يمكننا اليوم، أكثر من أي وقت مضى، أن نتواصل مع أعداد هائلة من الأشخاص. يصعب على معظمنا تخيل الدوائر الاجتماعية الأضيق كثيرًا لأسلافنا، بينما يضم حساب كلٍّ منا على فيسبوك مئات الأشخاص، وربما الآلاف، ومنهم أشخاص قابلناهم مرة واحدة فقط أو اثنتين، وهي علاقات كانت ستنتهي بالنسيان التام قبل ذلك بالتأكيد.
منذ عقود قليلة فقط، كنا نحتاج إلى تسجيل أعداد كبيرة من أرقام التليفون للأشخاص الذين نود البقاء على اتصال بهم، أما اليوم فلا حاجة لكل هذه الضجة. أصبح الجميع متاحين في كل وقت، ولم يعد استدعاء أصدقاء الدراسة القدامى أو زملاء عمل تركناه فعلًا من أفعال «النوستالجيا»، بقدر ما صار إمكانية متاحة دائمًا، وسهلة في الواقع.
يبدو كل هذا جيدًا، أم أنه ليس كذلك؟
يعتقد معظمنا أن كثرة الأصدقاء شيء حسن، ولا حاجة لنا بالتأكيد لشيطنة وسائل التواصل الاجتماعي أو أي تقنية حديثة أخرى، لكن بعض الدراسات ترى شيئًا مختلفًا. ويصف مقال على موقع (Quartz) نتائج هذه الدراسات، ويشرح لنا كيف سنكون أفضل حالًا بعدد أقل من الأصدقاء، لا على فيسبوك فحسب، وإنما في الواقع كذلك.
فيسبوك يسبب الاكتئاب
حسب المقال المذكور، ثمة ارتباط بين زيادة استخدام فيسبوك وزيادة الشعور بالوحدة. وبينما يطمح عدد منا أحيانًا إلى مزيد من الشعبية على فيسبوك، تشير الدراسات إلى أن هؤلاء الأكثر استخدامًا لموقع التواصل الاجتماعي الأشهر يكونون أقل رضًا عن حيواتهم عمومًا.
وجدت دراسة أخرى أن استخدام فيسبوك يسبب سوء الحالة المزاجية، بينما لا يؤدي الاستخدام العادي للإنترنت خارج فيسبوك، لنفس المدة، إلى ذات النتيجة.
الأشخاص الذين تهمهم شعبيتهم بين الناس يصيرون أقل سعادة وصحة وأكثر عُرضة للاكتئاب.
يشير المقال مع ذلك إلى أن دراسات أخرى تؤكد الجوانب الإيجابية لاستخدام فيسبوك وغيره من شبكات التواصل الاجتماعي، التي تعمل أحيانًا على تعزيز العلاقات في «العالم الواقعي». بعض الدراسات تشير إلى أن هؤلاء الذين يشعرون بالوحدة يميلون إلى استخدام فيسبوك بصورة أكبر، وليست المسألة أن فيسبوك هو الذي يسبب شعور الوحدة.
لكن تظل المسألة المهمة من وجهة نظر كاتب المقال أن هناك دراسات توضح حدوث نتائج سلبية بصورة أو أخرى، وهو ما يتناقض تمامًا مع أي الدراسات عن العلاقات خارج إطار الإنترنت، التي تخلص دائمًا إلى نتائج إيجابية على جميع جوانب الصحة النفسية للبشر.
قد يعجبك أيضًا: هكذا حطمت التكنولوجيا المسافات والقدرات المحدودة في العلاقة الحميمة
الصداقة تُقدَّر بالمال
لكن المشكلة تتجاوز فيسبوك. يشير الكاتب إلى بحث أجراه عالم النفس الأمريكي «تيم كاسر» (Tim Kasser)، وجد فيه أن الناس يبحثون في علاقاتهم الاجتماعية عن هدفين: الشعبية، وهي الحاجة إلى كسب المزيد من الأصدقاء ونَيْل إعجاب عدد كبير من الناس، والأُلفة، وهي الحاجة إلى علاقات عميقة وقوية تربطنا بالآخرين.
