النظام المتحكم، بحسب المفكر الفرنسي ميشيل فوكو، ليس بالضرورة نظام يستخدم القوة والقمع المباشر لفرض سيطرته، بل هو النظام الذي يستخدم أدوات تمكنه من صنع عناصر تضمن بقاءه. لكن، بحسب فوكو أيضًا، هذا يعني أن النظام يحمل بذرة تغييره، فانقلاب العناصر على النظام بداية تفكيكه من الداخل. لو طبقنا هذه القاعدة على النظام الأبوي، فأحد عناصر استمراريته نساء تعتنقه كنهج طبيعي ينظم الكون، فيحرصن على ألا تحيد إحدانا عن المسار.
تصف الكاتبة البريطانية سارة أحمد في كتابها «Willful Subjects» أن النساء (وجميع الفئات الواقعة في أسفل الترتيب الاجتماعي) يعتقدن أن هناك طريقًا واضحًا للوصول إلى السعادة والشعور بالاكتمال، وأن التمرد على هذا الطريق نصب من الطيش وقلة الوعي.
يبدأ الإيمان بهذا الطريق أو تكوين شخصية غير مشككة وفقًا لسارة، من خلال قصص الأطفال والثقافة العامة، فعاقبة التمرد وعدم الطاعة في الغالب هي الوحدة أو التعاسة. يتحول هذا الوعي بمرور الزمن إلى تصنيفات شتى، لكنها تصب في فئتين: «جيد» أو «سيئ»، كحكم مطلق على النساء وسلوكهن.
تطبيع النظام الأبوي
ينطلق النظام الأبوي من فكرة التراتبية الجندرية (Gender Hierarchy)، والتي تشمل التحكم واستغلال الجندر الأضعف والأقل حيلة، وهو بطبيعة الحال النساء. هذا المبدأ يدعم فكرة أحقية الرجل التي تتجلى في مظاهر عدة، أكثرها تطرفًا تبرير العنف الجسدي واللفظي كوسيلة لتقويم سلوك المرأة، وأكثرها ضمنية حصر مناصب وفرص وظيفية وتعليمية في الرجال، بالإضافة إلى الأدوار والتوقعات المجتمعية الصارمة لكل من الجنسين.
الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي يشرح من خلال نظرية الهيمنة الثقافية كيف أن أصحاب الامتيازات بحكم نفوذهم يحتكرون الإنتاج المعرفي الذي يُشكل الخطاب السائد، وهو ما يمنحهم أفضلية فرض قيم ومعتقدات وممارسات المجتمع، فيتمكنون من استمرارية هيمنتهم على الفئات المستضعفة من خلال تطبيع الواقع وتصوير النظام الحالي بأنه نظام منطقي يخدم المصلحة العامة.
اعتناق النساء للفكر المسوجوني لا يعني كره النساء للنساء، بل يعني أن المرأة تتحول لأداة للنظام الأبوي من خلال تكريس ثنائية المرأة الجيدة والمرأة السيئة.
أسفرت دراسات أجراها باحثون عن عواقب نفسية وعقلية على الفئات المستضعفة التي تتعرض لهيمنة فئة أقوى، كالأمريكيين من أصول إفريقية وأفراد مجتمع الميم، وقد أطلق الباحثان إيلان ميير ولورا دين على هذه الظاهرة مصطلح «قلق الأقليات». وجد الاثنان أن أفراد المجتمعات المهمشة ممن يعيشون تحت نظام يكرس بشكل مؤسسي هامشيتهم، يميلون إلى تصديق الصور النمطية السلبية المنتشرة حولهم، والشعور بالدونية وقلة تقدير للذات، وأن وجودهم أقل أهمية من الفئة المهيمنة.
