نضع الفخاخ ونسقط فيها: هكذا تحررنا الألعاب اللغوية

عمر علاء
نشر في 2018/09/25

عندما يمسك شخص ما، قطعة الملك في لعبة الشطرنج، ويُعلِّم شخصًا آخر أساسيات اللعبة، فيخبره: هذا هو الملك. يكون من الواضح بالنسبة إلى الاثنين، أن هذا ليس ملكًا حقيقيًّا بالطبع، وأن هذه القطعة الخشبية تلعب دور الملك في هذه اللعبة تحديدًا. هذا الاتفاق بين اثنين يجلسان على طرفي رقعة شطرنج، هو ما يجعل لهذه اللعبة معنى من الأساس.

تمثل فكرة اللعبة بشكلها العام، بداية من كرة القدم، وحتى ألعاب الأطفال في الشارع كالغُمِّيضة، اتفاقًا بين مجموعة من الأشخاص، على وضع قواعد تحكم تفاعلهم المشترك. أنا إذا فعلت كذا، يكون عليك أن تفعل كذا.

عندما أطلق الفليسوف نمساوي الأصل «لودفيغ فيتغنشتاين» وصف «اللعب» على طريقة تعاملنا مع اللغة، ربما كان غرضه أن يشير إلى أن هنالك تفاعلًا مستمرًّا وتلقائيًّا يشمل وظيفة اللغة في المجتمعات. من ثَم تكون مسألة اللغة ذات أهمية وموضع نظر لمن لدية النية لدراسة أي تغيير على شكل المجتمع.

تشبيه فيتغنشتاين للغة كلعبة يعني أنها تفاعُل يشمل اتفاقًا بين طرفين على مجموعة من القواعد. وتتغير القواعد هذه بتغيُّر الأطراف المشاركة في اللعبة. الطريقة التي نتحدث بها مع أصدقائنا المقربين، ربما تتضمن مجموعة من الشتائم مثلًا. نفس هذه الشتائم لن تكون مقبولة في سياق اجتماعي آخر.

ينطبق الأمر نفسه على الإيماءات والإيحاءات التي من خلالها ننطق بالجمل نفسها. رأى فيتغنشتاين أن الكلمات لا تحمل أي معنى في داخلها، بل تنطلق دائمًا مكسوَّة بالطريقة التي ننطقها، والسياق الذي نستخدمها فيه.

في مقال نشره موقع «Aeon»، تتناول «ساندي غراند»، أستاذة الفلسفة في جامعة كامبريدج، ما يترتب على النظر إلى الخطابات البشرية، وكأنها ألعاب لغوية وفق اقتراح فيتغنشتاين.

يناقش المقال هجوم الفليسوف «هربرت ماركوزه» على فيتغنشتاين، والذي كان في جزء كبير منه تساؤلًا عما إذا كان الاهتمام بتحليل لغة الحديث، عاملًا يساعد الناس على فهم أنفسهم، والمجتمعات على التحرر من سجن أفقها المحدود، أم إنه صرف للانتباه عما ينبغي على المثقفين فعله إزاء أوضاع العالم الذي يعيشون فيه؟

لودفيغ فيتغنشتاين: جئت وحدي لأخبركم

الصورة: Clara Sjögren

أراد فيتغنشتاين كشف حقيقة أن «الكلمات لها أعمال»، بمعنى أننا نفعل شيئًا بالفعل، في كل مرة نستخدم فيها كلمة.

يعيش الإنسان وسط عالم من اللغة، نستخدم الكلمات حتى نفعل أشياء. وعادة لا نعير انتباهنا لهذا، فقط نعيشه ونتعامل معه. بيد أن طرق استخدامنا للغة لها آثارها الخاصة في الطريقة التي نعيش بها، وماذا يمكن أن نكون.

