، وذلك جراء الثورات السياسية والتقنية التي طالت مناطق كثيرة حول العالم. ولكن دعونا نتفق على أن المثقف في أكثر الأشكال وضوحًا هو الشخص المعني بالشأن العام والناشط في ميادينه، المتبني لمطالب الشعب/الوطن، الساعي إلى علاج الإشكالات الناجمة عن سوء استخدام السلطة، وأحيانًا إلى إصلاح السلطة ذاتها.

ثانيًا، من الصعب حقيقةً أن أقول (ربما بسبب النزوع العلمي الذي أنفقت من أجله الليل والنهار) بأن هناك شخصًا يمكن أن يُطلق عليه «مثقف قطري»، هكذا بإطلاق عام من دون تحديد ذلك في إطار وملمح محددين، كما يستحيل في الآن نفسه إنكار وجود المثقف القطري.

هذه مسألة محلية، مُركبة، تستوجب تفكيرًا محليًا يتبناه الباحثون القطريون الصاعدون بجدية. ربما سيكون ذلك أفضل من انشغالهم ببعض المسائل العلمية غير الناضجة، التي يحدوهم على تناولها دافع ذاتي محض، كأن ثمة أمر يخص شخوصهم، لا يمكن تسويته إلا بهذه الوسيلة. وهو كذلك أوجب من افتتانهم بثمار الرفاه الغرائزية، ونسيانهم المسؤولية الحقيقية التي تقف إزاءهم.

والذي يتراءى لي في ما يخص أمر هذا الإنسان القطري الصاعد، الذي يُراد له أن يكون مثقفًا، أنه يعيش في جوف فضاء شبيه بما وصفه غرامشي: «القديم يحتضر، والجديد لا يستطيع أن يولد بعد»، بصورة أو بأخرى.

ما سبق لا يمنع استحضار مصفوفة السؤال القديم المتجدد: أين المثقفون القطريون؟ لِم لا نراهم؟ فها هي الدوحة تنضح مدينيةً وتفيض وتتلاطم، ألا يستدعي ذلك ميلاد المثقف القطري وبروزه أمام ملأ القادمين والقافلين؟

إنه من أكثر الأسئلة المطروحة في الداخل والخارج، حينًا وحين، وكنت أحد الذين حملوا لواء الإجابة عليه، أقله بين أوساطي، وفي الدوائر التي حضرت فيها. لكني زهدتُ نسبيًا في تبديد شُبُهاته بعد ذلك، لأني أدركت أن أكثر الأشياء التي قد يكون لها معنى حقيقي لدى المرء، هي أقل الأشياء التي يمكن أن يُلتفت إليها من قبل أقرانه ومُجايليه، فعلام الاحتراق؟

مواضيع مشابهة