تجربة شخصية: عن جناح 15 والإيداع في الطب النفسي

الصورة: Getty

منى أحمد
نشر في 2022/06/16

قبل مدة قرأت قانون الصحة النفسية رقم 14 لسنة 2019، وأجريت بعض الاتصالات بأشخاص يعملون داخل مركز الكويت للصحة النفسية، وكانت أسئلتي كلها تتمحور حول موضوع واحد: هل يمكن لشخص أن يودَع إلزاميًا هناك لمشاكل عائلية وليس مشاكل نفسية؟

هذا بعدما سمعت عن الإيداعات الإلزامية بغير وجه حق، وحصلت على أجوبة مطمئنة، واقتنعت بأنه لا يمكن أن تُستخدم الصحة النفسية في الكويت كسلاح آخر لممارسة التحيز والظلم ضد المرأة، ولا يمكن أن تتغاضى مؤسسة كاملة بكل أفرادها عن حبس امرأة لمجرد خلاف عائلي دون حاجة علاجية تضطرهم لحبسها، ولكن شاءت الأقدار أن أكون أنا الشاهد والمجرب، لأجيب على سؤالي بنفسي، من تجربتي الشخصية أجيب على: كيف يمكن أن تُحبس المرأة في مركز الكويت للصحة النفسية لمجرد كونها امرأة؟ 

قسم الطوارئ والتشخيص الأول

من المهم ذكر أن عمري 27 عامًا، أي فوق السن القانوني وقت الإيداع. القصة من طوارئ مركز الكويت للصحة النفسية، ولأن الإيداع الإلزامي يُحدد في قسم الطوارئ، فمن المهم ذكر كل التفاصيل حتى نفهم مكامن الخلل. 

بعدما خطفني والدي من مكان عملي لأسباب تتعلق بمشاكل أسرية، وحُبست لمدة يومين داخل بيت العائلة، أُخذت لمركز الكويت للصحة النفسية، قسم الطوارئ، كنت سعيدة بأخذي للمركز لأني ظننت أن الأطباء سيتصلون بالشرطة ما أن يسمعوا قصتي، خاصة مع وجود الكدمات على جسدي وبلاغ مقدم بالشرطة من عابر شاهد حادث الخطف.

سردت قصتي على طبيبة الطوارئ، سمعتني وكانت متعاطفة معي، وقالت لأهلي: «لا يعني أنها مريضة نفسيًا لمجرد عيشها حياة تختلف عن حياتكم». ولكن عندما طلبت منها استخدام الهاتف لأن كل مقتنياتي أُخذت مني للتحدث مع محاميي أو الشرطة، ردت بأن ذلك ممنوع، ولم تشرح لي أي طريقة أخرى يمكنني بها الوصول للهاتف.

الصورة: Getty

شعرت بأنني محجوزة هنا أيضًا، لأن في طوارئ المركز يُدخلونك بكرسي متحرك، وعندما تحاول المشي بنفسك والاستغناء عن الكرسي لا تسمح لك الممرضة، أي أن حركتك مقيدة بحسب الشخص الذي معك، وفي هذه الحالة تبتعد عن أي مقاومة جسدية تثبت من خلالها أنك غير متزن، وبالتالي من الممكن أن تشخص بمرض نفسي وتُحجز.

عندما فهمت الطبيبة التي تنتمي لإحدى الجاليات العربية أن الموضوع اجتماعي وعائلي، شعرت بالخطر على نفسها، ولا ألومها، لأن نظامنا لا يحميها في حال تصاعد الخلاف. أشارت بيدها لطبية أخرى كويتية، جلست معي وسمعتني، وبمجرد أن عرفت أني مستقلة بالسكن سألتني أسئلة ليس لها علاقة بالصحة النفسية: لماذا تسكنين وحدك؟ لماذا لم تعودي لبيت العائلة بعدما انتفى سبب الخروج؟ حتى قالت لي في أحد المواضع إنها من المستحيل أن تعيش مثلي. 

راجعتُ تعريف الصحة النفسية في القانون بعدما خرجت حتى أعرف علاقة أسئلتها بالصحة النفسية. يعرّف القانون الصحة النفسية بأنها «حالة الاستقرار النفسي والاجتماعي التي يستطيع الفرد من خلالها أن يحقق إنجازاته طبقًا لإمكانياته الشخصية، ليتمكن من التعامل مع ضغوط الحياة العادية، كما يستطيع أن يعمل وينتج ويسهم في المجتمع الذي يعيش فيه». لهذا حين سألتني أسئلة لها علاقة بالصحة النفسية، مثل: هل أنت سعيدة في حياتك؟ كان جوابي: «نعم، أحب حياتي قبل حادثة الخطف، أحب عملي وأحب أصدقائي وأحب عائلتي أيضًا حتى مع وجود الخلافات العائلية، وأتمنى أن تساعديني حتى أعود لسكني الخاص». 