ما يعني أننا إذا أردنا تغيير الأمور، لا بد من أن نجري تغييرًا مماثلًا على طريقة استعمالنا للكلمات. لكن هل تحررنا اللغة بهذا المعنى؟

الفلسيوف الشارد لودفيغ فيتغنشتاين، هو من صاغ مصطلح «ألعاب لغوية»، ورأى أن الكلمات تكتسب معناها بكيفية استخدامها، فالأمر كله بمثابة لعبة يتفق على قواعدها جميع من يشارك فيها. أَحبَّ فيتغنشتاين أن يُظهر كيف أن استخدام الكلمات يتشابك مع الأفعال التي تحدث في المجتمع الذي تكون الكلمات جزءًا منه.

استعمال فيتغنشتاين هذا المصطلح لم يكن، في رأيه، رغبةً في لفت الانتباه إلى اللغة فقط، وإنما أيضًا إلى الأفعال التي تتلاحم مع الكلمات.

فنحن إذا فكرنا في التعبيرات الآتية: «النجدة!»، «حريق!»، «لا!»، نجد أن علامات التعجب تؤدي فِعلًا منفصلًا مع الكلمات: فالكلمة الأولى غرضها الرجاء، والثانية التحذير، والثالثة النَّهي.

أراد فيتغنشتاين كشف حقيقة أن «الكلمات لها أعمال»، بمعنى أننا نفعل شيئًا بالفعل، في كل مرة نستخدم فيها كلمة، ولا نفعله وحدنا (فما قيمة اللغة لو لم تستطع التواصل بها مع غيرك؟)، بل نفعله في هذا العالم ومع آخرين.

في كتابه «بحوث فلسفية» (1953) استخدم فيتغنشتاين مثالَ عاملَيْ بناء:

يصيح العامل الذي مهمته وضع قوالب الطوب «طوبة!»، فيناوله العامل المساعد قالب الطوب. ماذا يحدث هنا؟ إن المساعد يستجيب وينخرط في اللعبة، ويفهم المطلوب، ويتفاعل مع العالم حوله، طبقًا لهذا الأساس.

نحن البشر، نعيش معًا في اللغة بالطريقة الخاصة التي نسلكها، الطريقة التي تتضمن نشاطات مجتمعية معينة.

بتسليط الضوء على الألعاب اللغوية. يطلب فيتغنشتاين من القراء أن يجربوا التأمل في ما يفعلون، لكن إذا كنا تحت التأثير الساطع لأنشطتنا اللغوية، هل نمتلك حقًّا أن نرى ماذا نفعل؟

الفيلسوفان

الصورة: Harold Marcuse

أحد أهم منتقدي نظرية فيتغنشتاين عن اللغة، كان «هربرت ماركوزه»، الفيلسوف والمفكر الألماني، وأحد الأجيال الأولى المنتمية لتيار «مدرسة فرانكفورت».

رأى ماركوزه أن محاولات فيتغنشتاين المحمومة لرؤية ما وراء اللغة، تحرمه من رؤية أي شيء آخر في هذا العالم. بل وحسب رأيه، تمنعنا من تبصُّر إمكانات جديدة. فالانشغال المهووس باللغة، لا يعدو أن يكون إلهاءً عن العالم الحقيقي وما يحدث فيه. فتكون النتيجة الانسحاب تمامًا في النهاية.

الارتباك الإنساني حيال اللغة ذو جذور بعيدة العمق.

في كتابه «الإنسان ذو البعد الواحد» (1964)، صرح ماركوزه بأن عمل فيتغنشتاين تعيبه الاختزالية والاجتزاء، ورأى أن أعماله لا يمكنها أن تكون تحررية. فتركيز فيتغنشتاين على الطريقة التي نستخدم بها الكلمات، يقوده إلى أن يضيع منه ما يجري بالفعل على أرض الواقع.

يزعم ماركوزه أن فيتغنشتاين لا يرى غير اللغة، ويجاهد ليُبرز إلى النور الألعاب اللغوية، ويغض البصر عن الصورة الكبيرة. الأمر الذي يقول ماركوزه عنه بوضوح: «هذا غباء».