من أكثر الأمثلة البارزة في عالمنا الناطق باللغة العربية إيمان جزء منه بأنهم ليسوا أهلًا للديمقراطية، وذلك نتيجة الخطاب الاستعماري وبواقيه الذي يكرر مباشرة وبصورة ضمنية في الأفلام مثلًا، أنه لولا تدخل أوروبا وأمريكا لأبيدت الشعوب على أيدي حكامها من جهة. ومن جهة أخرى الطبقة السياسية والثقافية العربية المتسيدة للمشهد، والتي تستمر في لوم الشعوب على «تخلف» بلدانها. هذه المشاعر تُدخل الفئة المستضعفة في دوامة من الشك في الذات، وبالتالي تحد من قدرتهم على مواجهة النظام القائم وتغييره.
النساء أيضًا كفئة مهمشة عرضة لتشرب مسوجونية المنظومة الذكورية. كيت ماين في كتابها «Down Girl» تعرف المسوجونية أو كره النساء بأنها «خاصية في نظام اجتماعي أو بيئة، حيث تتعرض النساء لسلسلة من أنواع العنف لكونهن نساء في عالم للرجال (النظام الذكوري)، ويُراهَن على فشلهن في مواكبة معايير النجاح التي صنعها النظام».
إلا أن ماين تؤكد أن اعتناق النساء للفكر المسوجوني لا يعني كره النساء للنساء، بل يعني أن المرأة تتحول لأداة للنظام الأبوي من خلال تكريس ثنائية المرأة الجيدة والمرأة السيئة. معنى ذلك أن أي أمرأة تحيد عن أدوار رسمها المجتمع للمرأة الجيدة: كالابنة المهذبة، والصديقة المتفهمة، والأم المتفانية، فإن المصير الذي ستلاقيه على أيدي نساء مسوجونيات هو سيل من التهم بالأنانية والتمرد وجلب العار، وستعاقَب بعنف إما لفظي (ألقاب وشائعات) أو معنوي (نبذ وتأنيب ضمير) أو جسدي، أو جميع ما سبق.
الطبقية كأداة نفوذ
على الرغم من أن معظم النساء يقبعن على الهامش ويتعرضن لنوع من الاضطهاد على يد المجتمع أو الدولة، ويُتوقع منهن أن يلتزمن بقواعد نظام يعزز هامشيتهن حتى يوصفن بالصالحات، فإن شكل وثقل الاضطهاد يختلف بين جموع النساء.
تخبرنا القانونية والباحثة الأمريكية كيبرلي كرينشاو، في مقالتها التي مهدت لمفهوم النسوية التقاطعية، عن نوع من الظلم تتعرض له المرأة السوداء في أمريكا لا يشبه القمع الذي تتعرض له المرأة البيضاء، إذ يتقاطع الظلم الواقع عليها بسبب عرقها مع قمعها بسبب نوعها الجندري، وهو ما يعرف بالتقاطعية. ومن هنا نرى أن هنالك أجزاء من الهوية والتكوين ينطوي عليها فقد امتيازات، ويتكبد أصحابها مرارة الإجحاف المضاعف.
لا تقتصر مسوجونية بعض نساء الطبقة البرجوازية على إهمال نساء المجموعات المهمشة، بل تتعدى ذلك إلى الإيمان التام بأن دورهن يقتصر على تجسيد مثال «وراء كل رجل عظيم امرأة».
الطبقة والخلفية الاجتماعية إحدى تلك التقاطعات، فحينما تنعم نساء الطبقة المخملية بامتيازات منحها لهن اسم العائلة ومكانتها في المجتمع، يُنظر لنساء الطبقات الأقل حظوة مجتمعيًا كنساء البدون أو البدو أو الفلاحين أو الصعيد، إن نُظر لهن بالأساس، على أنهن أقل تحضرًا ووعيًا ثقافيًا. وبالتالي لا يقتصر إقصاء المرأة التي ولدت في أسرة محدودة الإمكانيات المادية والنفوذ السياسي والاجتماعي على الجانب المؤسسي كنظيرتها المرأة صاحبة الامتياز، بل يمتد إلى المجتمع كذلك، ومن مجموعة تتقاطع معها في المظلومية.