شرحت لها أني محبوسة، وردت بلماذا تعتقدين أنهم حبسوك؟ عرفت أن الكلام ضائع، حاولت أن أقف وأمسك هاتف المكتب بنفسي فلم تسمح لي، قالت لي بنبرة متسلطة مشبعة بالأحكام: «عيب تسوين جذي». في هذه اللحظة عرفت أني دخلت بيئة سلطوية أخرى لا تعترف بتجريم الحبس والضرب من العائلة، وعرفت أني بالنسبة لها مجرد فتاة عاقة ومراهقة لمجرد خياراتي المستقلة عن خيارات العائلة.

مهما استوفيتَ كل علامات النضج على المستوى الشخصي تبقى مراهقًا بالنسبة لهذا المجتمع ما دام لديك خلافات عائلية. استسلمت، قلت لها إنني أُفضل البقاء في المستشفى على أن أعود مع عائلتي للمنزل، في محاولة مني لشرح مدى خطورة الوضع، فربما تقتنع وتصلني بالشرطة. وبالغتُ في لحظة خوف، قلت لها إنني سأحاول الانتحار إذا سمحت للعائلة بأخذي للمنزل.

بعد هذا التصريح ارتاحت من الضغط وكأني أعطيتها المبرر على طبق من ذهب، كنت واعية بما أقول وأعرف عقباته، لكن تملكني الخوف وطغى على المنطق. أعلم أنه تصريح كاف للإيداع الإلزامي لأني قرأت القانون سابقًا، ولكن تصريحي هذا جاء بعدما أكدت لها أني عشت قمة الاستقرار النفسي قبل الحادثة. 

كيف يمكن للطبيب النفسي أن ينتقي من بين كلمات المريض ما يختصر عليه وقته ويبعده عن المشاكل الاجتماعية؟ لن تضيع هذه الطبيبة وقتها إذا كان المركز لا يجبرها على إحالتي للشرطة، وبالتالي التأكد من ادعاءاتي بالخطف والضرب. 

التشخيص الثاني

الصورة: Getty

الإيداع في مركز الكويت للصحة النفسية يحتاج تشخيصين من طبيبين مختلفين، هذا ما عرفته لاحقًا، وخلال كل العملية كنت مغيبة تمامًا لأني لم أر أي مبنى دخلنا ولم يخطرني أحد في أي مبنى نحن، وكلا الدكتورتين لم تعرفني بنفسها أو بنوعية الإجراء الذي نحن بصدده وطريقة التشخيص. 

في البداية كنت أظن أننا في مستشفى عادي. وبسبب هذا التغييب، استنفدت كل محاولاتي مع الطبيبة الأولى ظنًا مني أن القرار الأخير لها. وعندما جلست مع الطبيبة الكويتية الثانية، لم أكن أعرف أساسًا أننا في جلسة لتشخيص آخر من طبيبة أخرى وأن لها القرار أيضًا، فاكتفيت بالإجابة المختصرة على أسئلتها وتكرار أني أفضل البقاء في المستشفى على العودة مع العائلة. 

دخلت الجناح وأسئلة ترن في أذني: ألا يوجد دور للطبيب النفسي إذا حضر مريض يدعي أنه مخطوف ومُعنف؟ ألا يجب أن يجبره القانون على إحالته للجهات المختصة للتعامل مع حالات العنف؟ لماذا يمنعون أي مريض من الاتصال بالشرطة؟

الاتصال

«كل المرضى داخل مركز الكويت للصحة النفسية موجودون بإرادتهم ويمكنهم الخروج في أي وقت، والوصول للهاتف متاح للكل». أنقل هذه الكلمات التطمينية من محادثة واتساب بالحرف مع أحد المسؤولين في مركز الكويت للصحة النفسية، عندما كنت أبحث في موضوع الإيداع الإلزامي قبل الحادثة.

