يومًا ما، حين كنت بين ضوضاء المكتب وتشتيت زملائك لك بأحاديثهم الجانبية بينما تحاول جاهدًا التركيز في عملك، ربما تمنيت أن يختفي الجميع ببساطة، وأن تتلاشى كل مصادر الإزعاج حتى تستطيع إنجاز العمل. لكن احذر ممَّا تتمناه، فقد أثبتت بعض الأبحاث أن العمل في بيئة معزولة اجتماعيًّا يؤدي إلى تنامي شعور الفرد بالوحدة القاتلة، حرفيًّا لا مجازًا.
يعرض الصحفي «جاريد ليندزون» في مقال على موقع «FastCompany» آراء عدد من الخبراء الذين يعتقدون أن العزلة الاجتماعية قد تكون سببًا في تدهور الصحة، ويرى «دروف كولار»، الطبيب في مستشفى ماساتشوستس العامة، أن صحة المرء ستتدهور بمرور الوقت إذا استمر في العمل عن بعد أو بمفرده أو باستخدام الأجهزة الإلكترونية فقط.
يُضيِّع العمل عن بعد فرصًا كثيرة للتواصل مع الآخرين، وقد ذكر كولار تأثير العزلة الاجتماعية على مرضاه، ووضَّح مدى تعقيد العلاقة بين الشعور بالوحدة والوفاة، مشيرًا إلى أن الأثر السلبي الذي تتركه الوحدة على الفرد يماثل في خطورته تأثير التدخين أو السمنة المفرطة، أو ربما أقل خطورة بدرجة طفيفة فقط.
الوحدة تقتل
شعورك بالوحدة يزيد من احتمالية تعرضك للوفاة بنسبة 26%.
رغم انتشار وسائل التواصل الاجتماعي بشكل لم يسبق له مثيل، فقد أثبتت الدراسات أن الشعور بالوحدة أصبح أكثر انتشارًا، وفتكًا كذلك.
وتناولت عدة دراسات أثر الشعور بالوحدة على الصحة، استنتج الباحثون منها في النهاية أن العزلة الاجتماعية تزيد خطر التعرض للوفاة بنسبة 29%، بينما يزيد العيش وحيدًا احتمالية الوفاة بنسبة 32%.
اقرأ أيضًا: العزلة ليست وصمة
ليس ضروريًّا أن تكون الوحدة الفعلية سبب تدهور الحالة الصحية، بقدر ما يكون الشعور العام بالوحدة، الذي قد ينتشر حتى في أكثر الأماكن ازدحامًا بالناس، مثل شوارع المدن ومكاتب الشركات المفتوحة، فقد وجدت الدراسات نفسها أن مجرد شعور الفرد عمومًا بالوحدة يزيد من احتمالية تعرضه للوفاة بنسبة 26%.
يقول أستاذ علم النفس في جامعة بريغهام يونغ، «تيموثي سميث»، إن الوحدة ليست قاتلة بذاتها، لكنها مدخل لعدد من الاضطرابات النفسية، مثل الاكتئاب والقلق، بالإضافة إلى المشاكل الصحية مثل الالتهابات وضعف جهاز المناعة والأرق.
يدعم سميث رأيه بأن التفاعلات الكيميائية في جسم الإنسان تتأثر بطريقة إدراكه للعزلة والوحدة، وبالتالي تَقِلُّ فعالية وظائف أعضاء الجسم، ممَّا يؤدي بدوره إلى تدهور الصحة، لندخل في دائرة مفرغة تتكرر مرة تلو الأخرى.
التواصل حياة
عند محاولة التوصل إلى خطوات فعالة يمكن أن يتبعها الموظفون للتخفيف من المخاطر المحتملة للعزلة الاجتماعية، يقترح سميث التفكير في سبب تحول العزلة الاجتماعية إلى مشكلة في هذا الوقت بالذات، ومن ثَمَّ إيجاد طرق للعودة بالزمن إلى ما قبل المشكلة.
الإنسان كائن مستقل يتأقلم بسهولة على إنجاز الأعمال وحده.
يرى سميث أن العلاقات المجتمعية كانت تدوم لمدة أطول عندما كانت هناك مجتمعات محلية صغيرة يعرف أعضاؤها بعضهم ويتواصلون بانتظام، ثم تشتتت هذه المجتمعات بفعل التمدن والحداثة. لذلك تُعتبر إعادة تأكيد أهمية العلاقات المجتمعية في الحياة نقطة البداية في تخفيف مخاطر الوحدة.