من الممكن تتبع غض نساء الطبقة العليا بصرهن عن المشاكل التي تتعرض لها نساء الطبقات المهمشة، عبر تاريخ الحركة النسوية الأمريكية التي انتقدت لاحقًا بأنها خدمت مصالح المرأة البيضاء البرجوازية، وتحاشت التطرق لهموم النساء النابعة من انتمائهن لعرق أو طبقة اجتماعية مخالفة. ولم يكن الأمر مغايرًا في عالمنا الناطق باللغة العربية، فهدى شعرواي إحدى رواد الحركة النسائية المصرية لها قصة معروفة برفض الاعتراف بحفيدها من ابنها بعد زواجه العرفي من المطربة فاطمة سري، بل وجندت معارفها لتهدد فاطمة، وانتهى الأمر بحكم محكمة يثبت نسب الابن، ولكن هدى حرمت فاطمة من ابنها طوال حياتها.
لا تقتصر مسوجونية بعض نساء الطبقة البرجوازية على إهمال مطالبات وصوت نساء المجموعات المهمشة، بل تتعدى ذلك إلى الإيمان التام بأن دورهن يقتصر على تجسيد مثال «وراء كل رجل عظيم امرأة»، وأن من واجبها دعم نجاحه مقابل أن تكون في حماية رجل يحبها ويوفر لها حياة كريمة، فتكرس النظام الأبوي وموازين القوى الحالية. الباحثة ماري جاكمان تناولت هذه الظاهرة في أحد مؤلفاتها حول افتعال النظام الأبوي للصراعات الطبقية والعرقية، وقد أطلقت على تلك الظاهرة اسم «القفازات المخملية».
«أكبر منك بيوم»
السن والمكانة العائلية، خصوصًا إذا ما استخدم الدين كسبب مطلق للطاعة، امتياز آخر تستخدمه المرأة ضد المرأة. ففي المنزل مثلًا، تتردد على مسمع الفتاة كلمات مثل «رأسك يابس» أو «لسانك طويل» من أمها أو أخواتها الأكبر سنًا أو عماتها أو خالاتها، إن عبرت عن رأي مصادم لفكرهن أو اختارت طريقًا يخالف نهج نساء العائلة.
هنا عودة للفكرة التي طرحتها سارة أحمد حول الطاعة كنقطة حكم، فتصبح الفتاة المطيعة هي الفتاة الجيدة، وبذلك تتلاشى أحلام النساء اليافعات ورغباتهن، وتتماهى مع رغبة جماعية (Collective Desire)، لتصبح مواطنة/ابنة/زوجة صالحة. وفي الغالب تطوي النساء الأكبر سنًا إرادة الفتاة تحت جناح الإرادة الجماعية، من خلال غرس فكرة «المرأة سمعة»، خصوصًا في مجتمع يؤمن أن الفتاة تفتقر إلى الرادع الأخلاقي الذاتي، ويتحول مفهوم السمعة لسلاح يستخدمه المجتمع لفرض رقابة وقيود على النساء.
لذا لا تخجل النساء المسوجينيات الأكبر سنًا من اللاتي يؤمنَّ بأن سمعة العائلة مرتبطة بسلوكيات الفتاة، من فرض وتشجيع تضييق الخيارات على الفتيات والنساء اليافعات. وقد انتشرت منذ فترة سلسلة تغريدات على تويتر للكاتبة مناير الكندري، توضح كيف أن استمرارية التراتبية الجندرية وما ينتج عنها من هيمنة الأقوى على قرارات الفئة الأضعف تبدأ بتفاصيل صغيرة من المنزل، فالنساء المسوجونيات لا يهتز لهن جفن في تبني معايير مزدوجة في تربية أبنائهن وبناتهن.
وفقًا لبيل هوكس، لا تكمن خطورة هذا الأمر فقط في تكريس الثقافة الذكورية داخل المجتمع، ولكن حينما يجتمع القمع بعلاقة يفترض أنها توفر الحب والعناية، يصبح من الصعب على النساء الإيمان بجدوى مقاومة القمع المؤسسي.