ولهذا بكل السذاجة التي أملكها دخلت معتقدة أنني يمكن أن أصل للهاتف داخل الجناح على الأقل بعدما منعوني منه في الطوارئ، والصدمة كانت أنهم نفذوا طلب والدي، الذي طلب منهم ببساطة منعي من الهاتف إلا للاتصال به، ووافقوا على طلبه بل حرصوا عليه كل الحرص، إلى درجة أنهم لم يسمحوا لي حتى بالاتصال بوالدتي من دون أخذ الموافقة منه، وعندما خرجت شرح لي بعض الاصدقاء أنهم حاولوا زيارتي والوصول إلي عن طريق هاتف المركز، لكن المركز رد بأن والدها منع الزيارة والاتصال.

الوالد هو الشخص الذي شكوته عند الطوارئ، وشرحت لهم بدقة كيف خطفني وحبسني وضربني بكل ما أملك من وسائل التعبير، اللسان واليدين وحتى جسدي بكدماته شرح ذلك. 

الصورة: Getty

مؤخرًا، نشرت جريدة الجريدة تقريرًا قال فيه د. عمار الصايغ رئيس قسم الطب النفسي بمركز الكويت للصحة النفسية: «نعطيهم الفرصة لتقديم البلاغ للشرطة، لكن الطب النفسي ليس مخولًا بالإبلاغ»، وهذا غير صحيح لا معي ولا مع الحالات الأخرى في جناح 15، فالاتصال بالشرطة ممنوع نهائيًا.

الاتصالات المسموحة محاطة بقيود، تُسمح في الساعة الثالثة مساءً فقط من كل يوم ولمدة دقيقة، ويجب على المريضة استخدام مكبر الصوت، وتكون الممرضات والحالات الأخرى حول الهاتف يسمعن تفاصيل المكالمة، وإذا تحدثت المريضة في أي شئ يخالف إرادة الممرضة ستقطع عنها المكالمة ببساطة، والاتصال مسموح بولي الأمر المسؤول عن الحالة فقط، وممنوع عن غيره ما لم يوافق على ذلك. 

ما زلت احتفظ بهذه الورقة في محفظتي، واحدة من الحالات طلبت مني الاتصال بهذه الأرقام بعدما استدعتني الممرضة للخروج.

منع وقذارة 

صُدمت من قذارة المكان، لا وجود لأبسط المستلزمات الأساسية، في دورات المياه مثلًا لا يوجد صابون أو محارم ورقية، وعندما سألت الممرضات عن الفوط النسائية قالت لي إنه يجب أن يوفرها ولي الأمر بنفسه، فالمستشفى لا يوفرها.

بعض الحالات لديها معارف يستطيعون توفير احتياجاتهم من صابون ومحارم ورقية وملابس، ولكن نظام المستشفى لا يسمح إلا إذا وافق ولي الأمر على ذلك. والد إحدى الحالات لا يجيب على الهاتف نهائيًا، ولديها صديقات مستعدات لمساعدتها، لكن لا يُسمح لهن بذلك، لأن ولي الأمر لا يستجيب. كيف تحصل الممرضات على موافقته؟ مستلزماتها الأساسية عالقة في النظام وعليها التعايش مع ذلك. 

لا يمر الوقت، ولا وجود لأي أنشطة على الإطلاق، حتى المشي حول مساحة الجناح الضيقة أحيانًا يكون ممنوعًا. مثلًا، بعد التاسعة مساء إذا احتجت للمشي قليلًا قبل النوم تمنعني الممرضة، وطبعًا لا وجود لمساحة مشي خارجية، الوضع أشبه بفيلم لمعتقل غوانتانامو . بعدما خرجت قال لي أحد المستشارين النفسيين الذين عملوا سابقًا داخل مركز الكويت للصحة النفسية إن «من يدخل بمرض نفسي واحد يخرج بعشر أمراض نفسية».

الليلة الأولى 

الصورة: Getty

«منذ لحظة دخولك من باب الجناح تعتبرين فاقدة الأهلية، والشخص الوحيد المسؤول عنك هو والدك»، هذا ما قالته لي ممرضة في جناح 15 وهي تدس المنوم في فمي، بعدما سألتها عن إمكانية الاتصال بمحام.

القانون لا يعتبر المريض النفسي فاقد الأهلية إلا بحكم قضائي، وهذا ما عرفته لاحقًا، ولكن وقتها ظننت أنني خسرت كل صلاحياتي وحقوقي لأن المعاملة في الجناح كانت تثبت ذلك بكل التفاصيل. يبدو أن فقدان الأهلية لا يكفله القانون في هذه الحالة، بل الممرضة. 