كان هؤلاء الأكثر اهتمامًا بالشعبية أقل سعادة وصحة، كما كانوا أكثر عُرضة للاكتئاب واستخدام المخدرات من المهتمين بالألفة، الأكثر سعادة وصحة بصورة عامة.
يبدو للأسف أن الناس اليوم أصبحوا أكثر اهتمامًا بالشعبية من أي شيء آخر، ولا أحد يعبأ ببناء علاقات وثيقة وحقيقية. فعلى سبيل المثال، أُجري استطلاع رأي عام 1985 عن عدد الأصدقاء الذين يتكلم المرء في الأمور الهامة معهم، وأجاب 59% من الأشخاص بأنه ثلاثة أشخاص أو أكثر. عندما أُجري الاستطلاع نفسه عام 2004، كانت الإجابة الأكثر تكرارًا هي لا أحد على الإطلاق.
هذه خسارة كبيرة بالتأكيد، فإحدى الدراسات تشير إلى أن العائد من علاقة صداقة وثيقة على السعادة والصحة يساوي الحصول على علاوة قدرها مئة ألف دولار سنويًّا.
الجودة، لا الكمية
أثبتت دراسة أن الأشخاص السعداء تجمعهم علاقات متينة بالأصدقاء والأقارب.
يشير المقال إلى دراسات مختلفة أُجريت على الرئيسيات، وهي تلك الرتبة من الثدييات التي تضم البشر والقِرَدَة، ووجدت أن أكبر عدد من العلاقات يستطيع الإنسان التعامل معه هو 150. أشارت تلك الدراسة كذلك إلى أن الناس يميلون إلى تكوين علاقات وثيقة مع خمسة أشخاص، ثم علاقات أقل عمقًا مع خمسة عشر شخصًا، ثم 50، ثم 150.
يعني هذا ببساطة أن الفوائد التي تعود على الإنسان من علاقات الصداقة لا تأتي من 500 صديق على فيسبوك، ولا حتى من 150 أو 50، إنها تأتي من أقرب 15 شخصًا، الذين يؤثِّر قضاء الوقت معهم بشكل مباشر على السعادة والصحة وطول العمر.
كذلك وجدت دراسة أُجريت على عدد من الأشخاص السعداء أن الشيء الذي يجمعهم هو علاقات متينة بالأصدقاء والأقارب، وقضاء وقت جيد معهم.
اقرأ أيضًا: علم النفس التطوري والسلوك الجنسي للبشر
اعرف أولوياتك
ليست المسألة متعلقة إذًا بأضرار مواقع التواصل الاجتماعي، أو أنها محاولة من كاتب المقال لإثناء الناس عن حب الشعبية والشهرة على فيسبوك.
يرتبط الأمر بالأولويات قبل أي شيء آخر، فبالرغم من البهجة التي قد يحصل عليها المرء في حفل يضم أعدادًا كبيرة من الناس، ومن متابعة أصدقائنا القدامى على شبكات التواصل الاجتماعي، والذين كنا سنفقدهم تمامًا بدونها بالتأكيد، بالرغم من ذلك كله فإن هذه العلاقات لا يجب أن تكون على قمة أولوياتنا الاجتماعية في النهاية.
أما من يستحقون احتلال هذه القمة في الحقيقة فهم العدد الأقل كثيرًا من الأصدقاء الذين تربطنا بهم علاقات عميقة وحقيقية، إذ إن هذه العلاقات هي ما يصنع فارقًا عندما يتعلق الأمر بسعادتنا وصحتنا النفسية والجسمية.
يدعونا كاتب المقال إذًا إلى التفكير وطرح سؤال على أنفسنا: من هم هؤلاء الخمسة عشر شخصًا الذين ينبغي علينا المحافظة عليهم حقًا؟