بعد انتظار قرابة الساعتين في الطابق الثاني من مبنى إدارة الشرطة المجتمعية في ضاحية عبد الله المبارك، دخلتُ أنا وإحدى الناشطات الكويتيات إلى مكتب الوكيل المساعد لشؤون الأمن العام. خلى المكان من أي حركة، حتى كادت جدرانه العالية تعكس صدى الشعارات التي تحث ضحايا العنف من النساء على كسر حاجز الصمت والإبلاغ عن العنف الأسري والتحرش الجنسي، متجاهلة العنف المؤسسي الذكوري الذي تنتشر خلاياه السرطانية الخفية في كل مكان ويزيد من معاناة الضحايا.
رفض الوكيل الرد على كل الأسئلة التي طرحناها عليه، بحجة أننا لم نحضر التصريح الرسمي الذي يعطينا حق الاستفسار. وحين سألته الناشطة عن معنفة رفض المكتب مساعدتها وإيقاف عنف أهلها عنها، ادعى أن قضيتها ليست جدية واتهمها بتضخيم الأمور. أنهينا الزيارة في أقل من نصف ساعة، والنتيجة كانت أنني حصلت على مطبوعات عن «الطفل والمحبة» و«كيف تواجه المشكلات؟».
وفي حديث آخر مع ضابطة كويتية برتبة رائدة حقوقية في وزارة الداخلية، صرحت بشعوري بالغضب وخيبة الأمل بعد زيارة إدارة الشرطة المجتمعية، فاعترضتْ على انتقاداتي وقالت إن الشرطة تحاول حل المشكلة: «بس تدرين ليش يرجعونهم البيت؟ لأنه للأسف لحد الآن لا يوجد مركز إيواء، لا يوجد مكان مجهز يستقبلهم. وصار لهم سنتين بمشروع المركز».
مركز إيواء الناجيات من العنف حلم ولد ميتًا، بحسب ما كتبته جريدة «القبس».
العنف المؤسسي ومعوقات التبليغ
منذ أن بدأتُ التدريب والعمل التطوعي عام 2013 في ولاية ماساتشوستس الأمريكية، للرد على الخط الساخن الذي يقدم الدعم النفسي والقانوني لضحايا العنف الجنسي، والشعارات النسوية لكسر حواجز الصمت والتصدي للعنف تؤرقني، خصوصًا بعد انطلاق الحركة المناهضة للتحرش الجنسي «Me Too/أنا أيضًا».
للأسف، تعاني النساء عامة وبالأخص من لديهن تجارب سلبية سابقة مع القضاء والقانون ومراكز الأمن، بما في ذلك التمييز الصريح أو الخفي أو حتى العنف، من عدم الثقة في الجهات المسؤولة، مما يشعرهن بالتردد في الإفصاح عن أي اعتداء أو عنف أو طلب المساعدة.
في بعض الأحيان، يصبح التبليغ لعنة على المرأة، التي تُجبر على العودة إلى معنفها، والذي قد ينتقم منها.
وفي الوقت الذي تطالب فيه حركة «حياة السود مهمة» في أمريكا بسحب ميزانيات أقسام الشرطة وإعادة تخصيصها لمؤسسات عامة لدعم المجتمع وتوفير الخدمات الاجتماعية والرعاية الصحية وغيرها، لا تزال الغالبية تعتقد أن الشرطة جزء من الحل، وليست من الخلل الذي يثري ويؤيد ثقافة لوم الضحية المعنفة، وتقبُّل العنف وتمجيد السمعة والأهل على حساب حماية المعنفة، وإيقاف العنف ومحاسبة المعنِّف.
حينما توجهت سارة من الكويت (اسم مستعار) إلى مركز الشرطة للتبليغ عن تعرضها لاعتداء جنسي من أحد أقربائها، احتجزها الشرطي دون حق بحجة التحقق من صحة أقوالها، ومن ثم تحرش بها. أخبرتني محاميتها أن مراكز الاحتجاز الأولى هي مراكز الشرطة أو المباحث، والتي عادة ما يكون الحراس فيها رجالًا: «تُسجَّل فعلًا حالات اغتصاب وتحرش واعتداء جنسي من قبلهم ضد المحتجزات، وخصوصًا ضد العمالة الوافدة التي تنتظر الترحيل، لأنهم بعد الاعتداء عليها يسيرون في إجراءات الترحيل لإخراجها من البلد».
يعتقد الكثير من رجال الشرطة أنه من واجبهم الدفاع عن سمعة العائلة والحفاظ على النساء وإلقاء الخطب الدينية حول رضا الوالدين، بدلًا من التصدي للظلم وإيقاف الأذى ومحاسبة الظالم. تقول الناشطة مريم (اسم مستعار) إن المشكلة تكمن في أن رجل الأمن قد يكون هو نفسه معنِّفًا. في العديد من زياراتها لمراكز الشرطة مع الضحايا للتبليغ عن تحرش أو عنف، تتلقى معاملة على أنها هي المذنبة. «أنتِ جاية ضحية يطلعونك من المخفر مجرمة، هذا عقوق والدين، هذا حق الزوج (...) زوجها ضربها شو يعني؟ من حقه، اشتراها بفلوسه». وفي بعض الأحيان، يصبح التبليغ لعنة على المرأة، التي تُجبر على العودة إلى معنفها، والذي قد ينتقم منها.