بالعودة إلى فكرة الهيمنة لدى غرامشي، فمن المتوقع أن تكون نتيجة تقاطعية الجندر مع السن أو/والطبقة الاجتماعية ولادة رغبة في استمرارية التراتبية التي تحفظ للمرأة امتيازها الطبقي والمجتمعي، فتمارس قمعًا على النساء الأقل حظوة منها عبر مسوجونية ذاتية (Internalizing Misogyny).
في ظل ذلك، فإن النساء اللاتي تشرَّبن معايير المجتمع الذكوري على أنه نظام كوني تستخدمن امتيازتهن الطبقية أو المجتمعية لخدمة النظام من خلال آليات مختلفة، معظمها نفسي كالتقليل من الشأن أو معايرة أو نبذ المرأة التي تتحدى معايير المجتمع (Societal Norms)، وتخرج عن «الطريق السليم».
المسوجونية الذاتية في الكويت
بصفتي من الكويت، سأتكلم عن تجليات المسوجونية الذاتية السائدة، لكنها ليست حكرًا على الكويت أو دول الخليج، وبالتأكيد أن القارئة والقارئ سيجدان أنه يشبه إلى حد ما سياق مجتمعهما المحلي.
ماذا عن الكويت؟ دخول المرأة الميدان العام لم يكن بالأمر الهين، إذ اعتقد كثير من المحافظين أن تعليم المرأة وعملها خارج المنزل تهديد لقيم المجتمع. وهو ما يعكس فكر المجتمع الأبوي الذي تأسس على تراتبية جندرية وأدوار محددة لكل من الجنسين، بما يعتقد أنه أنسب لـ«طبيعتهم البشرية».
على الرغم من ذلك، تمكنت النساء الكويتيات في ستينيات القرن الماضي من إنشاء جمعيات نسائية تعنى بشؤون المرأة، إلا أن المتتبعين للحركة النسوية الكويتية ودورها في المجتمع يرى أنه وبعد حصول المرأة على حقها السياسي، غاب الدور الفعال لتلك الجمعيات في ما يخص مشاكل النساء في المجتمع، واقتصرت أدوارها على جمع التبرعات للاجئين وعقد ندوات ثقافية حول تمكين المرأة في السياسة ومجال ريادة الأعمال.
بخصوص ما سلف شرحه عن تأثير النظام الأبوي على الفئات المهمشة، فمن الضروري فهم أن أجندة الجمعيات النسائية ليست فقط انعكاسًا منطقيًا لهموم ومشاكل المؤسسات والعضوات، أو فقط لنفس عنصري ضد من لا ينتمي لذات الطبقة الاجتماعية، ولكن التهميش لأزمة النساء البدون، أو العنف والاستغلال الجنسي لعاملات المنازل، هو مسوجونية وليدة التقاطع بين الجندر والطبقة الاجتماعية. حتى تظل الجمعيات النسائية وعضواتها واجهة الكويت النسائية والممثلة لها في المحافل العالمية، لا تتدخل الجمعية بين الدولة وبين نساء الفئات المهمشة، وهو تطبيق عملي لنظرية «التفاوض مع النظام الأبوي» التي قدمتها الباحثة التركية دينيز كانديوتي في مقال يحمل ذات العنوان، والتي تنص على أن النساء في ظل النظام الأبوي يلتزمن بما تسميه «قواعد اللعبة»، فيتنازلن عن بعض حقوقهن ورغباتهن حتى لا تُسلب منهن جميع الامتيازات والحقوق.
أما النوع الآخر، أو مسوجونية النساء الأكبر سنًا، فهي واضحة بشكل أكبر في الكويت، وتظهر بأشكال متعددة. فلا يقتصر التحكم فقط على منطلق «أكبر منك أعقل منك»، بل يُستخدم أسلوب ضغط نفسي يعرف بتأنيب الضمير (Guilt Tripping)، خصوصًا إذا ما استخدمت أحاديث وآيات قرآنية لحمل الفتاة على التنازل عن حقوقها أو رغباتها، حتى لا تخالف شرع الله ولا تطالها عاقبة أو كارما العقوق في الدنيا والآخرة. فتكون النساء الأكبر سنًا جزءًا من عملية تطبيع استضعاف فئة والسيطرة عليها داخل المنزل كما خارجه، وجزءًا من استمرارية حلقة تساوي الطاعة بكينونة الفتاة كإنسانة خيّرة لأهلها ومجتمعها.