قد يهمك أيضًا: أصدقاء أقل، سعادة أكثر: لماذا يجب عليك التخلص من معظم أصحابك؟
يوضح سميث مثلًا أن الانتقال إلى وظيفة جديدة أو مجتمع آخر أصبح غاية في البساطة، ممَّا يوحي بأن التواصل وإقامة العلاقات الاجتماعية أصبحا أسهل، لكن الواقع عكس ذلك، لأن هذا العصر لا يعرف قيمة العلاقات الدائمة، التي طالما اعتمدت عليها الإنسانية منذ بدايتها.
أما على الصعيد اليومي، فيقول الرجل إنه من المهم أن يدرك الموظفون كمية الوقت الذي يقضونه وحدهم، ويفكرون في أخذ خطوات فعالة عندما يجدون أنهم لا يتواصلون مع الآخرين بشكل كافٍ.
يؤكد أستاذ علم النفس كذلك قيمة حل المشكلات كفريق، ويشرح أن الإنسان كائن مستقل، يمكنه أن يتأقلم بسهولة على إنجاز الأعمال وحده، وأن يقتنع بأن العمل الذي لا ينجزه وحده لا يستحق أن يُنسَب إليه، لكن على الفرد مع ذلك أن يدرك أهمية التعاون مع الآخرين.
تشير الخبيرة السلوكية «سارة إلين أوفاريل» إلى دراسة أجريت على موظفي خدمة عملاء، استبدل مدراؤهم جدول الاستراحات الفردية المتتالية بالتبادل بجدول آخر يسمح للموظفين بأخذ استراحات جماعية، وأثبت هذا الإجراء البسيط فعاليته في تخفيض نِسَب ترك العمل بين الموظفين، كما أسهم في تحسين صحتهم ورفع معدلات إنتاجهم وزيادة ولائهم للعمل؛ وكل ذلك بسبب تمكينهم من التواصل الذي لم يكونوا ليحصلوا عليه في ظروف أخرى.
من الحيل الأخرى البسيطة ذات التأثير الإيجابي الكبير، التي تضمن تسهيل التواصل العادي والتعاون بين أعضاء طاقم العمل، التشجيع على إقامة أنشطة جماعية بعد العمل، وخلق وقت ومساحة إضافيين للموظفين كي يتواصلوا في أوقات الاستراحة وغرف تناول طعام.
قاوم العزلة
عليك أن تُقدِّر قيمة التواصل حتى لو كان مزعجًا، لأن الإزعاج، عكس العزلة، لن يقتل أحدًا.
رغم أن الوقت لا يزال مبكرًا للربط بطريقة مؤكدة بين الوحدة وتدهور الصحة، يخشى بعض الباحثين من زيادة عدد من يشتغلون في مجال العمل الحر، الذي قد يؤدي إلى زيادة المشاكل الصحية المتعلقة بالوحدة والعزلة الاجتماعية، لكن لا يتفق الجميع على ذلك.
تلفت أخصائية الحياة المهنية «بري رينولدز»، التي اعتادت العمل منعزلةً عن الجميع منذ 2009، إلى وجود طرق عديدة يمكن لممارسي العمل الحر التواصل بها مع غيرهم كيفما يشاؤون في أي وقت من اليوم، وتؤكد أن جلوس الإنسان وحيدًا لا يعني أنه لا «يدردش» على الإنترنت أو يتبادل رسائل نصية طَوَال اليوم.
تضيف رينولدز أن مثل هؤلاء مسؤولون عن اتخاذ خطوات إيجابية بسيطة لتجنب المخاطر الصحية المصاحِبة للوحدة والعزلة الاجتماعية، وتنصح العاملين عن بُعد بالاشتراك في نشاط اجتماعي لأصحاب العمل الحر مرة في الأسبوع، أو أن يؤدوا عملهم في مكان مشترك، إذ إن مجرد أداء العمل في مقهى يساعد في التخفيف من المخاطر الصحية على المدى الطويل.
قد يعجبك أيضًا: المقاهي وأماكن التجمعات كمنصات لمراقبة الآخرين
عليك تجنب الشعور بالوحدة والتخلص منه قبل أن يقتلك، وعليك أن تُقدِّر قيمة التواصل الاجتماعي حتى لو كان مزعجًا، لأن الإزعاج، عكس العزلة، لن يقتل أحدًا.