في كتاب «الثقافة والقيمة» (1977) يقر فيتغنشتاين: «أحيانًا يصعب عليَّ أن أرى ما هو أمام عيني». نحن عادة، كما يقول فيتغنشتاين، يفوتنا الشيء الواضح. فما هو أكثر قربًا منا يكون الأكثر صعوبة في الرؤية. حينما نستخدم الكلمات، نشترك في تفاهمات يومية، ثم نمضي قدمًا، دون أن نسمح لعقولنا بالتمعن في اللغة نفسها وتداعياتها».

هذا الارتباك الإنساني حيال اللغة ذو جذور بعيدة العمق. فيتغنشتاين يسترعي الانتباه إلى الطرق التي نستخدم فيها الألعاب اللغوية اليومية هذه، لنضع الفخاخ والشراك لأنفسنا، ثم نسقط فيها.

أي أب أو أم يعرفان هذه الحالة. يتعلم الطفل الصغير مثلًا كلمة: «قطة»، وبينما تعني هذه الكلمة البسيطة الحيوان الذي يموء ويسير في الشوارع، فإن الأبوان يلاحظان أن الطفل الصغير لا يستعمل هذه الكلمة فقط للإشارة إلى الحيوان. إذ إنه يرى كلبًا، فيقول: «قطة»، ويرى حيوانًا بريًّا على شاشة التلفاز في برنامج وثائقي، فيقول: «قطة»، بل إن الأمر أحيانًا يمتد لتصبح كلمة قطة تعبيرًا عن الرغبة في الخروج من المنزل مثلًا. بالنسبة إلى الطفل، فكل استعمالات الكلمة هذه صحيحة وفي موضعها.

يشتمل كتاب «تحقيقات فلسفية» على فحص ذاتي جاد، من اللافت أن نتساءل عن طرق استخدامنا اللغة لإنجاز أمور عادية، كالحديث عن الوقت أو إجراء مسائل حسابية أو تمنِّي قدوم شخص.

لكن إلقاء أسئلة حول طريقة استخدامنا اللغة ليس أمرًا سهلًا، خصوصًا لو كنا نستخدمها طيلة الوقت. لذلك، فلو أردنا أن نتغير، حسبما يرى فيتغنشتاين، فعلينا أولًا أن نتصدى لحقيقة أن نصبح «أغبياء»، وأن نعرف أننا أغبياء، وأن نعترف في البدء أن هذه الفخاخ التي نسقط فيها، هي في الواقع من صنعنا.

ماركوزه كان سيرحب بذلك طبعًا، فهو يدرك أننا في الممارسات اليومية، ودون قصد، نكون مذعنين لـ«السحر والخزعبلات والعرافة ونشوة الاستسلام».

قد يهمك أيضًا: هل يفتح لنا تعلم لغة جديدة تصورًا آخر عن الزمن؟

الألعاب تظهر عبر الاستخدام الجماعي للغة

هل يكون اعتراض ماركوزه الآخر أحسن حالًا؟ في زعم ماركوزه، فإن فيتغنشتاين يمارس الخداع، ويشدنا أكثر إلى شراك اللغة، في حين يدعونا إلى التحرر منها.

ماركوزه يدَّعي أن تناول فيتغنشتاين اللغة أحادي البعد. هذا الزعم لا تؤيده قراءة كتاب فيتغنشتاين، حسبما ترى غراند في مقالها، إذ إننا نجد رؤية متعددة الأبعاد للغة إلى حد يصعب تصديقه. بدأب شديد يعرض لنا فيتغنشتاين كيف أن الأساس لما نستخدمه كلغة، ينهض على زحزحة أنماط من النشاط الجماعي. اللغة مشروطة وظرفية، لذلك لا تكون الألعاب اللغوية إلا منفتحة للتغيير بأكثر من سبيل. يظهر ذلك عندما ننتبه إلى أننا نستطيع أن نختار أن نرى شيئًا كهذا أو ذاك: أرنب أو بطة، في المثال الأشهر.