رغم كل ما سبق، فإن تشرب أبوية المجتمع ليس حكرًا على النساء الأكبر سنًا أو نساء الطبقة المخملية، فكلنا عرضة لأن نتطبع بأفكار المجتمع الذي نعيش فيه، خاصة إذا ما افتقر محيطنا إلى التشجيع على التفكير النقدي وتفكيك الموروث الثقافي، من غير اتهام بالحياد عن المسار.
المسلسلات الكويتية ودروس في المسوجونية الذاتية
لذلك، وفي امتداد مهم لهذه المقالة، أعرض مجموعة من الممارسات التي قد نسلكها بحياتنا من غير إدراك أنها ما هي إلا امتداد لفكر أبوي يكرس تهميش المجتمع والدولة للنساء أو مجموعة كبيرة منهن. وأي مصدر أفضل لأمثلة تتجلى بها مسوجونية النساء على بعضهن من المسلسلات الخليجية؟ في ما يلي تحليل لأمثلة مستقاة من مسلسلين للفنانة الكويتية حياة الفهد: «حال مناير» و«حدود الشر».
في حال مناير، مناير (حياة الفهد) أم لأربع فتيات وابن واحد، وتفرق بينهم في المعاملة والمشاعر بشكل واضح. مهنتها خليط بين بائعة شنطة وبصارة، تطلبها مجموعة من النساء لتسليهن في تجمعاتهن النهارية. ولأنها منعت بناتها من استكمال دراستهن الجامعية وانتهى الحال بهن في المنزل انتظارًا لزوج المستقبل، تدبّر مناير زيجات لهن من أبناء رجل أعمال مهم (زوج نوال إحدى النساء المداومات على المجالس النسائية النهارية التي تحضرها مناير كفقرة التسلية)، لينتهي الأمر بواحدة منهن أن تتزوج من رجل الأعمال. الجدير بالذكر أن المسلسل يبدأ بمشهد يبين أن مناير كانت ضحية لزواج مبكر في سن الطفولة، وما شخصيتها كأم إلا انتقامًا من جرحها.
أما مسلسل حدود الشر فتدور أحداثه في خمسينيات القرن الماضي، وهو عن نعيمة (حياة الفهد) التي تحاول أن تعيد الاستقرار لأسرتها بعد أن تفككت بهروب ابنها الوحيد من المنزل عقب أن صفعه أباه. أسرة نعيمة مكونة من ولد (جاسم) وابنتان (مريم وبدرية) وابنة أخ زوجها اليتيمة.
تُتهم الفتاة بالأنانية لأنها تضع رغبتها كأولوية، فيجري التقليل من شأن احتياجاتها واهتماماتها بحجة عدم مراعاتها للظروف.
تتنوع في المسلسلين طرق النساء في قمع المجال أمام الأخريات للتعبير عن أنفسهن. فمثلًا تتردد في المسلسل كلمات مثل «أكسر راسك» أو «لسانك أقصه قص» لمنع فتاة من التعبير عن رأيها المخالف. وتُستخدم حجة التهذيب والتأديب لرفض الاستماع بحجة الأسلوب المتطاول، بينما الطريقة الأصح هي الإنصات لما تقوله مع إبداء الملاحظة والاستياء من الأسلوب.
طريقة أخرى للقمع أقل منها وضوحًا هي ما يعرف بالـ«Gaslighting»، أو التشكيك في صحة الآراء والأقوال والتقليل من أهميتها. فمثلًا في مسلسل حدود الشر، تقلل مريم الراغبة في إكمال تحصيلها الجامعي في القاهرة من شأن الرغبة الملحة لابنة عمها في الزواج، وتتهمها بالسطحية ومحدودية الطموح.