نمت في أول ليلة وكل أضلعي ترتجف، لأني حاولت كتم كل انفعالات الصدمة حتى لا أكشف لهم أي انهيار عصبي ولو كان بسيطًا مثل البكاء، فيُستخدم ضدي في تشخيصي النفسي ويبقيني في الجناح مدة أطول. كان جسدي ينتفض بشدة يمكن سماعها في صوت أزيز السرير، بعد الكلمات المخيفة التي سمعتها من الممرضة والنظرة للمكان. ولأن كل العاملين في المستشفى من ممرضات وأطباء كانوا لئامًا ولا يجيبون أبسط أسئلتي، وإن أجابوا تكون الأجوبة مقتضبة، لم يشرح لي أحد شيئًا عن مصيري أو طريقة علاجي أو مدة بقائي، أو حتى نوعية الحبوب التي أُلزمت بتعاطيها.

كل ما أعرفه أنهم بدأوا معاملتي كفاقدة للأهلية، ولاحظتْ الفتاة المستلقية على السرير المجاور صوت سريري، وقالت بكلمات مختصرة: «عادي جذي أول ليلة». فرِحت لأنه يوجد صوت واع غيري يمكنني التحدث إليه في هذه الغرفة التي تضم ست أسرة وست حالات، فانهلت عليها بالأسئلة. عمرها 17 عامًا، وهي يتيمة ولديها مشاكل عائلية جعلتها تلازم المنزل وتكره الاختلاط. تقول إنها كانت تبكي كثيرًا، وكانت أختها تقول لها دائمًا: «أنت مريضة نفسيًا ويجب أن تخضعي للعلاج»، ذهبت بنفسها للمركز ودخلت لأنها شعرت بأنها تحتاج للمساعدة فعلًا، ولكنها صُدمت بعدما دخلت مثلي بالوضع.

قصص مؤسفة

واحدة من الجناح لديها آثار حروق على وجهها، ولما سألتها من فعل بك هذا، أجابت بأنها زوجة والدها، تنهدتْ وقالت: «قصتي طويلة، ولكني أفضل البقاء هنا على العودة إلى المنزل».

حالة أخرى تطلقت من زوجها وظلت بعيدة عن أهلها، كررت عليّ جملة واحدة كشفت لي كامل قصتها: «يا ليتني لم أخبرهم بأني تطلقت»، وهي الآن في المستشفى منذ أربعة أشهر. 

تداخل مع حديثي مع الأخيرة صوت فتاة في متوسط العشرينات، قالت: «لا تحاتين الحين أحسن من قبل، أكثر شي تقعدين اسبوعين، أنا قبل قعدت أربع سنوات لأني كنت قاصر وأبوي رفض استلامي». عرفت أنها الحالة التي تجسد المرحلة الانتقالية بين القانون القديم والمعدل، فالقانون القديم يحجز القاصر إلى أن يوافق ولي الأمر على استلامها حتى لو انتهت مدة العلاج، وهكذا حُرمت الفتاة فرصة التعليم بسبب حجزها كل هذه المدة في مركز الكويت للصحة النفسية. 

الخروج

الصورة: Getty

خرجت من مركز الكويت للصحة النفسية بعد أن أمضيت عدة ليال، وبعد أن رضي عني الوالد فطلبت منه الخروج، وببساطة ذهب للدكتور وأخرجني بسهولة قائلًا له: «إنه مجرد خلاف عائلي». تمنيت أن يكتبها الدكتور في تشخيصي، سبب الدخول: «خلاف عائلي». أخرجني الدكتور دون أن يستنكر اعتراف والدي، كأنه تعود أن تكون الخلافات العائلية سببًا كافيًا للإيداع، ولم يكلف نفسه باستدعائي وسؤالي عن رغبتي في إكمال العلاج. 

بهذه الطريقة يمكن أن تودَع المرأة إلزاميًا لمجرد كونها امرأة، ولا يزال مركز الكويت للصحة النفسية يستقبل المعنفات على أنهن مريضات نفسيًا، حتى مع وجود قوانين مثل قانون مزاولة مهنة الطب وقانون الصحة النفسية لسنة 2019 وقانون العنف الأسري 2020. واقع مسلسل «على الدنيا السلام» لم يتغير، هناك ألف جانٍ مثل بو نبيل، وألف ضحية مثل محظوظة ومبروكة.

مواضيع مشابهة