استخدام اللغة جزء يكمل الوضع البشري. نحن نعيش في اللغة، رغم ذلك، فإن الطريقة التي ندرك بها كيف نحيا شيء في غاية الصعوبة.

إذًا، فاستخدام اللغة يعترف بالصراع والتغير بشأن ماهية الأشياء، ماركوزه على الجانب الآخر ينفي هذا. بل إنه يقول إن العملية الاجتماعية تغلق عالم الحوار نفسه، لكننا لا نحصل من ماركوزه على شيء مثل اقتراح فيتغنشتاين أن في استخدام اللغة نفسه شيئًا ما يأبى الاستقرار.

موقف فيتغنشتاين أكثر راديكالية مما كان لماركوزه أن يحمل نفسه على ملاحظته. يطلب منا فيتغنشتاين أن نمارس اللغة، ونتأمل في ما نقول، وتحيزاته، بطريقة مختلفة إذا كنا نريد أن يتغير أي شيء.

الألعاب اللغوية، بشراكها الماكرة، تطرح مشكلة عن الحراك المجتمعي، عن التجربة البشرية مع اللغة كجماعة لا كفرد، نحن لا يمكننا أن نخلص أنفسنا من تلك الشراك إذا تحركنا بشكل فردي، بيد أن هذا يطرح سؤالًا أبعد، يقوم على عمق انغماسنا في تلك الشراك، هذا السؤال توقعه فيتغنشتاين.

قد يهمك أيضًا: بأي لغة يتحدث إليك لاوعيك؟ وبعض الأسئلة الأخرى

يخفق ماركوزه في أن يرينا أن تدقيق فيتغنشتاين المذهل لألعاب اللغة ليس سوى أمر غبي لا جدوى منه، أو أن هذا التدقيق يسهم في استعباد البشر.

جهود ماركوزه بالأحرى توضح أهمية فيتغنشتاين وضرورته في ظلمة هذه الأوقات.

استخدام اللغة جزء يكمل الوضع البشري. نحن نعيش في اللغة، رغم ذلك، فإن الطريقة التي ندرك بها كيف نحيا شيء في غاية  الصعوبة. لا يبيع فيتغنشتاين إجابات جاهزة عن هذا المأزق، كلما كان هناك لغة وقعنا في أسرها. وسنواجه إغراء أن نسيء الفهم، وأن نُخطئ، ثم نحاول الفهم من جديد.

لأننا نعيش في عالم من اللغة، تختلف المجتمعات البشرية جذريًّا عن الممالك الحيوانية. تملك الحيوانات ألعابها، هناك أصوات خاصة بالتزاوج، وأصوات للتعبير عن العداء أو عن التحذير من الاقتراب من مناطق النفوذ. لكن هذه الألعاب تبقى محصورة في شكلها البدائي، وتأتي تعبيرًا عن غرائز أولية غير معقدة. الإنسان فقط هو الكائن القادر على التواصل بهذا الشكل من التعقيد والعمق. ولا ينبغي لأمر كهذا أن يمر دون ملاحظة وتأمل. 

ليست هناك نقطة مراقبة للرؤية في الخارج، لا يوجد مهرب من ألعاب اللغة، لكننا نقدر أن نشكل نوعًا من الحرية بداخلها. ربما علينا أولًا أن «نكون أغبياء» حتى نبصر هذا. وربما يشتمل فهم كلمة «قطة»، وفهم دلالتها على الحيوان، وأن للحيوانات أسماء أخرى، وللتعبير عن الرغبة في الخروج كلمات أخرى، خطوة أخرى في اتجاة النضج الحقيقي. فلكي ننضج فعلًا، علينا أن نعرف للأشياء أسماء أدق، وأن نساءل تعبيراتنا طيلة الوقت.

مواضيع مشابهة