مثال آخر على التقليل من أهمية رأيها عندما تُتهم الفتاة بالأنانية لأنها تضع رغبتها كأولوية، فيجري التقليل من شأن احتياجاتها واهتماماتها بحجة عدم مراعاتها للظروف، كحال ألطاف ابنة مناير حين تبدي تخوفها من أن أحدًا لن يتزوجها بعد سجن أخيها الأرعن، أو مريم التي تلح على التسجيل للبعثة التي ستغلق أبواب التقديم قريبًا، بينما يسفهها الجميع لأنهم مشغولون البال بهروب أخيها.
هذه الأمثلة تدل على كيف أنه من المتوقع من المرأة أن تضحي وتضع نفسها خلف الآخرين، وتنتظر البت في أمورها المصيرية حتى تهدأ زوبعة أثارتها نزوات وقرارات اتخذها أشخاص في محيطها، قرروا أنهم وأفعالهم أهم منها.
في المسلسلين هناك تطبيع لفكرة أن المرأة من غير رجل أو علاقة حب أو زواج حياتها ناقصة، لذا من المتوقع أن يكون الزواج هو المبتَغى والحلم لكل امرأة «طبيعية». لا يظهر ذلك فقط بالشكل المباشر المعتاد، بل أيضًا يتضح من خلال تحويل الزواج إلى موضوع تتفاخر به الأمهات في ما بينهن، فنرى نعيمة في حدود الشر تكيد شريكتها «بنتي ربي لك الحمد تزوجتْ واحد غني ويابت له الظنى، والثانية كل يوم إييها (يأتيها) واحد أحسن من الثاني»، على الرغم من أن ابنتها الثانية، مريم، متعلمة وقارئة في زمن لم يكن فيه تعليم المرأة منتشرًا، لكن أمها اختارت أن تتفاخر بأنها مرغوبة للزواج.
وبالحديث عن المؤسسة الزوجية، نجد تطبيعًا للأدوار الجندرية للمرأة، فالأمهات يغرسن في بناتهن أن مسؤولية المهام المنزلية من تنظيف وترتيب وطهي تقع على عاتقهن، من دون توقع مشاركة من الزوج أو الابن.
في حال مناير، توكل الأم المهام لبناتها العاطلات، بينما تربّت بحنان على ابنها العاطل الذي يبدأ نهاره في الظهيرة. وفي تناقض تام، الرجل هو صاحب الكلمة الأخيرة في البيت، إلا أن الأم هي أول من يُحاسَب وأول من تشير إليه أصابع الاتهام بالفشل والتقصير في تربية الأبناء، إذا ما صدر من أحدهم سلوك يتعارض مع توجه الأسرة والمجتمع.
لذلك كان عدد من الشخصيات النسائية في المسلسلين يمارسن وصاية صارمة على سلوك ومظهر الفتيات من بناتهن أو أخواتهن، خشية أن تُجرح سمعة العائلة بكلام الناس والجيران. وفي المقابل، وبمعايير صارخة في الازدواجية، نجد أن سلوكيات الرجال والشباب الطائشة غالبًا ما يُقلل من شأنها، وتتكرر مقولة «يتزوج ويعقل».
في ما سبق أمثلة لتقاطعية الجندر والسن أو المكانة العائلية التي قد نعيشها أو نمارسها من غير وعي. المسلسلان لم يخليان من أمثلة لتقاطعية الجندر بالمكانة الاجتماعية، وإن كان ظهورها أقل بكثير من التقاطعية السالفة. أبرزها كانت ملابس بنات مناير قبل أن يتزوجن من رجال من الطبقة البرجوازية، ففي البداية كن يرتدن ملابس المنزل وعباءة سوداء، لكن بعد زواجهن أصبحن يرتدين ملابس معاصرة ملونة. هذا المثال وإن كان راديكاليًا، فإنه يعكس اعتقاد أن المرأة من خارج المجتمع المخملي إما أنها تفتقر إلى الذوق الرفيع (مما يطرح سؤال: من يحدد الذوق والجمال في المجتمع؟)، أو أن طموحها أن تكون نسخة من المرأة البرجوازية لكن الظروف المادية والمجتمعية تمنعها.