في هاشتاغ «#ليش_ما_بلغت» الذي انتشر على تويتر في أبريل 2020، شاركت النساء السعوديات بعض العوائق التي تمنعهن من الإبلاغ عن العنف اللفظي والنفسي والجسدي والتحرش الجنسي والاغتصاب. كان من أبرز الأسباب الخوف من الجهات الأمنية، وانعدام الثقة في السلطات المكلفة بالتدخل وتوفير الحماية. وذكرت بي بي سي في تقرير عن الهاشتاغ أن السعوديات انتقدن غياب قوانين الحماية، واتهمت بعضهن السلطات بالتواطؤ مع الرجال ممارسي العنف.
غالبًا ما تتضاعف الحواجز التي تحول دون الإبلاغ بالنسبة للنساء اللواتي يعانين من العنف المؤسسي والعنصرية المتكررة. خطر إلقاء اللوم على الضحية أو عدم أخذ شكواها على محمل الجد حسب القانون وكما في بقية المجتمع، يهدد بشكل خاص الضحايا المهمشات المضطهدات على أساس العرق، والهوية، والجنسية، والطبقة، والمهنة، والإعاقة، والعمر، والهوية الجنسية، وغير ذلك من جوانب الهوية.
بل إن النساء المتحولات هن الأكثر عرضة للتحرش والتمييز والعنف، لأن عناصر الشرطة يستدعونهن بتهمة التشبه بالنساء. ويرصد تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش العنف الذي تتعرض له النساء المتحولات في الكويت من خلال قضية مها المطيري، والانتهاكات التي تعرضت لها من قبل السلطات، إذ «اغتصبوها وأبرحوها ضربًا خلال احتجازها في سجن للرجال لسبعة أشهر في 2019 بتهمة التشبه بالجنس الآخر».
تشجيع النساء على التبليغ مسؤولية تتطلب التغيير
بحسب تقرير مشروع إصلاح القانون الذي أعدته مؤسسة ويست كوست ليف في كندا، والذي يطرح تجارب النساء والعوائق التي تحول دون الإبلاغ عن الاعتداء الجنسي، حددت النساء المشاركات في البحث ستة اقتراحات واعدة من أجل التغيير لتحقيق العدالة في الاعتداء الجنسي والعنف:
- توعية جميع العاملين في القضاء ومراكز الأمن وتدريبهم، من خلال مناهج الرعاية المستنيرة للصدمات.
- تعيين وتدريب موظفين مختصين في مراكز الأمن وخدمات الدعم التي تركز على المعنفات، وتزويدهن بمصادر دعم وحماية جيدة.
- تطبيق الممارسات المهنية في التعامل مع الاعتداء الجنسي وقضايا العنف، ويتطلب ذلك تغييرات في عملية صنع القرار لدى رجال الأمن.
- تطوير عمليات نظام العدالة الجنائية وإيجاد حلول بديلة.
- تطوير الدعم للناجيات، وتوفير الخدمات الصحية والاجتماعية، وتوفير المعلومات لهن، وتيسير التواصل مع مكاتب المحاماة.
- زيادة مستوى الوعي العام حول التحرش والاعتداء الجنسي، والخيارات المتوفرة للناجيات، ومخاطر الإبلاغ وفوائده، والخطوات القانونية.
في حين تتعرض النساء لشتى أنواع التحرش والعنف، تتحفظ الكثير منهن على الشكوى خوفًا من الانتهاكات التي قد يتعرضن لها من قبل رجال الشرطة، بينما تستطيع أخريات اللجوء للسلطات دون تردد. إضافة إلى ذلك، لا توجد مراكز إيواء للنساء المعنفات، وفي حال تقديم المرأة شكوى فلن تلقى مكانًا آمنًا أو حماية أو رعاية. فهل دعوة النساء إلى التبليغ عن العنف والتحرش واقعية؟ هل الدعوة للشكوى تعد تعاليًا على واقع صعوبة الشكوى نفسها؟
يجب على العاملين في مجال حقوق المرأة أن يتخذوا خطوات فعلية لتغيير أنظمة العدل والأمن، وإيجاد بدائل أكثر استجابة لتلبية احتياجات الضحايا والناجيات، لأن تشجيع النساء على التبليغ عن العنف مسؤولية. لا يمكن أن نطالب المرأة بكسر حاجز الصمت، ومن ثم نتجاهل أو نتغاضى عن تعرضها لعنف أكبر، أو لخطر التشرد دون مأوى. حان الوقت لتفكيك الحواجز التي تحول دون الإبلاغ عن الاعتداء الجنسي والجسدي، وتوفير البيئة المناسبة لتكون كل امرأة محمية بشكل فعال من العنف.