إجمالًا، انتقاد المرأة البرجوازية لما ترتديه النساء خارج دائرتها يتجاوز الحكم على المظهر الخارجي، بل يصبح أداة تفعّل ثنائية «هن» و«نحن» في الفكر والرقي والتحضر. ومهما تداخل بعض أفراد العالمين المنفصلين فهو أمر مؤقت ومشروط: إذ أن نساء الطبقة العليا تستغللن نفوذهن للإبقاء على الطبقية، وخير مثال على ذلك إلحاح نوال على زوجها كي يوظف ابنة مناير في شركته، رغم رفضها القاطع أن يتزوج أحد أبنائها من إحداهن. هنا يعكس مشروطية تمكين المرأة المهمشة النابع من شفقة على أن يُحترم الخط الفاصل بين «عالمنا» و«عالمهن».
ما لنا وما علينا
بعد مجموعة الأمثلة المطروحة، يأتي السؤال: ما الحل؟
أولًا، من المهم أن نشدد على أن اشتراك بعض النساء في تكريس نظام يظلمهن ناتج عن تنشئتهن على أن النظام القائم يخدم مصلحتهن ويتماشى مع «فطرتهن»، وإن راودهن إحباط أو شك، فهن يعلمن أنهن مستضعفات، وبالتالي يتفاوضن مع النظام بحيث تسمح لهن مصادر القوى من أسرة ودولة ببعض الحقوق والامتيازات. وبالتالي فإن عبارة «المرأة عدوة المرأة» ما هي إلا فكرة زُرعت لصرف النظر عن المنظومة الأبوية التي تنتج نساء في صراع دائم وتفاوض مستمر على حقوقهن، قد ينتج عنه تضحيتهن بنساء أخريات.
لكن من المهم أيضًا، وهو السبب الرئيسي وراء المقالة، تأكيد أن وضع اللوم بشكل كلي على النظام الأبوي كسبب تهميش بعض النساء لهموم نساء أخريات، ما هو إلا خطاب يلغي كل صلاحيات المرأة، ويزيل المسؤولية عن كل امرأة تتمتع بامتيازات تؤهلها لتحدي المنظومة الأبوية، ويفتح مجالًا لخلق نظام مجتمعي جديد وقوانين تشمل كل النساء وتحمي كل مصالحهن من غير مفاضلة أو خشية مواجهة تخسر فيها مؤقتًا بعض الامتيازات.
أما النسوة اللاتي لا يملكن أي موقع امتياز، فلو حدث ورأيتن أنفسكن في موقف تطلقن فيه أحكامًا على امرأة ما وعلى همومها واهتماماتها، فالمطلوب قليل من مراجعة موقفكن وفهم الأسس التي بُني عليها هذا الموقف، وتبعاته على المرأة والمجتمع الذي تنتمي له. وهو أمر يستحيل أن يحدث من غير تفكيك للموروث الأبوي، الذي يقف عائقًا أمام فرص خلق فضاء آمن يتسع لجميع النساء بمختلف انتماءاتهن الفكرية والاجتماعية، فضاء يسمح بتكاتف النساء والدفع بمشاريع مجتمعية وتشريعية تكفل حقوقهن من جميع الفئات.
ختامًا، هذا المقال هو اعتراف بإمكانية المرأة وقدرتها على قلب موازين الظلم الجندري عبر سعيها لخلق تغيير مجتمعي. إلا أن تحدي المنظومة الأبوية وقوانينها الجائرة على كثير من الفئات المستضعفة لا يقع فقط على عاتق النساء المتضررة منه، فمن غير المنطقي أن نطلب من الضحية أن تناضل وحدها لتغيير موازين القوى. الرجال وجميع أصحاب الامتيازات وصناع القرار مسؤولون بالدرجة الأولى، وعليهم الدور الأكبر بالتعاون مع المرأة في خلق مجتمع بثقافة وقوانين أكثر توازنًا، تصون كرامة أفراده وتمنحهم فرصًا عادلة.